البـــطل وضـــده عند نجيب محفوظ

 "بانوراما أدبية: مقالات سيد الوكيل- البطل وضده عند نجيب محفوظ- فنون الكتابة- قصة قصيرة، شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، أقلام، كتب، كتاب"




البـــطل وضـــده عند نجيب محفوظ

بقلم: سيد الوكيل

 


جعل نجيب محفوظ بطل روايته ( اللص والكلاب) ضحية للثقافة المسطحة والمعارف المغلوطة، إنه شاب أمي فقير، يعمل مع أبيه في بيت للطلاب. أقنعه طالب متثاقف بمعادلة مغلوطة: مادام للفقراء حق في أموال الأغنياء، فيجب الحصول عليه بأي طريقة، لأن الغاية تبرر الوسيلة.


هكذا تحول بطل الرواية إلى لص. أراد نجيب محفوظ أن يقول إن كثيرًا من الأفكار التي يحملها أنصاف المثقفين مهما بدت مقنعة ونبيلة، فهي شديدة الخطورة. فالمشكلة ليست في الغايات بل في الوسائل. فهل كان محفوظ يلمح إلى فساد المبدأ الميكيافللي الذي يمكن أن يأخذ به متطرف في انتمائه اليساري أو اليميني أو العنصري في نفس الوقت؟


الأصل الحقيقي للرواية عن شخصية حقيقية عرفت في ستينيات مصر باسم (محمود سليمان السفاح) كان شابًا نال قدرًا من التعليم، لكن هذا لم يمنعه من احتراف السرقة، والقتل.


الطريف أنه تحول في -نظر الجماعة الشعبية - إلى بطل، ورمز للعدالة الاجتماعية الغائبة، وهبه الله قدرات خارقة كالقفز من المباني الشاهقة، وفتح كل الأبواب المغلقة، والإفلات من حصار الشرطة مهما كان محكمًا، والتنكر بأساليب يصعب فهمها، بل والتحدث بلغات شتى. هذه الصورة التي خلقها الخيال الشعبي عن محمود سليمان السفاح، جعلت منه رمزا يذكرنا (بروبين هود) يسرق الأغنياء، ويمنح الفقراء، لقد فُتِن كثير من المصريين به، وعاش كثير من الفقراء يحلمون بيوم يدق في السفاح أبوابهم، ويجزل لهم العطاء.


هذا التتويج البطولي من الجماعة الشعبية للص قاتل، ليس شيئًا جديدًا على المجتمعات البشرية. فعبر التاريخ، تطالعنا العديد من الصور لأبطال شعبيين، لا يخلو تاريخهم من انحراف ما، لكن المخيلة الجمعية في طورها البدائي، تحيلهم إلى أبطال، عندما تنسج حولهم أسطورة المُخَلِّص التي سكنت كل ثقافات العالم بصور مختلفة.


كان (على الزيبق) البطل العربي، زعيما لجماعة من الشطار والعيار الخارجين على القانون، لكنه أخذ على عاتقه مقاومة الفساد الذي مارسه  القائمون على القانون أنفسهم. فكيف جمع الوعي العشبي بين هذين المتناقضين.. كما كان (روبين هود) البطل الشعبي الإنجليزي، يسرق الأغنياء من الإقطاعيين ليعطي الفقراء، فخلع عليه الناس لقب اللص الشريف. إنه احتجاج مضمر على القوانين البشرية.


لقد ظلت شخصية الخارج عن القانون، صاحب الهدف النبيل، جاذبة للمخيلة الشعبية حتى الآن، بل وملهمة للأدباء والسينمائيين، كونها تحظى برصيد تراثي لدى الناس، وهذا يفسر النجاح الكبير للفيلم الأمريكي (العظماء السبعة) عندما تفانى سبعة من القتلة المأجورين، في الدفاع عن جماعة من الفلاحين البسطاء. كما يمكن ملاحظة أن شخصية (زورو) التي ابتكرها (جنسون ماكولي) عن نبيل أسباني يعاقب الأغنياء جراء طغيانهم، تتشابه في سماتها، وسعة حيلتها وخفة حركتها مع روبين هود، وعلى الزيبق، ومحمود سليمان السفاح.


