أسباب للشروع في البكاء
إلى: عمرو الشامي
بانوراما أدبية: أسباب للشروع في البكاء، إلى: عمرو الشامي، قصة قصيرة، محمد إبراهيم طه -نقد- فن كتابة القصة- فنون الكتابة- قصة قصيرة، شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، كتب، كتاب.
(1)
حتى لحظة جلوسي أمام الضابط لم أكن مقتنعا بأي من الفكرتين؛تحرير بلاغ أو اقتناء عصا، لكن منظر زوجتي النائمة في سلام في عهدتي بينما أنا غير متأكد من حمايتها هو الذي دفعني إلى المجيء،فالطرقات العنيفة على بابي تزداد كل ليلة، أفتح فلا أجد أحدا، وأنا رجل يتجنب الذهاب إلى القسم لا أعرف لماذا، كما أرى العصا للراعي والمعلم والشيخ لا للشاعر خاصة إذا كان مثلي حالما وحزينا، لا يميل بطبيعته إلى العنف،فيما ترى زوجتي ذات الوجه البريء كوجه طفل أنه من الضروري أن يكون لدى المرء عصا، حتى لو مرت سنوات دون الاحتياج إليها، وكنت قد نجحت من دون عصا في مواجهة من وقفوا في طريق زواجي منها، وتغلبت على نظراتهم غير المريحة في الشوارع، وتعليقاتهم التي كنت أسمعها بأذني معقبة بين الحين والآخر على أنفي الكبير أو أسناني البارزة.
أسباب للشروع في البكاءإلى: عمرو الشامي قصة قصيرة، محمد إبراهيم طه |
قصة: محمد إبراهيم طه
من مجموعة قصصية بعنوان الأميرة والرجل من العامة
حتى بعد أن تطورت النظرات والتعليقات إلى شتائم فجة وبذيئةأسمعها واضحة،لم أفكر مجرد التفكير، في تغيير قناعاتي واللجوء إلى إحدى الفكرتين وإن ظللت أتعجب من هذا العداء غير المبرر تجاه رجل مسالم وحزين، لم يمسك عصا في حياته ولم يلحق أذى بأحد،وما إن شعرت زوجتي بأعراض الحمل،ونبهتني إلى ضرورة شراء ملابس للمولود حتى تصاعدت التهديدات،فسقطت واجهة بلكونة أمام قدمي بعد يوم من التهديد بنسفي وإخفائي من الوجود، ونظر رجل في ساعته وانصرف، وانقضَّ جدار كنت أحتمي به من القيظ وسألني شخص عن الساعة فقلت: "عشرة إلا عشرة"، وحين أرجأت عبور الطريق موسعا لقطة بيضاء خائفة، دهمتها سيارة مسرعة، ودقت ساعة الميدان العاشرة، فسألني نفسُ الشخص بإلحاح إن كانت قد مرت عشر دقائق على سؤاله الأول لأنه على موعد، ولما لم أجبه، تدفق من فمه سباب مبالغ فيه، واندفعت إلى الميدان كلاب ضالة من أكثر من جهة.
لا أعرف ما الذي كان علي أن أفعله وأنا أرى التلميحات والشتائم تتطور بسرعة إلى طرقات أسمعها بوضوح على بابي في منتصف الليل، وحين أفتح لا أجد أحدا، لكنني أسمعهم يتهامسون بشأني،ويفاضلون بين إنهاء حياتي أو حياة زوجتي وطفلي قبل الثالث والعشرين، كانت التهديدات موجهة دائما لي، لكنها المرة الأولى التي يتم الزج بها في الأمر وهي نائمة في براءة بعد أن أخبرتها أنني عثرت على محل ملابس أطفال حديثي الولادة، ولم تكن تشعر بالطرقات من قبل، لكنها سمعتها بالأمس، فقامت مفزوعة، وقالت: من؟ فتحتُ الباب كالعادة، وظللت بالخارج فترة ثم عدت إلى الداخل وقلت: لا أحد، وأغلقت الباب، فقالت لكنها سمعت همهمة ولغطا بالخارج، فلم أقل إنه نفس الرجل الذي كان ينظر في الساعة لحظة انهيار البلكونة،والآخر الذي سألني عنها بعد أن دهمت السيارة القطة، جاءا لتخييري بين أمرين؛ حياتي أو حياة الزوجة والطفل، وحذراني من المراوغة، فإن حدث ونجوت فلن يكون بوسعي أن أشهد لحظة الولادة،حدقت زوجتي بإمعان في عيني غير مصدقة، فأكدتُ مرة أخرى أنه لا أحد، فاطمأنت وأوصتني وهي بين النوم واليقظة ألا أنسى ملابس الطفل، وقالت إن المحل اسمه "بامبينو" فعلا، وابتسمت شفتاها وقالت إنه قبل شارع البحر أو بعده بقليل، فظللت وأنا أحدق طوال الليل في ملامحها البريئة أراجع جدية التهديدات الأخيرة حتى بزغ النهار،فشرعت وحدي في البكاء وخرجت.
