د. محمد غنيم يكتب: عبد الوهاب وفيروز ولآلئٌ ثلاث
د. محمد غنيم يكتب: عبد الوهاب وفيروز ولآلئٌ ثلاث |
د. محمد غنيم
بعد نجاح الأخوان رحباني في نهاية الخمسينات من القرن الماضي في إعادة تقديم وتوزيع روائع من ألحان سيد درويش الأب الروحي للغناء العربي في القرن العشرين: " زوروني كل سنة مرة – طلعت يا محلا نورها – الحلوة دي قامت تعجن في البدرية - عطشان يا صبايا دلوني عل السبيل – وموشح يا شادي الألحان من كلمات وألحان الشيخ سيد درويش "، مع ادخال بعض التعديلات على نصوص الأغاني الثلاث الأولى، والتي حققت نجاحًا شعبيًّا وتجاريًّا كبيرًا، دفع ذلك الموسيقار محمد عبد الوهاب في أن يطلب من الأخوان رحباني إعادة توزيع ثلاث أغنيات من أعماله القديمة لتغنيها فيروز كما فعلا مع سيد درويش، وما لبثت أن صدرت تلك الأعمال عام 1961م من خلال شركة «صوت الفن»، التي كان عبد الوهاب أحد مؤسسيها، وهي أغنيات : «خايف أقول اللي في قلبي»، و«ياجارة الوادي» بينما لم تتمكن فيروز من تسجيل «مريت عل بيت الحبايب".
وربما كانت هذه حيلة من عبد الوهاب، كما يرى البعض، "لتذكير الناس بصوته القديم بدعوى إظهارهما في إطار جديد من التوزيع الموسيقي باختيار مطربة كمشهورة ومحبوبة على مستوى الوطن العربي، وإقناعها أن تغني أغانيه القديمة، حتى يعود الناس إليها، وهو ما حدث بالفعل و"ليبرهمهم إمكانات صوته العظيم والفرق الواضح بينها وبين إمكانات الصوت النسائي الذي يقلده الآن بعد مرور أربعين عاماً، وكسب عبد الوهاب من جميع الوجوه من وراء فيروز والأخوين رحباني".
ومع تسلمينا بحقيقة هذا الادعاء أو عدم تصديقنا له، وإنما ما يمكن تصديقه أنه لم تكن فيروز ولا الأخوان رحباني يفوِّتا فرصة تعاون فني بينهم وبين العملاق عبد الوهاب، الذي افتتنوا به وبصوته وألحانه منذ طفولتهم، في ظل وجود رغبة واعجاب من عبد الوهاب نفسه بصوت فيروز، والأسلوب الرحباني في التلحين، فكان هذا التعاون بين عبد الوهاب والأخوان رحباني، ثم كان التعاون بينه وبين صوت فيروز مرة أخرى، ليكون الملحن المصري الوحيد من مدرسة التلحين المصرية الثرية والغنية، الذي لحن لفيروز، فقد دخلت فيروز مع عبد الوهاب في تجربة فنية امتزجت فيها الموسيقى الوهابية مع الصوت الألماسي الفيروزي في ثلاثة ألحان رائعة، أولها أغنية "اسهار" من كلمات الأخوان رحباني وباللهجة اللبنانية، وكان تلحينها تحدٍ كبير لعبد الوهاب، وربما لم يكرر ملحن مصري آخر هذه التجربة.
ولهذه الأغنية قصة طريفة، فقد كان عبد الوهاب في زيارة إلى لبنان ودعاه الأخوان لزيارتهما، فجمعتهم سهرة في منزل عاصي الرحباني، وفي نهاية السهرة استأذن عبد الوهاب للانصراف فحاول عاصي الرحباني ثنيه عن المغادرة قائلاً له بلهجة لبنانية: "سهار بعد سهار تا يحرز المشوار "، وما كانت مثل هذه الكلمات ذات الايقاع أن تمر مرور الكرام على أذن عبد الوهاب اللاقطة، فيطلب من عاصي إكمال ما قاله، فيتابع الرحباني قائلاً:
كتار هو زوار .. شوي وبيفلّوا .. وعنّا الحلا كلّو .. وعنّا القمر بالدار.. ورد وحكي وأشعار.. بس اسهار"، ليغادر بعدها عبد الوهاب منزل الرحباني وتبقى هذه الكلمات متشبثة بخاطره وتأبى أن تغادر خياله وذهنه، في ذهنه طيلة الليل، حتى سهر ليلته وهو يقوم بتلحينها، وفي اليوم التالي ذهب الى منزل عاصي ليسمعه ما لحّن، ليضيف إليها الرحباني مقطعاً جديداً: بيتك بعيد وليل ما بخلّيك .. ترجع، أحقّ الناس نحنا فيك .. رح فتّح بوابي ..وإنده على صحابي.. قلّن قمرنا زار .. وتتلج الدني أخبار .. بس اسهار.. والنوم مين بينام غير الولاد .. بيغفوا وبيروحوا يلملموا أعياد .. ما دام إنّك هون .. يا حلم ملو الكون .. شو همّ ليل وطار .. وينقص العمر نهار .. بس اسهار". وهكذا خرج اللحن الأول من ألحان عبد الوهاب للسيدة فيروز، وهو لحن له نكهة الرحبانية في الإيقاع، الذي ربما فرضته كلمات الأغنية ذات الأصل الرحباني. وقد أبدى عبد الوهاب في برنامج "النهر الخالد" اندهاشه من حرف التاء في مطلع الأغنية "سهار بعد سهار...ت يحرز المشوار"، الذي يقوم مقام كلمة "علشان" في اللهجة المصرية، وأبدى إعجابة باللهجة اللبنانية وقدرتها على التعبير بحرف واحد عن معنى كلمة كاملة.
ثم كان التعاون الثاني والثالث بين عبد الوهاب وفيروز في قصيدتين من أروع ما غنت فيروز من قصائد، ومن أروع القصائد العربية الملحنة، هما: قصيدة "سكن الليل" لجبران خليل جبران، وقصيدة "مُرَّ بي" للشاعر اللبناني سعيد عقل، ويقول عنهما الناقد الفني والموسيقي الفلسطيني اللبناني "إلياس سحاب" في مقالة له في مجلة العربي الكويتية، عدد يونيو 2007م، تحت عنوان" "حنجرة فيروز ..حساسية وجماليات معتقة"
"إن مَن يستمع بإمعان إلى هذين اللحنين الأخيرين "سكن الليل" و"مربي"، يشعر كأن حنجرة فيروز المليئة بالجواهر، قد وضعت أخيرًا بين يدي أمهر صاغة الموسيقى العربية في القرن العشرين، فاستخرج منها أجمل ما في أعماقها من أحاسيس، وأجمل ما في حنجرتها وأدائها من حلاوة وعذوبة وشفافية، ثم طعّم كل ذلك بخلاصة حساسيات الأسلوب الوهابي في الغناء، الذي يبدو بكل وضوح في حنجرة فيروز، خاصة في لحن "مرّ بي" ، إن الإصغاء إلى عُرب عبدالوهاب الظاهرة - الخفية، في مقدمة القصيدة بالذات، ثم في بقية مقاطعها، ثم الوصول إلى البيت الأخير في القصيدة عند عبارة "إن تعد لي"، يصاب بموجات متلاحقة من قشعريرة المتعة الفنية الرفيعة، ويكتشف أن عبدالوهاب قد استخرج من حنجرة فيروز، في عبارة "إن تعد لي "، من خلال صياغته اللحنية، ثم من خلال تدريباته الغنائية في تحفيظ اللحن، أجمل انتقال ربما في رصيد فيروز الغنائي بين طبقاتها الصوتية المنخفضة وتلك المرتفعة، خاصة عند كلمة "لي" بحساسية مذهلة، قبل انفجار القفلة الرائعة لحناً وأداءً، عند عبارة "أشعلت بردى"، لقد وصلت قدرة عبد الوهاب الملحن على استعراض كل ما في أعماق حنجرة فيروز واحساسها ووجدانها الفني من جماليات معتقة ومخمرة ذروة ما عاد يمكن بعدها لحساسيات التوازنات الفنية الشبيهه بالتوازنات السياسية أن تسمح باستمرار تدفق ألحان عبد الوهاب من خلال حنجرة فيروز " .
وتوقف التعاون بعد هذه الأعمال الرائعة، وقد سئل عبد الوهاب، كما يذكر رياض جركس في كتابه "فيروز المطربة والمشوار"، عن اسباب توقفه عن التلحين لفيروز بعدها بعدة اعوام وفي بيروت فأجاب :"إن فيروز مطربة عزيزة على قلبي وأتمنى لو تتكاثر اللقاءات بيننا ولكن الأخوين رحباني يتدخلان فيما أقدم وهذا شئ لا أقبله، إن الأخوين رحباني في تعاونهما مع أي ملحن لاينسيان واقعهما فيتدخلان في كل صغيرة وكبيرة ويحاولان فرض رأيهما ولكن تدخلهما يربك العمل في بعض الأحيان، فمن ناحية بدء التعامل فإنهما يشترطان على أن تكون كلمات الأغنية من تأليفهما أو على الأقل أن يوافقا عليها، وأن يشرفا بنفسيهما على التوزيع الموسيقي وهما ماهران في هذا الحقل وبارعان، ولو أن المسألة تتوقف عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنهما من خلال متابعتهما للأغنية وهي في طور التكوين الموسيقي يحدث أن يتدخلا في اللحن وينتقدانه إذا لم ترقهما بعض الجمل الموسيقية. إن الرحبانيين إذا ما غنت فيروز من ألحان سواهما من الملحنين يشعران بخطر يقدمان عليه، وهذا هو الشعور بالمسؤلية الي حد ما فهما متفوقان في أعمالهما ولهما لونهما الخاص لذلك يخشيان على فيروز من خلال تعاونها مع أحد غيرهما أن تخرج عن شخصيتها الغنائية المعروفة، وبطبيعة الحال فإن هذا الخوف يتعب الملحن الآخر الذي يصوغ اللحن لها ويضايقه".
وهكذا توقف التعاون بين الصوت الألماسي والملحن العبقري، واكتفت سجلات الذاكرة الغنائية العربية لهذا التلاقي الفريد القصير بتلك الروائع القليلة والنجوم اللامعة في سماء الأغنية العربية "اسهار" و"مُرَّ بي" و"سكن الليل"، ليتأكد لنا، نحن كعرب، مبدعين وغير مبدعين، أننا نفتقر كثيراً إلى ثقافة الاستيعاب والتلاقي والتعاون، وكم نخسر بسبب هذا
د. محمد غنيم يكتب: عبد الوهاب وفيروز ولآلئٌ ثلاث |
فيروز و عبد الوهاب
إرسال تعليق