تلك الجاذبية التي اتسمت بها شخصية البطل الخارج على القانون، لم تأت من ضحالة الوعي الثقافي فقط، وإنما لكونها نموذجًا أنتج صورة البطل في مراحل الوعي البدائي، وهي مقترنة في دراسات الأنثربولوجيا بأمثولة الأرنب المخادع الذي أنقذ نفسه من مكر الثعلب وشراسته. إنه يتمكن من الهرب في اللحظة المناسبة، بعكس ما يوحي منظره من براءة كأنه طفل، لكنه لعوب، ومخادع، حتى أن مجلة (البلاي بوي) الإباحية جعلته شعارًا لها، ورمزا للفتي الجذاب خاطف قلوب النساء. أما هنود ( الوينباغو) فقد اتخذته رمزًا لبطلهم الشعبي المخلِص، وعندما بدأت المسيحية في الانتشار بين قبائل الوينباغو بات الأرنب ممتزجًا في ثقافتهم بشخص السيد المسيح عليه السلام.


 في طفولتنا، كنا نقرأ في كتب المطالعة المدرسية، حكاية (الثعلب المكار) إنه رمز الشر الذي يطارد أرنبا صغيراً ولطيفاً كطفل برئ لا حول له ولا قوة، لكنه قادر على العدو بسرعة والقفز والمناورة، بالطبع  كنا ننحاز للأرنب، تماماً كما ينحاز أطفالنا الآن للفأر (جيري) على حساب (تووم).


كان الثعلب يضع الحلة فوق النار تغلي، ويذهب منتشيا لصيد أرنب، حالما بعشاء شهي، وكان علينا أن نردد (الثعلب المكار، والحلة فوق النار) وكأننا ننبه الأرنب من ناحية، ونحذر الثعلب من نهاية مأساوية، فسوف يسقط في الماء المغلي أثناء مطاردة الأرنب.


الطريف، أن الأرنب المخادع هو الأمثولة العالمية للمكر، ولها صور عديدة بحسب الثقافات المختلفة، فعلي الزيبق على سبيل المثال، كان يتمتع بقدر كبير من المكر والدهاء، لهذا لقب بالزيبق لقدرته على المراوغة، لكنه في المفهوم الشعبي بطلا مناضلا وربما نبيلاً مثل (روبين هود) فيبدو الأمر وكأن الخيال الشعبي يعزي نفسه، عندما يرسم  للأرنب صورًا عظيمة ليتمكن من هزيمة الثعلب في كل مرة، خلافًا للواقع.


هكذا يصبح الخيال صورة من صور التحايل التي ينسجها الضعفاء للانتصار على الأقوياء  كما يسميها (جيمس سكوت) في كتابه المقاومة بالحيلة.  


مثل هذه الحكايات الشعبية، تُحدث لنا نوع من التطهير، التي يراها (أرسطو) وظيفة الدراما، وبها نغفر للأبطال خطاياهم، كما غفر الإغريق لأوديب الذي خلص المدينة من (الهولة المتوحشة) بالرغم من خطيئته بقتل أباه والزواج من أمه. لهذا يظل البطل المنقذ حيًا في مخيلتنا، حتى لو مات في حكاية، يولد من جديد في حكاية أخرى، فلا نندهش أن جعلت الثقافة الشعبية للمصريين من أدهم الشرقاوي بطلا، بالرغم من إجماع المؤرخين على إنه كان مجرما خارجا على القانون، وهي نفس الصورة التي دفعتنا للغرام بعلي الزيبق، وجيري، ودفعت نساء البلاي بوي للغرام بالأرنب اللعوب...


