قراءة انطباعية

 في ديوان "أوتوجراف" للشاعرة "آيات عبد المنعم"،

 د. محمد غنيم


محمد غنيم


بعيدًا عن الآلية النقدية النمطية والمعتادة، التي يجيدها أربابها من النقاد، وبعيداً عن التغلغل في فنيّات الديوان، وعن تجربة الشاعرة الفنية أو الشخصية، والعاطفة والخيال، ومنهج القصيدة، ولغتها، وبنائها، أو ما يتعلق بالشكل والمضمون، وبعد قراءة الديوان قراءة استطلاعية استجلائية، 


يتضح لي أننا أمام ديوان تتجلى في نصوصه وتتوالي في فضاءاته ومداراته روح شاعرة تحاول تشكيل عالمها الخاص، الذي لا ينازعها فيه أحد، إلا من تحب، ولا يراها فيه غيرها إلا من ترغب، ولا يشاركها فيه إلا ما تريد، وإعادة فهم العالم حولها، وإعادة تشكيله وصياغته بصورة مغايرة، بعيدة عن التقليدية والاعتيادية، تنسجه من لغة مكثفة وجمل مختزلة، وخيال جامح وصور ملفتة وبنية تعبيرية مغايرة.


تطالعنا العتبة الأولى للديوان، وهو العنوان " اوتوجراف" بكل محموله الثقافي والدلالي ليستدعي مفهوم التوقيع المختصر السريع وهو المعنى المفهوم للكلمة اليونانية الأصل، التي تتكون من شقين، الشق الأول autós ويعني النفس، والشق الثاني gráphō ويعني الكتابة، ليوحي للقارئ أنه أمام فلاشات وتوهجات شعرية مكتوبة موجزة ومكثفة رامزة للنفس ومعبرة عن الذات والنفس. 


 ثم تأتي العتبة الثانية للديوان المتمثلة في الإهدء، الذي أخذ شكل قصيدة نثرية مكتملة ليناقض ما ساقه العنوان في ذهن القارىء من دلالة، أو وقر في خلده، وليفهم منها القارىء أنه أمام طاقة شعورية وشعرية متخمة، وفي نظري كان يكفي تعبيريا عن الاهداء أن نقتطف من القصيدة "إليك ... يا من تتجول تيهًا في كهوف عقلي".

هذا الإهداء يضع القارىء في وضع الاستعداد لتلقي مفاجآت قادمة في القصائد، وبنيتها، ولغتها، ومفرداتها، وخيالاتها، عمقاً وغرابةً، وبعداً عن المباشرة والتسطيح وإغراقاً أحياناً في الرمزية ليترك القارىء وذائقته الخاصة، ومفهومه الذاتي، وقدرته على الولوج إلى عالم الشاعرة واستنطاق النص وتأويله أو فك طلاسمه وكشف اللثام عن مكنونه.


المطلع على الديوان يجد نفسه أمام انتاج شعري مشبع بطاقة شعرية بعيداً في تعبيره عن الإيغال في النثرية المفرطة الجافة، أو الاستسلام للنثر الخالص، فمع غياب الموسيقى والتحرر من البناء الهندسي، وتقاليد الوزن والشكل، لم تغب الموسيقى الداخلية التي جاءت من الإيقاعات الصوتية لبعض الكلمات، والتكوين اللغوي للعبارات والجمل، ومن الكثافة والتوهج، ومن اتساق الجمل والأسطر وتوازيها:
"ولا يطرز همسك المتحفظ 
أقراطاً في أذن الوقت"
"أسكب في ضياء الشمس بعض ملامحي"
"يضرب الأرض خفق جناحيك تبراً"
"تبدو كلماتك النفيسة خرساء
تكسر الضوء الشفيف بداخلي" 
"على أرفف الغياب تُركت وحيدة 
أعانق زفرات الهواء البارد"
"أقطف غماراً من أزهار الوقت البيضاء"
"يتحور شعرها نجماً بعيداً لامعا
وقصيدة من نخيل"

كما لم يغب الخيال المتمرد الثائر الجامح، السابح في فضاءات شعرية متعرجة ومتشعبة، وما يحمله من دلالات نفسية وفكرية جنحت به في بعض الأحيان إلى الإفراط والغرابة فزادت حرارته مما أفقده النضج وأصابه وهج النار.

