قصيدة " كوليرا " لنازك الملائكة وقصيدتا " كوليرا " أجنبيتان

 ( دراسة مقارنة يقدمها أ.د. سعيد شوقي ) 

جزء1 




قصيدة " كوليرا " لنازك الملائكة وقصيدتا " كوليرا " أجنبيتان ( دراسة مقارنة يقدمها أ.د. سعيد شوقي ) جزء1


 توطئة :


 لقصيدة " الكوليرا "شهرة جدلية ذائعة في تاريخ نقدنا العربي الحديث ؛ وذلك لتلازمها وزخم معركة الشاعرة نازك الملائكة ، في إثبات – كما تدعي - سبقها وريادتها لإيقاع قصيدة الشعر الحر . وربما كان دفق غبار هذه المعركة ، هو الذي أخفى عن الأنظار ، وجود " الكوليرا " في القصيدة ، بوصفها " ثيمة " تستحق التوقف لذاتها ، في زمنها ، بعيدا عن سؤال الريادة الإيقاعية ، لاسيما ووجودها في شعرنا العربي الحديث ، يكاد يكون استئنافا جديدا ، في ظل دفق شعري حديث ، لا يولي " لثيمات " المرض اهتماما كافيا ، اللهم إلا إذا كانت على مستوى شخصي ؛ فضلا عن قديم يمارس الفعل نفسه ؛ فحتى زمن نازك الملائكة لم تتبد ناتئة شهيرة – فيما نعلم - سوى قصيدتين عن المرض ، في محيط شعرنا القديم والحديث ، إحداهما للمتنبي عن الحمى ، والأخرى المساء لخليل مطران.

 والحق أنني توقفت أمام ذلك مليا ، ليس فيما بدا فيما سبق من تجاهل ولكن لسبب آخر ، وهو أن نازك الملائكة لم تعان مرضا شخصيا ذاتيا في قصيدتها . الوضع الذي جعل قصيدتها تمثل نقلة نوعية في شعرنا الحديث ، في الانتقال من الحس الذاتي للمرض ، الذي تتميز به شعرية المرض في تراثنا الشعري، إلى الحس الغيري ، خلافا لسابقيها . فالمتنبي في قصيدته ، رغم أنه كان يعاني نوعا من الحمى النفسية والفكرية ، إلا أن معاناته الأساسية تجسدت في حالة ذاتية لمريض بالحمى ، كذلك كان حال خليل مطران في قصيدته ، فرغم أنه كان يعاني تصدعا نفسيا تحت وطأة الهزيمة في الحب والحياة ، إلا أن معاناته الأساسية أيضا تجسدت في حالة مرضية ذاتية. 

والسؤال الذي أحاط بي ، هو : هل ما صنعته نازك الملائكة في هذه النقلة ، تم بالأصالة عن شعرها ، مثلما كان هو الطرح ، حين ادعت أن ريادتها الإيقاعية في القصيدة نفسها ، تمت بحتم نفسي إيقاعي ، وبداهة دفق وجدانية منها ؟ إن دورانا في شعرنا العربي القديم - على ما استطعنا القيام به من مسح - قد لا ينجزنا بإجابة ناجعة ، تضع الأصالة في موقعها الصحيح . لكن اقترابا من الشعر الأجنبي الذي كتب بالإنجليزية - على ما استطعنا القيام به من مسح أيضا– أمكن له أن يقدم لنا إضاءات دالة في هذا الشأن ؛ نهض على أساسها هذا البحث ، لاسيما وكل الدلائل تؤكد أن نازك الملائكة تتقن اللغة الإنجليزية إتقانا تاما. فلقد وجدنا قصيدتين أجنبيتين بلغة إنجليزية ؛ إحداهما بريطانية ، والأخرى أمريكية، تتخذان من العنوان نفسه لقصيدة نازك الملائكة " الكوليرا " عنوانين لهما . 

