فراغ أبيض بحجم كائن مختفٍ - للكاتب فؤاد مرسي- وفلسفة الوجود
حاتم رضوان
فراغ أبيض بحجم كائن مختفٍ هي المجموعة القصصية الثالثة للكاتب فؤاد مرسي بعد مجموعتيه تحورات البحر وقارب صغير بموتور تتكون من خمسة عشر قصة مقسمة داخليا إلى أربعة أقسام أو فراغات كما وسمها الكاتب – فراغ أول وفراغ ثانٍ وفراغ ثالث وأخيرا فراغ لا نهائي.
يدور عالم المجموعة حول عدد من الشخصيات تعاني من أمراض وأزمات نفسية وعاطفية، شخصيات مأزومة ومنهزمة ومهمشة وغير متحققة، تعيش اغترابا داخليا وخارجيا، تبحث عن خلاصها سواء بالاختفاء أو الموت أو العيش داخل المصحات النفسية أو في عالم افتراضي خارج حدود المكان والزمان.
تجمع فنية كتابة قصص المجموعة بين تلقائية الإبداع وبكارته وبين الوعي والحرفية العالية في لغة شفيفة وشاعرية، تقطر حروفها بالألم والحزن والأسى على مصائر أبطالها، كل كلمة أو تضمينة في موضعها، لن تجد فيها اسما لشخص أو لمكان أو معلم أو كتاب أو مرض أتى ذكره دون مدلول – أم العواجز وسيدي عتريس وتمثال إبراهيم باشا ومقهى الحرية وكنيسة البازليك ومحطة العريش المندثرة وكتابي تاريخ الفلسفة وفلسفة الوجود الذي لفت انتباهي وسوف آتي على ذكره لاحقا.
نظرة أولى على غلاف المجموعة صممه المبدع المتنوع والفنان الكبير أشرف أبو اليزيد، تتعانق على صفحته البساطة والعمق، يتكون مسطحه الأمامي من لونين الرمادي والبنفسجي أو الأرجواني إضافة إلى صورة هذا الشخص، يكاد يكون بلا ملامح أو كأنه نيجاتيف لصورة، يبدو وسط الغلاف كفراغ أبيض أو كأن فنان سلويت قام بقص صورته من الغلاف، ويبدو كذلك أنه محاصر بين اللونين الرمادي والأرجواني، ومشرئب بعنقه في محاولة منه للخروج أو الاختفاء.
تعكس هذه الألوان معرفة عميقة بمدلولاتها وارتباطها الوثيق بقصص المجموعة بأبطالها وأحداثها، صورة هذا الشخص بلونه الأبيض: هذا اللون الذي يحوي داخله كافة ألوان الطيف المرئي، إنه لون الثلج والقطن والسحاب والحليب وصور الملائكة، لون فساتين الزفاف ولباس الإحرام والأكفان، يمثل النقاء والبراءة والطهارة والسلام والأمان الذي تبحث عنه أبطال القصص دون جدوى.
يعد اللون الرمادي من الألوان الحيادية، يترك في النفس شعور عدم التميز أو حب الظهور، يميل محبو هذا اللون كأبطال القصص إلى العزلة والوحدة والانطواء، يدل على الحزن والاكتئاب وعدم وضوح الرؤية.
أما اللون الأرجواني يحمل دلالة الإبداع والغموض والحكمة والإثارة وله أيضا دلالات روحية وصفات خارقة للطبيعة تظهر جلية في كثير من قصص المجموعة.
انتقل مرة أخرى إلى عنوان المجموعة وعنوان قصتها الأولى، وعناوين تقسيماتها الداخلية، وتكرار كلمة فراغ بمدلولاتها اللغوية والفيزيائية والنفسية، فالفراغ في اللغة يعني الخلاء أو العدم، وفي الفيزياء هو حيز خالٍ من المادة بصورها الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية، أما على المستوى النفسي يشعر الإنسان بالفراغ لأنه يفتقد وجود شيء ما في حياته أو نتيجة إصراره على بلوغ الكمال في حياته أو علاقاته، والمثالية المفرطة، وكذلك عندما يتخلى الإنسان عن نفسه بقصد أو غير قصد، مما يؤدي به إلى الإصابة بالقلق والملل والاكتئاب والشعور بالذنب وعدم الرضا والشعور بالفشل والفقد.
وجدير بالذكر قد يشعر شخص ما بالخواء والفراغ الداخلي رغم انشغاله التام على المستوى المهني وازدحام حياته ووقته بالأعمال والمشاغل.
إن أبطال قصص المجموعة تشعر بهذا الفراغ والخواء الداخلي، يعانون من الاكتئاب وانعدام الاستمتاع أو التلذذ بالأشياء، يائسون، محرومون ممن يشبع حاجاتهم العاطفية والنفسية منطوون على أنفسهم، يتحركون في فراغ من الحزن.
وعود إلي كتاب فلسفة الوجود لنقولا حداد الذي أتى ذكره لمحا مرتين في القصة الثانية " رائحة سكر محروق" لم يأتِ هذا الذكر عرضا أودون قصد، بل كان إشارة ذكية من الكاتب، فهذا الكتاب الذي يجمع بين العلم والفلسفة يتماس ويتناص ويتناقض مع عالم قصص المجموعة وعنوانها.
يقول نقولا حداد في فلسفة الوجود: الوجود المادي هو المادة المتحركة التي بدونها لا نستطيع أن نتصور المكان والزمان فالحيز الذي تشغله المادة هو الذي يحدد المكان وما وراءه مجهول في حكم العدم. إنه تعريف الفراغ الذي يقصده الكاتب، الوجود غير المادي لمحمد سيد عبد الفتاح عاشور يقول فؤاد مرسي في قصته فراغ أبيض بحجم كائن مختفٍ: راحت المحاولة هباء، فالصورة التي توقف عندها الأخصائي الاجتماعي طويلا لا يوجد بها أحد سواه، حقيقي أنه يشغل جانبا واحدا منها، مما يوحي بأن أحدا كان يقف إلى جواره ويشغل بقية الصورة، لكن المساحة الباقية لم تكن سوى فراغ أبيض يتسحب بقوة تجاه الأخصائي الاجتماعي ويبتلع جزءا من جسده.
هل كان محمد سيد عبد الفتاح عاشور من صنع خيال الأخصائي الاجتماعي ام أنه كان ظلاً له هو نفسه أم كما تساءل نقولا حداد في كتابه: موضوع كتابنا الوجود المادي بقي أن نسأل: هل يوجد وجود آخر غير مادي كما يزعم بعض المفكرين والمتبحرين في الفلسفة؟
وعكس ما يريد فؤاد مرسي إيهامنا وإيصاله لنا أو تصديقه عن وجود عالم آخر موازٍ لعالمنا من أطياف وأرواح وقوى ما وراء الطبيعة يفند نقولا حداد: ما دمنا لا نحس بالروح كما نحس بالجسد والحياة والعقل وكما نحس بالكهرباء والمغنطيسية أيضا فلا نستطيع أن نسلم بفرض الروح، نريد برهانا إن تعذر الشعور.
وكأن فؤاد مرسي في مناظرة مع نقولا حداد نكتشف أن بطل قصة رائحة سكر محروق ما هو إلا طيف شخص يبدو أنه عاش في غيبوبة طويلة أو كان مصابا بالزهايمر فقد ذاكرته لم يعد يتعرف على أفراد عائلته التي يكتشفها من أحاديثهم، زوجته التي يبدو أنه عاش معها علاقة مضطربة وابنتيه الكبرى التي تشبه أمها والصغرى التي تشبه أمه بكل حنوها وعطفها، وقربها منه ومعرفتها بما يحب، إنه هذا الجسد الأيثري الذي خرج من الجسد المادي بالموت، ويرد نقولا حداد على فؤاد مرسي: لا نستطيع أن نسلم بلا برهان بوجود هيكل روحاني سواء أكان أيثريا ماديا أو غير مادي بحيث أن هذا الهيكل يؤثر في الدماغ والدماغ يؤثر فيه ويتفاعلان وهما في طبيعتين مختلفتين كل الاختلاف.
وفي قصة الهازم والمأزوم وعكس تقرير مفتش الصحة: علي مات عقب نوبة من التشنجات أدت لتوقف مفاجئ في عضلة القلب. يرى الراوي: لكني أظن أنه مات عقب عراك وهمي مع كائن لا يراه ولا يسمعه غيره، يحضه دائما على ارتكاب حماقات غريبة.. كان الكائن -حتما- يحاول خنق علي الذي حاول فك اليد القابضة عن عنقه، حتى إنه خمش وجهه بعنف وأسال منه الدم، دون أن تنفك القبضة عن رقبته في إصرار غريب على إنهاء حياته.
يتساءل نقولا حداد في إنكار: إذا كنت لا تفهم هذا المجهول فكيف عرفت بوجوده؟
في قصص القسم الأول فراغ أول وضف عليها قصة الهازم والمأزوم التي أرى أنها كان يجب تضاف لقصص هذا القسم يشترك أبطالها في أنهم مرضى نفسيون بعضهم كانوا نزلاء مصحات نفسية والبعض الآخر خرجوا منها أو عاشوا خارجها ففي قصة استراحة نصطدم بنزيل المصحة النفسية علي صديق الراوي هذا الشخص المثقف الذي لا يحمل معه شيئا غير كتبه ومجلاته، ويبدو أنه عانى في حياته صعوبات ما أو تعرض للظلم أو القهر يقول علي عندما رأى نظرة تساؤل في عيني صديقه: اطمئن أنا لست مريضا.. فقط تعبت من رحلة السفر اليومية التي لا تتوقف، فقررت أن أستريح قليلا لألتقط أنفاسي. لينتهي به المطاف خارج المصحة النفسية مشردا على رصيف محطة القطار بكل ما تحمل من رمزية يخاطب أناسا لا يراهم أحد.
وتتويجا لقصص هذا القسم أو الفراغ تبهرنا قصة كباش برباره في مشهد فانتزي يقرر مجموعة من الأشخاص لا نعرف أي رابط بينهم غير أنهم مروا جميعا بتجارب انتحار فاشلة أن يذهبوا في رحلة عبر النيل إلي البر الغربي بمدينة أسوان، بما يرتبط لدينا بالموت ومقابر وادي الملوك ووادي الملكات، يصطحبون معهم هذا الشخص المبهم الذي حاول الانتحار مرارا ويحمل معه بروفة كتاب من تأليفه والذي قرر فجأة أن يغير رأيه بالبقاء إلى الذهاب معهم وكأنه متجه نحو قدره، يدخل هذا الشخص في معركة مع كبش ذي قرون خطف منه الكيس الذي يحتوي على بروفة كتابه وينجح أخيرا في الإمساك بقرني الكبش ولكن بعد فوات الأوان وتطاير صفحات الكتاب في الهواء، لينفجر في الضحك لا نعلم إن كان من الموقف أم على مصيره، ليكتشف مرافقوه بعد فترة موته في سلام: نادينا عليه ليلحق بنا قبل أن ينفد اللحم، لم يرد، اتجه إليه زكريا ووقف أمامه، كانت عيناه مصوبتين نحو السماء وعلى وجهه ابتسامة عريضة.
إنها ابتسامة الخروج من ضيق الحياة بكل ما عانى فيها إلي عالم آخر من البراح والسلام والطمأنينة.
أما قصص فراغ ثانٍ يجمعها الفراغ العاطفي والإحساس بالفقد، أو الاحتياج النفسي للحب والحنان.
رفيف أجنحة الحمام قصة مؤثرة لشاب يعاني مرضا ما بالقلب يشعر بالوحدة والاغتراب في شوارع القاهرة وميادينها، حلمه البسيط أن تأتي إليه حبيبته في هذه اللحظة التي شعر فيها بالاحتياج إليها وأن يمسك بيدها ويسيران تحت المطر، أن يبلل شفتيه برشفات من زجاجة بيرة ويتناول معها وجبة سمك مشوي لكن حبيبته لا تأبه لرسائله ومكالمته: عادت إلى السرير اللاب توب وكوب الكاكاو الساخن ونقرت (لايك) على كل ما قابلها من تعليقات جديدة في صفحتها على الفيس بوك، لكنه أخيرا يتلقى منها مكالمة
-أنا لست لك.
لم يحتمل قلبه الضعيف إجهاض حلمه البسيط تمدد علي الرصيف أول شارع عماد الدين في مشهد فانتزي: تحسس قلبه بأسى، ونظر إلى الحمام المحوم حوله ومات.
وفي قصة نقطة ارتكاز نستشف علاقة مبهمة غير مكتملة لا نعلم ماهيتها بين شاب مريض بالاكتئاب وسيدة انفصلت حديثا عن زوجها، لا تحس بأي مشاعر سلبية تجاه انفصالها، تتناول الطعام بشهية، وتهمل أخذ أدويتها عندما سألها كيف تم الانفصال رغم تعلق زوجها المرضي بها قالت: الأمر تم بكل بساطة، وكأنه لم يكن هناك شيء بيننا من الأساس.
أما قصة مقهى الحرية فهي عزف على نفس الوتر علاقة غير مكتملة بين شاب وفتاة مغتربين في القاهرة، كان بالنسبة إليها هو محور حياتها، يتقابلان في أي وقت، يجوبون أرجاء المدينة: سرنا في شوارعها.. تناولنا أطعمة محلاتها، تعودت أن تشرب نفس نوع سجائري، وحين تكون وحيدة تذهب إلى مقهانا المفضل. وفجأة تتغير سلوكياتها نحوه لا ندري لماذا: منذ عشرة أيام لم أرها.. يبدو أنني تعودت رؤيتها والحديث معها في أموري الخاصة. تفاجئه: كان بودي أن نتقابل اليوم، لكني رتبت لقاءات كثيرة، ليس من بينها لقاء بيننا. ويكتشف مصادفة أنها تكذب عليه وأنها لا تنظر أحدا. ويتركنا الكاتب أمام تكهنات محاولة ابتعادها عنه.
وفي قصتي الأسطى رجاء وجثمان ممد على الرصيف بارتياح نموذجان لسيدتين مكافحتين تبحثان عن الاستقرار والحنان المفقود الذي تجده الأسطى رجاء في نظرة الراوي: حدقت فيها فابتسمت بصفاء، لوحت لي بحماس وحرارة وابتسامة حزينة، كأنني جئت لتوديعها هي. أما البائعة المتجولة التي سقطت قبل صعودها الرصيف ولم تستطع الوقوف تجد أخيرا الراحة التي افتقدتها طوال حياتها بين الأيدي التي حملتها لتتمدد أخيرا فوق الرصيف بارتياح: أشفقوا عليها من ارتمائها هكذا في نهر الطريق، قرروا أن يشبكوا أياديهم تحت جسدها ويرفعونها إلى الرصيف. كانت مرتاحة للأيادي التي حملتها بحنو ورفق.. سحبت نفسا طويلا، تنهدت، فيما بدنها استسلم كجثمان يمددونه كيف شاءوا، ويصنعون من الحقيبة وسادة لرأسه.
ومرورا على القسم الثالث – فراغ ثالث – نجد أن قصصه تتناول مجموعة من المهمشين ففي الهازم والمأزوم تتعرض لحياة على صديق الراوي ولا نعرف إن كان هو أيضا علي المثقف نزيل المصحة النفسية ثم المشرد على رصيف محطة القطار في قصة استراحة هذا الشخص المهمش الذي خرج من المصحة النفسية وعاش وحيدا لا يجد أي اهتمام حتى من أقرب أقربائه – أخيه – ويموت أيضا وحيدا كما عاش وحيدا بعد تناوله جرعات خاطئة من الأدوية التي يتناولها وتعرضه لنوبة تشنجات كما جاء في تقرير مفتش الصحة.
وفي قصة القصير والبدين صورة لشخصيتين ضعيفتين يعيشان على هامش الحياة، كل ما يملكانه هو إرادة فرض السيطرة على مربع من كراشي القطار المزدحم القصير النحيل ضعيف البنية يجلس على كرسي ويضع حاجياته على كرسي آخر إلى جواره ويمدد قدميه على الكرسي المقابل، يستشعر أنه ملك هذا المربع وكلما سأله راكب: أجاب مسرعا أن واحد من شاغليهما في الحمام والآخر يبحث عن طفله التائه في القطار، يقتحم عليه هذا البدين نتن الرائحة مملكته ويجبره على التخلي عن سلطانه ويهرب من المكان حاملا حاجياته بعيدا لينصب البدين نفسه على هذا المربع: وقف البدين برشاقة وبدل مقعده، بحيث صار مواجها للطريق، شغل جسده مقعدين كاملين، ومدد قدميه على الكرسيين المقابلين وهو يوسع بينهما بصورة ملحوظة، أخرج سيجارته من جيبه، امتص دخانها بنهم واستمتاع........ فيما هو يتمدد كمالك القطار.
وفي قصة صوت غليظ خشن لامرأة بدينة، سمراء، متغضنة الوجه هذا العنوان الطويل نسبيا الذي يصف لنا هذه الزوجة التي لا نعرف إن كانت متسلطة ومتعجرفة أم أنها مغلوبة على أمرها، نستشعر تآمر ضمني بين زوجها وكمساري القطار الزوج يذهب للحمام ويتركها بلا نقود قبل مجيئ الكمساري الذي: لم يعجبه طريقة ردها المتعجرفة، وأصر أن تقطع تذكرة لنفسها حتى يعود ذلك المزعوم. وفي النهاية أتى زوجها: تظاهر بأنه يسوي هندامه وهو قادم من آخر العربة، حيا الكمساري، تبادلا سلاما كأنهما يعرفان بعضهما جيدا، جلس قبالته وأخرج علبة السجائر، قدم للكمساري سيجارة، أخذها منه ببحبوحة دون أن يوقف قلمه عن استكمال مراجعة دفتر التذاكر. وكأنهما أرادا أن يقوما بتأديب الزوجة أو الانتقام منها.
أما قصة مبنيان متلاصقان تعرض لنا صورة موظف أرشيف منسي في مستشفى للأمراض النفسية يعيش وسط كومة من ملفات المرضي، وصوت مرحة كئيب لا يستطيع فصلها لارتباطها بنفس مفتاح النور، يدخن سجائره ويتأمل من شرفة غرفته مبنى مجاور غامض وكأن سطحه كان معدا لأن يكون مسرحا خشبة مسرح مهملة ومقاعد مكسرة، يرمي ذات مرة بعقب سيجارة مشتعل فيندلع حريق في هذا المبنى الملاصق وتصل ألسنة اللهب إلى غرفة الأرشيف في الدور الثاني وفي محاولته لانقاذ المرضى المحتجزين في عنابر الدور الأول رجال ثم الدور الثاني حريم، يسمع أصوات آتية من عنبر الحريم: تناهى إليه من الداخل أصوات غناء ممتزجة وزغاريد وتصفيق، تشبث بعوارض الباب ليطالع ما يجري في الداخل من كوة صغيرة في أعلاه، كانت المريضات قد ضممن الأسرة إلى بعضها وحولنها إلى خشبة مسرح أكبر من المسرح المهجور في المبنى المجاور، فوق الخشبة مريضة تؤدي دورا يشبه هنومة في فيلم باب الحديد، فيما باقي المريضات افترشن الأرض، تطالعن ما يجري أمامهن على خشبة المسرح، وهن يصفقن ويزغردن بحماس، ووجوههن تشع فرحة لم يرها من قبل.
إنها فرحة غير مكتملة تحاصرها النيران من الخارج.
وأخيرا قصتي القسم الرابع فراغ لا نهائي، نعم إنه الفراغ اللانهائي الذي نعيش فيه، فراغ الذكريات، نلجأ إليها كلما ضاق بنا الواقع، ففي قصة الصورة للذكرى الرجل السبعيني فاقد الذاكرة صاحب محل مكواة الرجل المهنة التي اندثرت، وصورته وهو في الأربعين من عمره والمعلقة في غرفة الجلوس التي أراد أن يترها للذكرى وتفرق أولاده من حوله بنته التي سافرت مع زوجها وابتنه الصغير الذي مات غرقا والكبير الذي سرق مفتاح الدكان وحوله لمحل لبيع مستلزمات السيدات، ينسى الأب كل شيء ولا يتذكر سوى مفتاح الدكان محل مكواة الرجل: وبين الحين والآخر يخرج إلى الشارع، يقطعه جيئة وذهابا، يحملق في وجوه أصحاب المحال والعاملين فيها، ويبحث بين اللافتات عن دكان مكوجي الرجل الذي كان هنا وترك لدى صاحبه جلبابا لم يتسلمه حتى الآن.
وحسنا ختم الكاتب مجموعته بقصة ناظر محطة العريش، تعود بنا للوراء لنتذكر قطار الشرق من مصر مرورا بفلسطين: فيما صاحبي يحكي لي عن محطة قطار العريش التي كانت هنا. قال: إن القطار كان يأتي من القاهرة إلى هنا، محملا تحمل أجنابهم وحقائبهم رائحة طمي الدلتا، ويأخذ ناسا تبرق في عيونهم رمال الصحراء. إنها إشارة ذكية في النهاية عن هذا الهم القومي الذي افتقدته قصص المجموعة.
وإن ذهب نقولا حداد في كتابه فلسفة الوجود بالقول: تحاول أن تثبت لي وجود الروح وخلودها، فأرجوك أن تُفهمني أولا ماهي الروح لكي أعلم ماذا تريد أن تثبت، وإلا فكأنك تريد أن تثبت لي وجود الأحرف الثلاثة – ر. و. ح. – وهي لا تحتاج إلى اثبات، هي موجودة بين الحروف الأبجدية.. أ. ه. والنتيجة: أنه لا يوجد وراء الوجود المادي سوى الفراغ اللامتناهي – العدم. فإنك تستشعر في قصص فؤاد مرسي وجود هذه الأرواح والكائنات غي المادية، إنها تتكلم معك وتحاورك على صفحات المجموعة وتتحرك أمامك في فراغها، وتتفاعل مع أبطالها.
وفي الختام أرى أن مجموعة فراغ أبيض بحجم كائن مختفٍ مجموعة ملهمة ومهمة وجديرة بالقراءة وسط الكثير من الغثاء وأن قصص فؤاد مرسي كما جاء في قصة الاستراحة: لم أستطع تمييز الحقيقي من الخيالي فيها.
حاتم رضوان
أحبائي
ردحذفأبنائي وبناتي
الكبير الدكتور حاتم رضوان يكتب عن الكبير فؤاد مرسي وحروفه الإبداعية
فؤاد مرسي رفيق درب منذ الثمانينيات وأعماله الإبداعية تغوص في بئر المواجع الإنسانية
وفي زمن ندر فيه الاهتمام بالإبداع الحقيقي والمبدعين الحقيقيين يكون على المخلصين كحاتم طرق الأبواب النقدية
لحاتم رضوان وفؤاد مرسي كل التحية
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم إلى حسن التعليق وآدابه...واحترام البعض للبعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
نشر هذه الثقافة بين كافة البشر هو على الأسوياء الأنقياء واجب وفرض
جمال بركات...رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة
والدنا الروحي التقي النقي عميد الأشراف الأديب العربي الكبير المعلم ونهر العطاء المتدفق تجاه الخير دون حدود ودون مقابل ودون ودون تفرقة عنصرية أو عرقية أو طائفية عميد الأدباء جمال بركات
حذفحفظك رب العالمين لمحبيك وتلامذتك وأولادك ونحن منهم
أبونا الروحي الحبيب العزيز على القلب والنفس الأديب العالمي الكبير ومعلم الأجيال ناشر ثقافة المحبة والتسامح في العالم ، والذي يعطي للجميع من نبع علمه وثقافته دون النظر إلى ألوانهم وعقائدهم وجنسهم ودون أن يبحث عن الثمن أو يقبله عميد الأدباء جمال بركات
حذفحفظك الرب ورعاك يا أبانا الحبيب
صدقت مبدعنا الجميل جمال بركات، متفق مع حضرتك تماما، لا يجرؤ أحد أن يمسسهم بسوء، فإبداعهم خير مدافع عنهم،
حذفمحبات وتحيات للصديقين الغاليين على القلب، حاتم رضوان، وفؤاد مرسي... ربنا يديم المحبة.
ردحذفإرسال تعليق