قابلت بوشكين فى " معرض الكتاب " 

حسناء رجب




معرض الكتاب  وأناس قادمون من جميع أنحاء العالم وندوات تجتمع ، وحركة دائبة فى البهو والمسارح الصغرى الملحقة به ، المداخل مزينة بالعلم المصرى ، والشعارات الملصقة فى كل مكان على شكل ألواح عريضة ، يعطيها الحديد المسلح صلابة ومقاومة ، الأسطح الحاملة لأسماء دور النشر ، والحوائط الرقيقة ، وكما الحال لمجسم لشخصيات لم أقابلهم على أرض الواقع ولكنى أقرأ لهم بشغف مذ كانوا يكتبون بالقلم الرصاص والحبر الأسود . ملابس الرجال والنساء كأنها كرنفال وأتفرج على الوجوه  والأجناس والملامح متحف حى متحرك يعرض صورا للإنسان فى كل مكان من قشرة الأرض ،  أوركسترا تعزف وفرق غنائية يقومون بالإيقاع على  البيانو أو الأرجن ، وموسيقى متقنة لدرجة أننى وجدت نفسى أتمايل برأسى  معها ، وأدق دقات خفيفة بقدمى على الأرض ، تحسست ذبذبات الأرض وقلت فى نفسى أن للموسيقى أسرارا لا تضيء فى كمالها إلا بفضل تفاعل الكون كله ، حتى الأسفلت الأسود يرقص ويدندن . سيدة على المسرح تعزف القانون ، عزفها قوى وعميق وتعطى انطباعات أن الحياة لا سر بها ، السيدة تجلس كشجرة جميلة وضعت على المسرح ، وما كان منها إلا العزف بدفء  الحرارة التى تتصف بها الروح ، وبقدر استعدادنا نحن المستمعون أن نتغلب على الوقوف فترات طويلة على أقدامنا . استغرقنى التفرج وحدى  وقت لم أستطع السيطرة عليه ، وتذكرت أننى لا أحمل معى هاتفى الجوال،  إذ أنه اجتهد لآخر نفس أن يظل ممتلئا بالطاقة ، حتى أننى نسيت كل شيء عن التقاط صور وتوثيق تلك اللحظات لعدم توافر أداة التنفيذ بالطبع  ، والحقيقة أننى أحببت - ربما - فى اللاشعور أن لا أحمل كاميرا .  لا شيء أكثر خداعا من هذه الحمى الظاهرية التى تسيطر فى الحقيقة على العقل فتقوم اليد بالمهمة وتأخذ على عاتقها التقاط صورة ، وتلهى ذات العين والقلب بالإحساس الكامل فى تلك اللحظات ذات العناية الإلهية ..


استغرقنى التفرج والمشى زمن لا يقع تحت أى حساب زمنى ،  امرأة تدفع عربة طفلها الصغير ، ورجل يتصفح هاتفه فى مقهى أبو عوف ، وسماء مشمسة ، عربات التبرع بالدم ، وروائح ماكدونالدز والبطاطس والقهوة والسجائر تطفو فى الهواء ، وطفل شقى يحاول أن يضع كتابه بحجم أكبر منه فى كيس بلاستيكى ويبكيه صغر حجم الكيس .  خطواتى كانت تنتقل برشاقة من مسرح إلى آخر ، من دار نشر إلى أخرى ، حتى سور الأزبكية العريق المهاود لم يفوتنى  لأتصفح وأقتنى الكتب التى أريد قراءتها ، بالمناسبة اشتريت - مسرحيات  -  لعشقى لهذا النوع من الأدب ، وكما لم يسبق لى أن تمكنت من فعل ذلك بدرجة عالية من التركيز ،  ذلك لأسباب تجمع بين حضور الندوات ورعاية الأبناء ! . حتى نسيت كل شيء عن هاتفى الميت الذى تركته مع ابنتى على سبيل الشحن فى البقعة التى كانت تستقر فيها ، سرت حاسة غامضة  أو غريزة خاصة ، أنها تبحث عنى ، ثم ما لبث أن بدأ عقلى فى عمل سيناريوهات كثيرة عن المكالمات التى وردت لى ، وحوارات مثل : - أين أنت  ؟ -  هنا فى المعرض؟ -  طيب ليه مش بتردى ؟ - التليفون فصل شحن ؟ - وتنتهى الحوارات بأن عددا من الصور المأساوية درات بذهن الطرف الآخر  لم يستطع السيطرة عليها من فرط تداعيها ولخطورة الطريق الذى أسلكه يوميا والذى أطلقنا عليه سويا  ( طريق الموت ) . لكنى فوجئت عندما اقتربت من ابنتى أن المكالمات الواردة لى ، ردت على معظمها بما تيسر لها ، وحمدت الله على ذلك . بل أننى لم أعش فى زمن لم يكن فيه كل هذه القيود ، أن تحمل هاتفك الجوال ليس بالشيء الحلو فى جميع الأحوال ، فأنت ملاحق كالظل وغالبا مع رنة التليفون والحاحه مهما طال أو قصر ، سيدق فى عقلك بأن تستجيب وترد .. 
ابنتى ما لبثت أن قالت لما رأتنى  : هل قابلتى بوشكين ؟ 


