قليل من الريش 

سيرة ذاتية يقدمها الكاتب جمال مقار، تعكس براعة فى السرد والحكي بنوع من الحنين للماضي بنفس قصصي وروائي بامتياز،  ومشهدية تكاد ترى كل التفاصيل الصغيرة التي عاشها جمال الطفل في الماضي.

جمال مقار
جمال مقار

 جمال مقار



 أول مصروف أخدته كان خمسة مليمات وكان عندي أربع سنوات، الحقيقة لم أخذه بل كان يوضع في حصالة حتى تراكم وأصبح ثمانية قروش، تلك القروش أخذتها أمي وقالت لي إن لديها حمامة بلا ذكر؛ سوف تشتري لها بالقروش الثمانية ذكرا، وتجعلهما ملكا خالصا لي هما ونسلهما .

   ذهبت أمي لسوق الثلاثاء، واشترت ذكرا لا يطير، ولما سألتها :
ـ لماذا لا يطير مثل بقية الحمام ؟
قالت لي :
ـ لإنه صيني.


   طبعا كانت أمي قادرة على اختراع حقائق جديدة تضاف إلى حقائق الحياة، ولها في ذلك فضل السبق؛ لأن تلك الحقائق التي لم تكن موجودة من قبل، ستصبح مع الوقت حقائق راسخة لا شك فيها ككل ما قاله الحكماء والأقدمون، وعندما كانت تقول لي وهي تشير إلى أحد الديوك الرومي لتقرر حقيقة من حقائقها التي تتجاوز بها دارون كثيرا:
ـ إنه من جنس الجمّال.
    كنت أصدقها فورا بلا جدال.
                                                                   

   أقامت أمي التعارف بين زوج الحمام؛ ووضعت لهما صفيحة على الأرض تقديرا لظروف الزوج، وبعد أسبوع تزاوجا، وبعد أسبوع آخر من العسل حَصّت ( باضت ) الحمامة بيضة وبيضة، وتبادلا الزوج خلال السبعة عشر يوما ـ عدة أيام الحضانة ـ الرقاد على البيض.


    كنت كل يوم أنزل مع أمي ممسكا في ذيل جلبابها، ولما تفتح باب عشة الحمام أشاهد الذكر (الصيني) واقفا بجوار الصفيحة لحراسة العش والزوج والبيضتين الصغيرتين، فيندهش عقلي، ثم يرتعش قلبي الصغير .


   ولما كان البيض يفقس، كانت الأنثى تصعد إلى شقتنا زائرة، فندرك أن البيض فقش، أجري وأحضر طبقا أملأه من جوال الأرز الموضوع خلف باب إحدى الغرف، أضعه على الأرض، فتبدأ في التقاط الحب حتى تمتلئ حوصلتها، وتشبع، فتطير، ثم تعود في اليوم التالي في تمام العاشرة صباحا.

    ولما هدم أبي الغرف المبنية بالطوب اللبن التي كنا نربي فيها الحمام والدواجن؛ ليبني جزءاً آخر من البيت حزنت أمي جدا، فأرضاها بأن بنى شقة على السطح وجعلها حوشا للطيور.
   لذلك كانت الحمامة كلما فقش بيضها تنزل إلى شقتنا فنضع لها الأرز. ظلت على ذلك الحال تسعة أعوام      
( 1959 / 1968 ) ثم نفضت يدها من الذكر الصيني، لأنها وقعت في عشق ذكر آخر فتيّ دار حولها حتى أغواها؛ وأخذها وطار بها بعيدا، هناك تبادلا القبل وأشياء أخرى، ثم أقامت معه في الصفيحة المعلقة حتى لا يصل إليها الذكر القديم الذي صام عن الأكل حتى نحف وجف عوده وأصابه الذبول، الأمر الذي أغضب أمي جدا.


   وذات صباح ، عادت أمي من السطح حزينة ومكتئبة، لأنها رأت ذلك الذكر الحزين وهو يحاول يائسا أن يطير ليصل إلى أنثاه، ثم أخطأ الوقوف فسقط في الاسطبل المهجور الملاصق لبيتنا، عندها جاء سرب من الكلاب الضالة الجائعة نهشت جسده الصغير ومزقته مزقا، حتى لم تبق منه سوى قليل من الريش تذروه الريح .

Post a Comment

أحدث أقدم