منهج المقارنة : لمقاربة نصوص الأدب المقارن ؛ ثمة مناهج مدارس ثلاثة للأدب المقارن ، هي : الفرنسية والأمريكية والسّلافية ، ذكرنا بعض سمات منها في الفصل السابق . ولا خلاف في أنه من السهولة بمكان بدايةً ، استبعاد منهج المدرسة السّلافية في مقاربة هذا البحث ؛ على خلاف البحث السابق ؛ وذلك لأن قصيدة نازك الملائكة لم تخرج ضمن منظومة تطور حضاري بين شعوب منعزلة عن بعضها البعض ، عبر تشابه نمطي أو تيبولوجي؛ باعتراف الشاعرة نفسها بشدة ارتباط ذخيرتها الإبداعية بالمبدع الغربي ، كما سيبين ، الحال التي تختلف عن الفصل السابق في انبناء أصيل لمسرحية الأميرة تنتظر لصلاح عبد الصبور وكذلك العاصفة لشكسبير على عناصر شعبية وحضارية ماضية بين الأمم والشعوب ، كما بيَّنت آراء أساتذة من تعرضوا للمسرحيتين بالدراسة ، كما ذكرنا ؛ لكنه ليس من السهولة بمكان تحديد منهج قاطع صارم في هذا البحث ؛ ينتصر لإحدى المدرستين المتبقيتين ؛ الفرنسية والأمريكية ؛ ذلك أنه يستحيل القطع بعدم وجود صلة - حتى ولو على مستوى الإطلاع - كما يذهب منهج المدرسة المقارنة الأمريكية ، بين نازك الملائكة والقصيدتين الأجنبيتين، وفي الوقت نفسه يستحيل الجزم بوجود صلة دامغة ، كما يذهب منهج المدرسة المقارنة الفرنسية ، بين نازك الملائكة والقصيدتين الأجنبيتين؛ لاعتراف نازك الملائكة نفسها أنها تتقن الإنجليزية وأنها اطلعت على آدابها ، كما سيبين .

 لكن إن كنا سنأخذ بالقرائن المؤشرة الدالة ؛ فالمنهج الفرنسي هو الأقرب للممارسة في هذا البحث ، رغم أن أخص شروطه – كما ذكرنا في الفصل السابق - في إثبات الصلة في التأثير والتأثر بين مشابهات النصوص موضع المقارنة بما عُرف نقديا بالصلات التاريخية أو الوقائعية أو السبب الذي يؤكد اطلاع أديب في لغة ما على أعمال أديب في لغة أخرى ومن ثم تأثره به؛ لا تتوفر فيه بالدمغ التطبيقي الذي يحقق تنظير منهجه ، كما أشرنا .

 وتتمثل القرائن في كشف الشاعرة في أربعة مواضع من مدونتها السِّيَرِيَّة : " لمحات من سيرة حياتي وثقافتي " ، التي نشرتها في مقدمة ديوانها : يغير البحر ألوانه ، سلسلة آفاق الكتابة (20) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998م؛ أنها كانت تتقن اللغة الإنجليزية باقتدار ، وتعنى مليا بقراءة أدبها ، قبل زمن كتابتها لقصيدة الكوليرا عام 1947م ، كما يلي : في الموضع الأول ، تقول : " وكنت منذ صغري أحب اللغة العربية والإنجليزية ". وفي الموضع الثاني ، تقول : " وقد بدأت أمي تتجه نحو الشعر الحديث إلى درجة ملحوظة ، وكانت تعجب خصوصا بشعر إبراهيم ناجي وصالح جودت ، ولكن اتجاهاتي الشعرية بقيت مختلفة عن اتجاهاتها ، بسبب معرفتي للإنجليزية والفرنسية وكثرة قراءتي لشعرائهم ". في الموضع الثالث : تقول : " وأما اللغة اللاتينية فإن قصة دراستي لها كانت أغرب ، فقد كنت طالبة في قسم اللغة العربية وكنا ندرس الإنجليزية ...". 


في الموضع الرابع : تقول : " بدأنا إذن ، أنا ونزار ندرس الفرنسية من دون مدرس وذلك اعتمادا على كتاب إنجليزِي يعلم هذه اللغة ، أهدانا إياه عمي ". ثم تتوالى وتتعمق إثباتات الصلة باللغة الإنجليزية بعد ؛ فيتوجه حديث نازك الملائكة السيري ، بطريقة Flash back ، صوب ذكرياتها في إتقان ا ·

Post a Comment

أحدث أقدم