شملنى اضطراب عظيم وخفت ، فقد استوعبت بعد ثانية لا تقع أيضا تحت أى قياس أنها تمهد لأمر لطيف جدا ، وأنها تكسر قواعد الحوار بيننا بهذا المزاج الوردى ، سألتها : أين هو ؟  وأنا أضحك وأقسم بالله أن قلبى كان يدق وهى تشير بابتسامة إلى مجلد ضخم يحمل مقتطفات عن حياته ، أشعاره ، ورواياته ، منزله . بوشكين العظيم . جلست على الطاولة ومددت يدى بعصبية للمجلد المهيب ، وقلت : أهلا يا شاعر ، كانت صورته كنبيل وفارس ومبارز عظيم ، أحمر الوجه ، أكرت الشعر ، فاخر الثياب ،  حملقت فيه بهدوء  لأنه كان بإمكانه أن يعيش مدللا مترفا من دون أى هموم ، لكنه تربى على أفكار الحرية  ومن المؤكد أنه اطلع على قصائد اللورد بايرون وكذلك أدب شكسبير  ، خيل لى أنه يحدثنى فقال كلاما روسيا كثيرا لم أفهم إلا القليل منه :   كيف حالك ؟ وحسنا ؟ لقد فقدت أنا الآخر بعض أحبائى ،  وكل حاجة كانت على ما يرام ، لكن مؤخرا ساء كل شيء ، لا شيء صحيح ، هذا سخيف ! لا تضايقنى بالعتاب ، أنا لم أشقى بالحب ، أقسم لك ، وأخبرنى عما إذا كنت أكتب الشعر ، فضحكت وقلت له : " على خفيف" كنت أطمئن نفسى أنه يكلمنى ويعاملنى كقارئه له ، وربما الفزع هو الذى دفعنى لخوض مناقشات لا قبل لى بها ، وأقول لنفسى فليكن عملاق فى كل شيء ولكنك يا بنت على الأقل بارعة فى عمل ملفوف ورق العنب ، وشديدة البراعة فى البكاء عندما تقرأين قصة حزينة . ورحت أعدد حسناتى بالحماس نفسه لمقابلته ، وبدلال سيدة يطيب لها رهافة الشاعر وأغنياته ، قصائده  آنذاك ، بهتت فرحتى قليلا وشق قلبى حزن أثناء إقامتى الخيالية فى منسكه فى المجلد الكبير  ، بيته جميل مزخرف بشكل مختلف عن البيوت الروسية ، سريره شديد الروعه ، مكتبته بالغة الضخامة ، أريكته جلد طبيعى ، بيانو داكن اللون وقد كانت زوجته الجميلة وحبيبته تعزف عليه كل المقطوعات المحببة له . خطر لى أن أساله ولأن قلبه كبير وموهبته التى تحيل الشعر إلى شيء ساحر يخطف الأبصار والعقول ، حتى عقول أعداء الشعر نفسه ، خطر لى أن أسأله : - هل خفت الموت ؟ 

- لا . 
- كلنا نخاف الموت !  . 
قال : كلنا نخاف الحب خوفا حقيقيا لا هزل فيه ، خوفا يجعلنا نعامل الحب كما لو كان نقيصة ، و أنا مثلى مثل الآلاف من المخلصين حييت ومت  من أجل الحب ولا أحد يعيش إلى الأبد . وددت لو أنبت بكلمة لكنى أحسست أن كلامى سيكون بكاءا ، ربما التمعت عيناى حين باغتنى و فاجئنى بتلك القصيدة ..  وكم كنت بارعة فى الحفاظ على هدوء أعصابى .. 

أحببتك ، وما زلت أحبك 
فاللهب لم ينطفيء فى قلبى 
لا تدعى حبى لك يزعجك بعد اليوم 
فلا أريد أن أسبب لك المزيد من الحزن 
لقد أحببتك بصمت 
بكل خجل 
مزقتنى الغيرة 
أحببتك بكل صدق 
بكل حنان 
وأدعو الله أن يهيء لك شخصا آخر ليحبك هكذا ...

حسناء رجب

Post a Comment

أحدث أقدم