المفارقة.. أن خطايا البطل تنشأ  كلما بالغنا في انتصاراته، وإيماننا بقدراته الخارقة، عندئذ يُصاب بالتضخم، ويسقط ضحية غروره. نحن نخلق البطل وندفعه للخطيئة، ونحن نقتله ونغفر له. وتلك حيلة مضادة للخلاص من البطل، حتى لو كان نفس البطل الذي صنعناه بأنفسنا.


 ويعني هذا أن صناعة البطل وقتله لعبة مستمرة، تماما كصناعة المخلص وصلبه. ومن خلال هذه اللعبة تنشأ التراجيديا داخلنا، ويصبح البطل نموذجا دراميا بامتياز تنشأ حوله الحكايات والأساطير التي تعظمه، وبها نتطهر من ذنب قتلنا له. وبهذه الطريقة نصنع الزعماء..  


 هذا النمط الدرامي الذي تمارسه المخيلة الشعبية، موجود بقوة في المجتمعات الأكثر بدائية: أنكا البيرو، هنود أمريكا الشمالية وبعض قبائل أفريقيا. يقول المحلل النفسي جوزيف هندرسون : "إن لهذا النمط معني سيكولوجيًا لدى الفرد الذي يسعى لاكتشاف شخصيته وتحقيقها، وكذلك لدى المجتمع الذي يشعر بحاجة مماثلة لتحقيق ذاته الجماعية"


 أي أنه مرحلة من مراحل تطور المجتمعات، فمراحل تطور البطل هي تمثيل لمراحل النمو النفسي للإنسان. بل أن مرحلة البطولة ذاتها داخل الشخصية الإنسانية هي طور من أطوار نموها، وعلينا أن نمر بها، ثم نتجاوزها بقتل بطلنا الداخلي كي نصل إلى نضج أعلى، ولن نصل إليه إلا إذا غفرنا لأنفسنا خطايا البطل القديم بداخلنا. فصورة البطل التي نعيشها في وقت مبكر من حياتنا قد تزيف دوافع العيش إذا توقف نمو الإنسان عندها، وسواء توقف هذا النمو عند الصورة البدائية للبطل المخادع كما علمونا في الثعلب المكار، أو ارتقى ليصل إلى صورة البطل المنقذ الذي يضحي بنفسه من أجل جماعته، فإن الإنسان سينتهي إلى مصير مأساوي، ما لم ينتبه إلى اللحظة المناسبة لقتل البطل الذي بداخله.


في تاريخنا الحديث ثمة زعماء  توجتهم شعوبهم أبطالا منقذين أمثال (هتللر) ثم انتهوا إلى نهاية مأساوية لكن شعوبهم لم تغفر لهم ولا لأنفسهم، عندما انتبهوا للواقع وفارقوا الخيال.. أي أن الشعوب  قد تنخدع بالصور القبلية التي كونتها عن البطل، فتقع هي نفسها ضحية بطولته. لكن من الممكن القول إن ألمانيا اكتشفت هويتها من جديد بعد (هتللر) الذي صنعته بنفسها. وهذا يفسر لنا لماذا مازالنا نبحث عن البطل، رغم خبرتنا بمرات الخديعة التي عاشتها البشرية.


 إن صناعة البطل وقتله، تمنحنا الفرصة لتجديد ذواتنا، واكتشاف ما فيها من إمكانات وقدرات على مواجهة التنين. ومع ذلك مازلنا نبحث عن البطل، حتى أن السينما الأمريكية تعمل بدأب علي صناعة البطل الأمريكي منقذ العالم، وعلى نحو خيالي أيضاً. هذا تحول كبير في رسم صورة البطل على نحو ممنهج، وإن ظل يراهن على الجذور الراسخة في الوجدان الجمعي.   


