من روائع أدب الحرب.
الأسبوع الأخير لهالة كوثرانى
سيد الوكيل |
رواية الأسبوع الأخير
بقلم: سيد الوكيل
رواية " الأسبوع الأخير" للكاتبة اللبنانبة هالة كوثرانى ،
رواية تنجح بصفاء نادر في إجلاء التوترات
المتباينة بين بطلة الرواية ومدينتها بيروت ، يحدث هذا علي نحو مكثف يجعل الرواية
مشحونة بالتفاصيل المضطربة في العلاقة بين
الإنسان والمكان ، عندما تتوحد ذاتهما علي نحومصيرى ومؤلم ، كزوجين لم يعد التواصل
بينهما ممكناً ولم يعد الانفصال وارداً ،إنه مجرد تعبير أستعارى يعكس حالة التوتر
الدائم وكأن ثمة حرباً باردة تدور بين الإنسان والمكان طوال الوقت ، مأزق الحياة الدافع للبحث عن شكل جديد فى
العلاقة بين بطلة الرواية ومدينتها بيروت ،هكذا تكتب هالة كوثرانى روايتها ، وهى
تسترجع ألأسبوع الأخير فى بيروت قبل الرحيل إلى دبى ، لتجعل منها شحنة شعرية ،
محتشدة بالتفاصيل ، هذه التفاصيل التى تحدد دواعى الإرتباط بالمكان علي نحو مصيري
، لكن هذا الإرتباط لا يعنى أن العلاقة مثالية ، ومتناغمة علي نحو رومانسى بعكس ما
يظهر فى كثير من روايات المكان التى تعكس نوازع النوستالجيا العربية ، بل يكتنفها الكثير من الشد والجذب
والشوق والهجر ، وتستغرق بذكريات بعضها حميم وعميق وبعضها سطحى وعابر وبعضها الآخر
موجع ومؤلم ، لكن كل هذا ، هو ما يجعل الإرتباط بالمكان مصيرى وقدري علي نحو يظل
يطاردنا ويعيش فينا حتى ونحن بعيدون عنه .
بطلة الرواية تقرر فجأة أن تترك بيروت
لتبدأ ـ من جديد ـ الحياة في مكان آخر .. في دبي ، عندما شعرت أن حياتها
في بيروت قد توقفت ، وأنها لم تعد قادرة علي تحمل الأوجاع التى سببتها لبيروت حروب
أبيها وجيله ، علينا ملاحظة هذا الموقف الضدى من جيل الآباء الذى أشعل حروبا
داخلية لم يخمد أوراها بعد ، ومن ثم نراه متمثلاً فى حرب أخرى بين الإنسان والمكان
، كما علينا ملاحظة هذا الربط العفوى بين أوجاع المدينة
وأوجاع الذات وكأن كل منهماً مرادفاً للآخر.
الآن علي بطلة الراوية أن تمضي أسبوعاً أخيراً في بيروت قبل أن تغادر ،
أنه زمن الرواية كلها ، لكنه وفقاً للإسترجاعات يغطى أعوامها الثلاثة والثلاثين ، وهذه
الاسترجاعات ، تمنح بطلة الرواية فرصة
لربط سيرتها الذاتية بسيرة المكان ، بما يعنى أن المكان ليس موضوعاً للسرد بقدر
ماهو تمثيل جمالى للذات الساردة أو معادل موضوعى لها ، فإذا كانت سيرة المكان محتشدة بكثير من
الأخطاء ونوبات الفشل فى التحقق على نحو مثالى أو رومانسى ، فإن سيرة الراوية ـ
نفسها ـ تسير بالتوازى مع سيرة بيروت ، فنراها محتشدة بالعديد من الصور المأساوية مثل :
إخفاقات التواصل مع خطيبها ، موت الأحبة
والأصدقاء مثل موت صديقتها ( ليلى ) الذى ترك فيها جرحا لايندمل مع الزمن، فضلاً
عن الأزمات الاقتصادية الخانقة التى خلفتها
سنوات الحرب، وهكذا تتعدد دواعى السفروأسبابه وتلح فى الظهور على سطع الوجدان الفوار فى هذا
الأسبوع الأخير، وقبل ركوب الطائرة لمرة أخيرة، لأبعد نقطة ممكنةعن هذا المكان.
مشكلة بطلة الرواية، هى وعيها العميق
بهذا الارتباط المصيرى الذى يربط بين سيرتها الذاتية وسيرة المكان، فهى تدرك فى
نفس الوقت الذى تعد نفسها للرحيل أن لحظة خروجها من المكان هى نفسها اللحظة
التى تتخلى فيها عن الإيمان بذاتها، فهي واعية بأنها ستبدأ رحلة اغتراب جديدة عن ذاتها .
إن حركة السرد ـ فى الرواية ـ مشدودة
طوال الوقت، ومتوترة ، يتجاذبها شعوران كل منها يمتلك من القوة ليجذب الذات
الساردة إلية، وهكذا فالرواية تتحرك على مستويين، يتناوبان لحظات من التوازى أو
التقاطع أو الاشتباك والتداخل .
ولعل أحد التعبيرات التقنية لهذه
الثنائية، أن الرواية لا تعتمد فى رسم أبعادها الزمنية على استراجعات ذاكرتية
مجردة، يمكن أن تمحى من الذاكرة، أو يتطرق إليها الشك، بل تظهر بين الحين
والآخر بعض الصور الفوتوجرافية القديمة، التى تثبّت الزمن فى لحظات خاصة ومشتبكة
بقوة مع الذات الساردة ، فهذه الحرب التى
مازالت تحتفظ ببعض صورها، تأتى مشتبكة
بسنوات الطفولة .. الطفولة التى ينبغي أن تكون سعيدة وبريئة ، ولكنها لم تكن أبداً
خالصة علي هذا النحو المثالى ، هكذا تتجاور صورة العصفور وصورة الدم فى لحظة واحدة
:
" بعدما طالبت بكاميرا وحصلت
عليها ، صورت شرفة المطبخ في بيتنا ، حيث وقفت لأتلصص علي موت المقاتل ودمه الذى
لون خزانات المياه .. صورت الشرفة والعصفور في قفصه في المطبخ " .
سنرى أن للصورة تشكلات متعددة وناضجة
في هذه الرواية ، أنه نضج يتطور مع الشخصية ومع حركة السرد التى تعنى كثيراً
بالمشهديات البصرية ، التى تومض متجاوزة تراتبية الزمان ، إنها تومض في الذاكرة
عادة ، تستضيئ بالمكان ( بيروت ) وتضئ
معها جوانب مظلمة في الذات الساردة ، فآلية التداعى الحر هو منطلق السرد في
الرواية ، حتى لتبدو الرواية كلها شحنة سردية واحدة بلا فواصل من أى نوع ، لا
تقنية ولا شكلية ولا نفسية ، إنها حالة واحدة سديمية من الإقامة ، وكأنها علقت في
الزمان والمكان ، تقول : " ولدت في بيروت ، وأقول إننى أتوق الآن إلى
مغادرتها . وبعد أن اتوق ، أحاول أن اغادرها ، ثم أصارع نفسي من أجل أن اغادرها ،
لكننى أبقي في غرفتى ، والأسبوع الأخير يتحول إلى الشهر الأخير ، والأسابيع
الأخيرة متشابهة . وليلى لم تمت بعد ، لكنها ستموت . وبيروت ستتغير ، وبين بيروت
وبيروت لا تتغير غرفتى ولا أتغير أنا فيها " .
سيفيدنا المقطع الأخير ـ لغوياً ـ في التعرف علي الطاقة الشعورية التى تحتشد بها
الذات الساردة ، إنها ذات خارجة لتوها من تجربة حرب ، ومتجهة لتوها إلى حرب أخري
وهكذا ، بين بيروت وبيروت وبين حرب وحرب ، لا شئ يتغير ـ إن التغير الملموس الذي
تطرحه الذات الساردة علي نفسها هو البدء من جديد.
ستنفصل بطلة الرواية عن خطيبها، وتنهى اللعبة التى تواطأ عليها الحميع، وستستقيل من عملها المتواضع غير نادمة،
وستسهر مع الأصدقاء لتودعهم، ولكى تخلص روحها تماماً ولا تصبح عالقة فى المكان،
ستموت صديقتها ليلى المريضة طوال زمن الرواية، ستموت قبل أن يجئ الأسبوع الأخير
لتتمكن من مغادرة بيروت بقلب مستريح، وسوف تلتقط الصور الأخيرة وتملى عينيها
وقلبها بكل التفاصيل التى سوف تكون ذخيرتها فى الغربة، ثم :" يجب أن أكتب
كى تنجح خطتى فى اختراع مكان لى .. مكان أستطيع أن أقول إنه مكانى ، وإننى أنتمى
إليه " .
صحيح أن الرواية تنتهى فى سطورها
الأخيرة بصعود البطلة سلم الطائرة ، ثم شعورها بخفة مباغتة عندما تطير وتحلق فوق
بيروت، لكن المفارقات الزمنية التى تجيدها هالة كوثرانى، والمتقابلات الشعورية
التى تنسجها بمهارة عبر لغة شديدة الإيحاء، والبناء الترجيعى الغنائى الذى يجعل من الرواية أنشوده تراجيدية فى علاقة
الإنسان بالمكان ، كل هذه المهارات والإمكانات الجمالية لروائية تكتب كما تتنفس،
وضعتنا أمام نص مفتوح الدلالة متعدد المعانى، حتى يمكن قراءة النص عبر أكثر من
مسار، الحرب ، الفقد ، إرادة الحياة ، الاغتراب، المكان، والزمن. لتبدوالكتابة وطناً للذات .
وإذا كانت السطور الأخيرة تنتهى بخفة
الرحيل والخلاص من علاقة معقدة مع بيروت، فإن السطور الأولى لاتخلوا من هواجس
الاغتراب، ولواعج الحنين، وكأنما تقول إن مفارقة لبنان ليست سوى سبيلً لعود ة
أخيرة، وفرصة للبدء من جديد ..
" فى الغربة نموت أيضاً، نعيش لصباح ينتهى
سريعاً، ونحتمل أوقات الظهيرة قبل أن يأتى الانهيار مساء، حين نشتاق إلى أهلنا،
وشوارع تغيرت ولم نغيرها فى الصور، فى الذاكرة، وفى البطاقات البريدية المنقرضة
" .
فى الرواية طابع سير ذاتى، يجعلنا نرى
توحداً بين بطلة الرواية وكاتبتها ، وفى الرواية نجد نبوءة أو قل هاجساً بحرب
جديدة ، من غير أن تندمل جراح الحروب السابقة ، فبين حرب وحرب تظل بيروت عالقة فى
سماء من ( نار وبواريد ) ، هذا هو الشعور الذى صدرته لنا نهاية الرواية بمشهد
الطائرة وهى تحلق بركابها فى سماء بيروت ،
وكأنما يعكس فى أحد معانية ، مجموعة من المصائر المعلقة التى تحدد هوية المكان .
ـ التى صدرت من دار الساقى ـ
إرسال تعليق