ولا تكاد تمر سطرة شعرية على العين إلا وتأخذك إلى صورة جمالية جزئية قد تشكل وتنسج مع غيرها من الصور، في تضافر وتشابك، صورة كلية تحتفظ فيها كل منها باستقلاليتها في اتحاد كونفدرالي بينها. فمن قصيدة (الضباب الرمادي):
"أفراحك عندما توليهم الأدبار
فتبتسم قدر استطاعتك التنفس
تغمض العين على طيفهم العالق 
من حلم الأمس السرمدي"
ومن قصيدة "في مديح الكسوف":
"وفي ورعي 
أتعثر بكلمات الإطراء العريضة الرخوة
أتورد فزعاً
أفقد توازني
مع كل مرة يطالع أحدهم عيني 
فيكشف عني غطائي 
ويبتسم لبرودة أطرافي
ووقع نظرته علي
أمضي مجذوبة أصدق .. ولا أتصدّق" 

قصائد الديوان شكّلت كل منها بناءً عضويًا قائمًا بذاته، لبناتها، أو الجمل الشعرية القصيرة المتوالية فيها، جاءت مهذبة وإن جاءت مستقلة بذاتها في بعضها، وغير متشابكة مع بعضها ودون تراص وانتظام في بعض جدرانها. 
"عدت أستند إلى نفسي
أتناقل الخطوات بين أنفاسي
أقطع الطريق الطويل أمامي
أبحث عن مفرداتي الأولى
عما هو صادق وحقيقي يشبهني
أفتش بين أوراقي عن حب طفولي لا يؤذي"

وتنحاز بعض القصائد إلى أشياء مهمَّشة نمر عليها دون أن نعيرها اهتماماً أو نلقي لها بالاً فنجد الشاعرة تنتصر لها وتزيح الغبار عنها "قصيدة وسادة، قصيدة مارشميلو، هرة) وجمعت فصائد الديوان بين ما هو يومي وواقعي وما هو خيالي مجنح. جاءت عناوين بعضها مباشرة "تلغرافية" من كلمة واحدة (وسادة- الجدة- لذة- رهاب- اغتراب- كهولة- طفولة- رثاء- الصبا) أو كلمتين (حلم قديم- سمع الله- موجة حادة- على الماء- على استحياء- للبيت شطر – سمة الصمت- وعلى هذا- ملامح منك- اعتدت الألم) وأخرى "أوتوجرافية" الطابع (المسيح عاد ليصلب- لا تؤويني الجبل- لا تمشطني بعينيك- وحدك تنصت لذاتك). 
في قصيدة الجدة، تعالج القصيدة الحنين والموت، والموقف من الموت، فلا خوف "أنا لا أخاف الموت" من الموت الحقيقة التي لا مراء فيها، ولأنه مصير كل مخلوق وهكذا كانت تقول الجدة في تبصر وتجربة وحنكة " كلنا لله" حيث تتوحد الشاعرة مع الجدة أو تكون امتداداً لها، من الأمس إلى الغد، (أنا حلمك الأمس . الغد سنام خيطك)، لتنبعث فيها مخلدة عتيدة كشاعرة أو كعصفورة 

وفي قصيدة عنوانها أين أنت الآن مني؟ كأننا أمام قصيدة تجسد قول الشاعر أين أنت الآن .. بل أين أنا، وفي قصيدة بحر غادر اشكالية الثقة المطلقة والحب والغدر، وفي قصيدة وسادة .. تلتقط الشاعرة من أكوام الموضوعات وأكداس الأشياء، التي تحيط بنا ونتعامل معها يومياً دون أن نلتفت إليها، إبرة الومض فتزيل عنها الركام، كما يزيل الأثاري التراب عن تحفة ثمينة، فتلتفت إلى أشياء بسيطة لا تلتقطها أعين الكثيرين، منها والوسادة التي لا نذكرها إلا حين نضع رؤسنا عليه، عندما يدهمنا النوم أو نطلب الراحة، حتى إذا غرقنا في النوم نسيناها، تصير الوسادة هي المعراج إلى السماء هي زهرة الدهشة وباب الغسق، وسحر من الصلوات، ومرصد النجمات، وعتبة الغيب، ووجه السماء. 
..وسادتي 
يا زهرة الدهشة، يا باب العشق
سحر من الصلوات
لإمارة تخسف الأوراق جنة
حوض الملائك ..مرصد النجمات 
يا عتبة الغيب يا وجه السماء قنوطا
يا رحلتي 
يا رحلة الإسراء 
جاءت لغة الديوان مكتنزة ثراء بالإيحاء والقدرات التعبيرية، والتأثير، ولم تنأ لغته عن الغموض التي تجعل النص عصيا عن الفهم. في بعضها
والطاقة التعبيرية المتوهجة وأبجدية الشاعرة، التي يطالعها القارىء في مفردات تصيب القارىء بالمفاجأة والدهشة، فلا يستوعب ما وراءها من رؤى ودلالات من أول نظرة كعادة المحبين الهائمين، فهو يحتاج إلى أن يتابع النظر، ويطيل الوقوف والتأمل، ويهيئ النفس، ويوقظ العقل؛ لاستقبال تلك المرسلات، وفض تلك الرسائل، وقراءة ما فيها من تشكيل جمالي وتشربه على مهلٍ وبتأنٍ، والنبش في رماله برفق حتى الوصول إلى جوهره المدفون. فالشاعرة لا تريد أن تقدم للقارىء النص على طبق من ذهب دون هضم واستيعاب وتحليل واستشراف للمعاني.   