(2)
ناولني الضابط الذي فتح البلاغ منديلا ورقيا وسألني:
ـ ولم يهددوك؟
ـ يلمحون لي بترك البيت.
ـ لماذا؟
ـ لا أعرف.
ـ بيتك؟
ـ نعم، ومثبت في البطاقة.
ـ أوراقه سليمة؟
ـ نعم، إرث شرعي، وقائمة قسمة، وإيصالات نور ومياه وغاز.
ـ غريبة.. لماذا يفعلون ذلك؟
ـ لا أعرف، وتزيد تهديداتهم كلما اقترب موعد الولادة.
ـ كم عمرك؟
ـ مكتوب عندك في الرقم القومي!
ـ وعمر الزوجة؟
ـ 29.
ـ والطفل؟
ـ سيأتي في الثالث والعشرين.
ـ وكيف عرفوا بأمره؟
ـ يرون بطنها وهي ترتفع خلف العباءة.
ـ هل سبق لك أن اعتديت عليهم أو هناك مشاحنات سابقة.
ـ مطلقا، وكما تعرف فالشاعر والموسيقي لا يعتديان على أحد.
ـ هل أصابك، أو أصاب الزوجة، أو الطفل مكروه؟
ـ وهل أنتظر حتى يقع المكروه؟
ـ خلاص يوم 23 يحلها ربنا!
لا أعرف لماذا كنت غير مستريح لفكرة البلاغ، وأول شيء فعلته عقب مغادرتي القسم، اقتنيت عصا، والغريب أنني لوحت بها في الهواء يمينا ويسارا،ثم أمسكتها بكلتا يدي ورفعتها بغتة لأعلى كلاعب تحطيب يتجنب ضربة في وسط رأسه من لاعب آخر، فخفتت الأصوات وامتنعت التعليقات النابية، وتراجعت الكلاب الضالة وإن عاودت النباح من مسافة بعيدة، ولم يسألني أحد بإلحاح عن الساعة،لكنني رأيت شخصا يؤكد على شخص آخر في الهاتف على ضرورة أن يخرج الولد إلى الدنيا يتيما، وحين حدقت في ملامحه وجدته محام يقف خارج فناء المحكمة يضغط الهاتف إلى أذنه جدا وبسبابته الأخرى يصر كأنه يتوعد موكله على الطرف الآخر ويحدق في الأرض، كما لفت نظري في الأهرام عند بائع الجرائد خبر عن إغلاق قسم الولادة بأقرب مستشفى لمدة شهر للتجديدات يبدأ من يوم 20، وعثرت على محل " بامبينو" لكنه كان مغلقا للصلاة،فاشتريت من بائع جوال يحمل الملابس المدلاة على ذراعه، ومررت بزحام في الشارع، وحين اقتربت وجدت أنه مزاد على 23سيارة إسعاف كهنة في أرض فضاء تابعة لمديرية الصحة.
سألت رئيس المزاد عن عدد السيارات التي في الخدمة،فلم يرد علي، واستهجن المزايدون السؤال،فلم أعرف إذا كانت هناك علاقة بين ما يحدث أمامي وأغنية"جرحوني وقفلوا الأجزخانات" التي تصدح من جميع المحلات،أو انقطاع الكهرباء وزيادة فترات الإظلام، والإلحاح الزائد في شريط الأخبار على انقطاع المياه وحث المواطنين والمخابز والمستشفيات على تدبير احتياجاتهم خلال فترة الانقطاع التي ستستمر طوال يومي 23 و24 من الشهر، ومرور بلدوزرات بكثافة أكثر من المعتاد في الحي، لم أكن أعرف على وجه التحديد، لكنني حين طرقت الباب بطرف العصا، ورأت زوجتي ملابس الطفل، ارتمت في حضني، وقالت: أخيرا؟! فلم أعرف إذا كانت تقصد العصا أم ملابس الطفل.
وحين أخرجت الطاقمين وفردتهما، سألتني ألم يكن هناك أطقم أخرى ملونة، فلم أخبرها أن "بامبينو" مغلق لليوم الثالث على التوالي، والملابس على ذراع البائع المتجول كلها بيضاء؛ الجلباب، والطرطور والجوارب، والقفازات، فقالت بأسى: غريبة!، واختنق صوتها، ففهمتُ ساعتهاأن الرسالة التي يصرون على توصيلها طوال اليوم وصلت بكل إيجاز ووضوح، وهي أنهم منتشرون أكثر مما أتخيل، وامتلاك عصا قد يؤجل لكنه لن يغير من مصيري المحتوم، فشرعتُ وحدي في البكاء.