 هكذا خرجت صناعة البطل، من يد البسطاء والمهمشين إلى صناع القرار، هذه المرة موجهة للبسطاء والمهمشين أنفسهم. إنها نفس لعبة البلاي بوي أو الأرنب المخادع، التي يمكن إعادة إنتاجها بصور شتى لتؤدي نفس الغاية.


المتابع لتاريخ السينما الأمريكية، يعرف أفلاما عن فرق عسكرية تتشكل خارج المؤسسات العسكرية، تستفحل في بطولاتها وجبروتها، ثم تتحول مع الوقت عدوا لمؤسسة العسكرية نفسها، يذكرنا هذا بميلشيا فاجنر، وتمردها على النظام الروسي، لتصل إلى نهاية مأساوية غامضة، وربما يترتب على هذا أن يصبح (يفغيني بريغوجين) بطلا شعبيا للروس.  


يعني هذا، أن نجيب محفوظ كان يرى أن المبدأ المكيافللي (الغاية تبرر الوسيلة) يبرر أنماط التحايل والخديعة، كما يمكن أن يستخدمها الحاكم والمحكوم في نفس الوقت. معنى هذا أن الخديعة يمكن أن تحقق لنا صورة البطل والبطل الضد في نفس الوقت.


في فيلم (فورست جامب) يتحول شاب أمريكي معاق ذهنيًا إلى بطل قومي، فيمنحه الرئيس الأمريكي قلادة في حفل إعلامي كبير، ليداري به الفشل العسكري في فيتنام، فيما تستخدم المعارضة نفس الشاب، لتصنع منه البطل المضاد للنظام، وليصبح الفتي المعتوه رمزاً وطنياً لجماعات المعارضة للحرب الأمريكية على فيتنام.

 

أما بطل فيلم (هيرو) فهو رجل تتعرض علاقته بأسرته للانهيار بسبب البطالة. يصادف طائرة منكوبة فيفتح بابها ليخرج الركاب، وأثناء ذلك يفقد فردة حذائه، ثم يمضي إلى بيته بلا اكتراث، وفي الطريق يصادف متشردا (Homeless) فيمنحه فردة الحذاء الأخرى. تسعى كل أجهزة الإعلام الأمريكية والسلطة، للبحث عن صاحب فردة حذاء البطل المنقذ، كأنه حذاء سندريلا التي سوف ينقذها الأمير من زوجة أبيها، عندئذ يقدم لهم المتسول الفردة التي حصل عليها من المنقذ الحقيقي. مدعيا أنه ذلك البطل الذي أنقذ ركاب الطائرة المحترقة.


هكذا يتحول الـ (Homeless) وبالصدفة إلى بطل وطني وفق صناعة إعلامية ضخمة. حتى عندما تُكتشف الخدعة التي مارسها المتشرد، يتواطأ الجميع على طمسها حتى لا يفقد النظام مصداقيته، وهكذا فكل خدعة تنتج خدعة أخرى  لتبرر الخدعة السابقة عليها.


 الطريف أن المنقذ الحقيقي نفسه يلوذ بالصمت، في مقابل المال، ويكتفي بأن يحكي أسطورته لابنه، الذي يتلقاها بخيال طفل كبطولة عظمى، فيتطهر من سخطه على أبيه العاطل عن العمل.


هكذا تظل البطولة الحقيقية في يد البسطاء، وتنمو في خيال طفلي بسيط، يطهرنا من خطايانا.  

   

 

 

 

 

1 تعليقات

  1. هذا التتويج البطولي من الجماعة الشعبية للص قاتل، ليس شيئًا جديدًا على المجتمعات البشرية. فعبر التاريخ، تطالعنا العديد من الصور لأبطال شعبيين، لا يخلو تاريخهم من انحراف ما، لكن المخيلة الجمعية في طورها البدائي، تحيلهم إلى أبطال، عندما تنسج حولهم أسطورة المُخَلِّص التي سكنت كل ثقافات العالم بصور مختلفة.

    شابوووه عمنا سيد الوكيل
    تحياتي وتقديري

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم