(نافذةٌ على عالم المشاعر )
دراسة نقدية للمجموعة القصصية فنجان قهوة ب 7 جنيه للكاتبة صفاء عبد المنعم
بقلم عبير العطار
تقول الكاتبة صفاء عبد المنعم في قصتها (في قلبي غرام مصبرني): أخذت الرشفة الأولى من فنجان القهوة، كانت بطعم(الحنين).
والرشفة الثانية بطعم(الفقد).
أما الثالثة فكانت بطعم(التمني).
وهذا مفتتح الحكاية فحين تقرأ لها يهيأ لك أنك بصدد قراءة سهلة رغم اللغة السلسة التى تستخدمها في قصصها، لكنها ترمي بحجارةٍ قوية في مياه قصصها ليتحول بك السياق الراكد إلى تنبيه لكل الحواس فهي لا تكتب من أجل الحكاية إنما تكتب بقصدية هذا التنبيه وهو ما يفعله فنجان القهوة بالجهة المقابلة،فالحياة بالنسبة للكاتبة كاللوحة المعلقة في الطرقات وهو تشبيه اقتبسته منها من قصة الغريب؛ وقد لفتني سؤال من عدة أسئلة مطروحة داخل المجموعة :"هل نحن أموات بالنسبة لآخرين" ..يحتاج السؤال العميق توقف عند محطات كثيرة تؤدي بنا ربما إلى نصف إجابات أو لا اجابة كما علينا أن نتوقف عند أسئلتنا النفسية اللانهائية.
صفاء عبد المنعم |
ترتكز الكاتبة في قصصها على الواقعية لكنها تحلق في إطار بعيد عنه في نفس الوقت ،بحيث تحتفظ بتوسط المسافة فيما بين الخيال والواقع.
المكان والزمان عنصران مهمان بل أوتادا تدقها لصناعة هذه المجموعة..تعيش حالك وحال آخرين من خلال الموضوعات المطروحة كحرب لقمة العيش،الحروب التى استنزفتنا،الغلاء الذي أودى بنا لأن يكون فنجان القهوة ب 7 جم وربما الآن أكثر،صفاء لا تفصح عن السياسة بوضوح وتجلي بل بالعكس تغزل تلك الخيوط الصامتة وربما الغاضبة في نسيج قصصها وعليك أن تنظر بتمعن لما ترمي إليه بعينيها اللتين لا تكفان عن التعبير.
وتستغرب أن صمتها الظاهري لا يوشي أبدا بكل تلك القدرة الهائلة على الكتابة الهادفة فحديثها لا يخلو من عناصر حياتية مهمة:
1- الصمت وأهميته وقد تحدثت عنه في 24 موضعا: وأحيانا ارتبط التصاق الصمت بالهدوء فتكررت الجملة في ثلاث مواضع فتقول في قصة فيلم قصير (لقد رأت هذا المشهد مرات عديدة وهى ذاهبة إلي العمل صباحا ،الناس تمر من حوله فى هدوء وصمت) ،هي ذاتها في قصة روح وأيضا في قصة الخوف رغم أن الهدوء تسيد 14 موضعا من قصصها.
2- النافذة ودورها المحوري في حياة الشخص الذي فقد قدرته على الاختلاط ومال إلى عزلة المتأمل لكنه يرى العالم من خلال نافذته،وتكرر في 17 موضعا من قصصها. مثال في قصة تيرسياس(كثيراً أضبط نفسي تقريباً وأنا أضع لها شريطاً كاملاً داخل المسجل القديم وأجلس بالقرب من النافذة، أستمتع بصوتها الهادئ).
3- الغيط وهو مرجعية الكاتبة وجذورها وتأسيسها الثقافي من خلال حكايات الجدة والأم..في بدايات الطريق. وكيف تحولت القرية إلى غابة من الاسمنت المسلح حسب تعبيرها.
4- الدموع التى تكررت في قفل الحكاية مثل: علبة مارلبورو فتقول( كانت الدمعة المعلقة فى عينيها قد نزلت على خدها) في قصة الغريب(مسح الدمعة بأطراف أصابعه، وأخذ يضحك فى صمت مرير). وفي قصة ساعة في قرب الحبيب (وسقطت من عيني دمعتين على ظهر القطة النائمة أمامى).
المرجعية الثقافية للكاتبة
وهي غنية بقراءاتها في كل المحاور وهذا ما أسميه الحجر الذي تلقيه داخل كل قصة:النمل،ديستويفسكي، تيرسياس ،سلفادور دالي،إبراهيم باشا ،صالة امفتريون،شهر النكسة وسنتها (6/67)،الأغاني وتأثرها بها:عبد المطلب ،فريد الأطرش ،نجاة وغيرهم.
غلاف كتاب فنجان قهوة ب7 جنيه |
كيف وظفت المبدعة تلك المرجعيات في قصصها فمثلا:
1- أسطورة تيريسياس الذي جاء في الأساطير اليونانية كنبي أعمى للإله أبولو في مدينة طيبة، اشتُهِر باستبصاره وتحوله إلى امرأة لمدة سبع سنوات. بقى عنده المعرفة اللي تقدر تجمع بين الذكورة والأنوثة.. وبمنحه القدرة على التنبؤ، تيريسيوس صارعنده المعرفة اللي تستطيع الجمع بين الحاضر والمستقبل، غير قدرته على الجمع بين لغة البشر والطيور وبين البصر والبصيرة وبين الحياة والموت
واستخدمت الأسطورة هنا للثورة على المألوف،فاستطاعت مزج أسطورة المغني الضرير( مع أنه في الأسطورة نبي) واستبصاره للمستقبل بحابي ملك السعادة عند الفراعنة بقصتها حول النيل والنغم الأصيل،ونجاة التي لم تكن تحب صوتها ثم أدمنته لاحقا مع فنجان قهوتها.
2- الزرافة المحترقة لسلفادور دالي والتي ورد ذكرها في قصة (علبة مارلبورو) وهي لوحة موجودة بمتحف الفن في مدينة «بازل» السويسرية،وهي من أدل لوحاته على فنه المتطوِّر من مرحلة إلى مرحلة وهي تعطي انعكاسا لنفسية إمراة احترقت من فراق الأحبة كاحتراق تلك الزرافة الأفريقية وكيف جاء صدق وصف الشاعر "بييت برشبيل" الذي استلهم قصيدته من اللوحة للدلالة على ماكانت ترمي له الكاتبة حين قال: كثيرًا ما أتمنَّى
أن أحتفظ معي بالزمن،
كما أحتفظ بيقين الموت،
كزرافة محترقة،
مختلجة بالذكريات.
3- 1922أمفتريون – Amphitryon» وهو شخصية أيضا من الأساطيرالإغريقية٬ وكان على حسب الأسطورة قائد من طيبة
استخدم الاسم صاحب كافيتريا في مصر الجديدة وكان يعتبره الكثيرون مكانا للقاء الأحبة حسب ترجمة الاسم.
كان مكانا جميلا ينسيك الواقع حتى أتت الحرب .. ليست الحرب العادية بانتصاراتها وانهزاماتها بل حرب الجري وراء لقمة العيش وهو صراع بين الغفوة والإفاقة كيف وصل بنا الحال إلى هذا المآل؟
4- هابرماس الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع المعاصر وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي،عمره الآن 94 سنة وله اضدارات متنوعة وذلك في قصة أمي لا تعرف هابرماس وهو الذي يرى أن فعل التواصل لابد أن يكون مبنيا عبر نقاش حر عقلاني وهو ما تعالجه القصة حيث التابع والمتبوع ( المشارك والمتفرج) ومحاولة ربط تحول الكاتبة الربط بينه وبين رغبة الفيلسوف في التحرر من التذبذب بين التفاؤل والتشاؤم ويركز جل تفكيره بدلاً من ذلك على تحليل الفعل والبنى الاجتماعية.
ويرى أيضا أن عملية التنوير لها جانبان: يتضمن أحدهما فكر البناء الهرمي والاستبعاد، في حين يحمل الجانب الآخر إمكانية إقامة مجتمع حر يسعد به الجميع على الأقل.
ثمة نظام أخلاقي ضمني يحاول هابرماس الكشف عنه، وهو الأخلاق الكلية الذي لا يتوجه إلى تحليل مضمون المعايير بقدر توجهه إلى طريقة التوصل إليها، وأيضا العقلانية بهذا المعنى ليس مثالا نقتنصه من السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، وهي تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً لا يستبعد أحداً.
في النهاية إذا كان فنجان القهوة ب 7 جنيهات يستطيع أن يخرج تلك الطاقة الابداعية التى تسكننا فلا مانع من احتساء المزيد منها كي نحافظ على قوة القلب وصموده أمام هذا العالم الغارق بالمتناقضات.
إرسال تعليق