(3)
عشية حفظ البلاغ، عرفت أن المبلّغ في حقهم ينكرون كل الاتهامات الموجهة إليهم، وليس لدى الشرطة مسوغا قانونيا لتوقيفهم أو حتى أخذ تعهدات عليهم نظرا لعدم وجود تعامل مباشر معي، فهم يسكنون في ذات الحي ويسيرون في نفس الشوارع وبعضهم يقيم معي في نفس البيت وليس لأي منهم سوابق، فانتابني الذهول، وفي العاشرة إلا عشر دقائق من صباح اليوم التالي، فوجئت بكلب ضخم في المدخل، مربوط إلى سلسلة، لا يترك للداخل سوى حيز ضيق للمرور وظهره ملتصق بالجدار،أطلت وجوههم جميعا من عينيه، واجتمعت أصواتهم في صوته الذي لم يكن ليتوفر لكلب حتى لو اقترب من حجم أسد، سألت عن ضرورة كلب بهذا الحجم في مدخل بيت قديم، فقيل: زينة، واستنكروا أنني لم أشارك في ثمنه بمليم.
سألت إذا ما كان بالإمكان تقصير السلسلة قليلا، فقيل حتى تتاح له حرية الحركة، قلت وحركتنا نحن، فقالوا في خروجنا ودخولنا لا ينبح، سألتهم ولماذا يختصني بالهجوم؟ فأشاروا إلى العصا، ومر رجلا الساعةمن أمامه، وتبعهما المحامي الذي كان يتكلم في الهاتف، ثم فتى في يده كيس شيبسي،فمط رقبته باتجاههم بكسل ولم ينبح،وما إن شرعت في المرور، حتى ترك الطعام، ونط الشرر من عينيه وانتابته رغبة في الفتك بي، فلم يكن أمامي سوى التقدم ببلاغ جديد،
في القسم أخبروني أن السلسلة تسمح بمرور القاطنين بلا أذى، كما أن أحدهم لم يتقدم بشكوى، فقلت: وها أنا تقدمتُ، فواجهوني بطلب موقع من القاطنين باقتناء كلب تمت الموافقة عليه بعد الاطلاع على شهادة بيطرية تفيد بأنه سليم تماما، ويأخذ تطعيماته بشكل دوري، فلم أرد، وأغلق المحضر للمرة الثانية مع لفت نظري بعدم العودة إلى القسم بهذا الخصوص وإلا اتهمت بإزعاج السلطات، فأدركت أنني كنت محقا في تجنب الذهاب إلى القسم، وظلت العصا التي اقتنيتها مؤخرا تشعرني مع كل خروج أو دخول بالنجاح في تأخير مصيري المحتوم ليوم آخر.
صبيحة الثالث والعشرين صحوت على هدير لا أعلم مصدره، نظرت إلى زوجتي فلم أجدها بجواري،هرعت إلى الشرفة، فرأيت البلدوزرات تقترب من بعيد، ونفس المحامي يضغط الهاتف إلى صدغه ويشير بسبابته بعصبية، وسيارات الإسعاف المتكهنةمحمولة على سيارات نقل كبيرة، دخلت إلى الصالة، فرأيتها خارجة من الحمام تشير بيديها كأنها تستغيث، وتباعد بين ساقيها وتتألم في صمت، وحين رأيت خيطا من الدم يسيل على ساقيها.
نزلتُ السلالم مهرولا لآتي لها بطبيب أو قابلة، لكنني وجدت الكلب متربصا للفتك بي في المدخل، والمسافة التي سأمر منها ضيقة، شرعت العصا في اتجاهه وتقدمت، فازداد ضراوة،هويت بها نحو رأسه الضخم، فتجنبها ثم عاود الهجوم بشراسة، وفيما كنت معتمدا على أنني في المسافة الآمنة، وظهري إلى الحائط، طاب لي النزال مع الكلب المربوط بهذه الطريقة،فكنت أرفع العصا في الهواءكلما سمعت الصرخة آتية من شقتي وأهوي بها على رأسه،فيتجنبها ويعاود الهجوم، فأدفعها مباشرة إلى عينيه، استمر النزال لا أعرف إلى متى حتى لمحت الخوف في عينيه، وخفت صوته، وتراجع، فتمكنت من المرور،بيد أنني انتبهت أثناء الخروج إلى أن السلسلة المربوط إليها الكلب كانت سائبة.
ورغم أنني تأكدتـ بعد خروجي ـ أن كلينا لم يكن يعلم بأمر السلسلة المفكوكة طوال الوقت، وأن حياة جديدة كتبت لي، إلا أن الصرخة القادمة من شقتي لم تعد تأتي، ولم يعد بوسعي والسلسلة مفكوكة معاودة الصعود، فشرعت فجأة في البكاء.
إرسال تعليق