وطاوعت اللغة في كثير من الأحيان الرغبة في التعبير، بينما استعصت عليها أحياناً فلم تجاريها في وثباتها الشعورية وضاقت عن أن تحتويها أثوابها وتستوعبها قوالبها وتسبب تشويشاً للقارىء وخلطًا في الرؤى أحياناً ما بين المتكلِم والمخَاطَب والغائب. 
"أسكب في ضياء الشمس 
بضع ملامحي
أرتد أطراف الحديث
بوقع خطوتك .. السكون
نصف لك .. نصف لروحي .. ولا أفارق
أتشبع اللحظات رفقة 
وفي ظلالي"
موقف الشاعرة من التراث
ثمة علاقة من الاستيعاب والفهم الواعي للتراث بمصادره المختلفة من قرآن ومرويات، شمل التأثر والاحتذاء واستنطاقه واستلهام لغته من ناحية أخرى وتوظيفها الخادم للنص وسياقه، وتكشف لنا عناوين بعض القصائد التعالق النصي بين عناوين بعضه وما يوازيه في الموروث الديني (ما تيسر- وبالنجم هم يهتدون- سمع الله- لا تحزن- لا يشعرن بكم أحدا- على استحياء) 
عن وعي الشاعرة باسترفاد الميراث الديني، فحتما سوف يتبادر إلى ذهن القارئ، ومن أمثلة ذلك ف يالديوان:
- "سحابة تمر كما الرواسي" والنص القرآني يقول: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب".
- مقاعد صدق وفي النص القرآني: "مقعد صدق"
- "أواري سوأة الحزن في الشفق" وفي النص القرآني: "فأوراي سوأة أخي"
- " قبل أن يرتد إليك طرفي" والنص القرآني يقول: "قبل أن يرتد إليك طرفك"
- "وخائنات الأعين" وفي النص القرآني: "خائنة الأعين" 
- (ضعف الطالب والمطلوب) وفي النص القرآني: "ضعف الطالب والمطلوب"
- "قبضة في أثر الرسول" وفي النص القرآني: "قضبة من أثر الرسول"
- "وعلامات .. وبالنجم هم يهتدون" وفي النص القرآني: "وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون"
- "بلا قميص قد يُقد" وفي النص القرآني: "قدت قميصه".
- ماؤك المغبون زمّ
- والله يبديها- لا إكراه في دينك - لذة الشاربين - سمع الله لمن حمد – لا تحزن- 
- العهد القديم – وصاياك- الصلوات- أتعمد سابحةً- أبتهل (من قصيدة تحترق الشمعات سكوناً)


هذا الديوان تنشغل الشاعرة فيه بإعادة تفهم الذات، الزمنية (الطفولة- الصبا- الكهولة) وإعادة تشكيل عالمها الخاص، أو ترميمه وإعادة تجميع ما تشظى منه ولصقه أو استكمال ما فقد، تتوحد فيه الشاعرة مع الجدة كأعادة خلق الحاضر من رحم الماضي وتجددة، وأعادة خلق الحلم الجديد من رفات الحلم القديم، وذلك بلغة خاصة ومفردات متميرة، وطاقة تعبيرية وشعرية متوهجة وملفتة يغلب عليها السردي، وتجلي الواقع، والإفادة من حقول ثقافية ومجالات معرفية متنوعة، تحمل القاريء إلى عوالم خاصة عبر ادوات تصويرية وبنية تعبيرية ترتدي ثياب الدهشة وللأمالوف.

Post a Comment

أحدث أقدم