فن الكتابة

 الكاتب والروائي أحمد صبري أبو الفتوح




(1) قواعد قد لا تصدق دائما

فى بداية حياتى الأدبية وأنا فى الجامعة نصحنى كاتب كبير ألا أتحدث عما أنا بصدد كتابته، حجته أن الحديث عنه سيحد من انطلاق طاقة الإبداع لديك وتفقد الحكاية زخمها، وقد اتبعت هذه النصيحة سنوات عديدة، فلم أتحدث عما انتوى كتابته وفى نفس الوقت لم أكتبه، كنت أتعرف على نفسى أيامها، وأكتب القصة القصيرة متأثرا بأنبيائها العظام، تشيكوف ويوسف إدريس وغيرهما، والصارخ فى البرية يحيى الطاهر عبد الله، 


وبرغم اتباعى لتلك النصيحة لم أكن فى قرارة نفسى مقتنعا، فأنا بطبيعتى أحب الحكى، ومع مرور الوقت اكتشفت أننى عندما أحكى عن مشروعى الذى أكتبه تتبلور لدى الفكرة بأكثر مما لو اتبعت النصيحة، وأن تأثير الحكى على السامعين يجعلنى أرى مناطق القوة والضعف بل والسخف فيما أكتب، وكذلك مدى تماسك الحكاية ودلالاتها، وجدواها إن شئتم الحقيقة، بل وطرافتها وعمقها، كل هذا يتيحه لى الحكى، لكن أخطر ما يتيحه على الإطلاق هو توحدك مع مشروعك توحدا يجعلك تعيش مع شخصيات عملك بصورة رائعة، 


وشيئا فشيئا صرت أعرف ما الذى أحكيه وما الذى أضمره، كأننى أضن على شخصيات عملى بمعرفة ما الذى أنتوية بشأن مصائرهم وصراعاتهم مع أنفسهم ومع الآخرين، وكثيرا ما أتاح لى الحكى الوقوف على مناطق انقطاع التسلسل المنطقى فى الحكاية، ومن ثم مدى الحاجة إلى شخصية أخرى هنا أو هناك، أو صراع ما هنا أو هناك، ليكون تطور الشخصية الرئيسية منطقيا ومبررا، قد أقف على هذا وأنا فى مرحلة الحكى فأبتدع فى لحظتها وانا أحكى، وقد أقف عليه وأنا أخلو إلى أوراقى، وبرغم أن كثيرا من الاعتبارات الأخرى راحت تصب فى خانة النصيحة إياها إلا أن اقتناعى بعدم جدواها فى حالتى كان يزداد يوما بعد يوم وعاما بعد عام،


 فمثلا قال لى أحد المؤمنين بتلك النصيحة إن الحديث عن العمل قد يعرضك لسرقته، وما زادنى هذا التدعيم للنصيحة إلا إيمانا بعدم جدواها، فهذا الذى يسمع لا تسكنه الفكرة، وإذا سكنته فهنيئا له، لإنه حتى لا يعرف ينابيعها ولا خباياها، ولا المسكوت عنه فى الحكى، والذى ستفاجئ به المستمع عندما تصيغ مشروعك فى صورته النهائية،


 وأيضا قال لى أحدهم إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر، وضحكت، أى عين؟ والحقيقة أن من خوفنى من الحسد رجل يسارى جدا، وعلمانى جدا، ولكن لا تتعجب، فكثيرون منا نحن أهل اليسار والعلمانية يؤمنون فى دواخلهم بالحسد والرزق وكافة الموروثات، شأنهم فى ذلك شأن أى رجل من العوام فى قرية نائمة فى حضن الدلتا أو فى على طول الوادى.


المهم، امض أيها الكاتب فيما أنت مقتنع به، احك إن كان الحكى من طبعك، اختبر فكرتك على وجوه مستمعيك، اختبرها أمام نفسك لتشعر بنواقصها، واخل إلى أوراقك أو لوحة الأحرف فى كمبيوترك لتكتب ما حكيت وما ضننت على مستمعيك وشخصيات عملك بالإفصاح عنه، لا تخشى تبدد الزخم، أؤكد أنه سيزيد، لا تخشى السرقة فاللص لا تسكنه حكايتك، ولا تخشى العين فالعين هنا هى داخلك الماكر، الذى يبحث عن مناطق ضعف حكايتك، 


أذكر أننى حكيت لأصدقائى كثيرا من أحداث روايتى "تاريخ آخر للحزن" وكنت أكتب وأحكى، وأطور الكتابة على ضوء الحكى، وأخفيت عن شخصيتى الرئيسة فيها وهو الأستاذ منجى عبد الباسط أرسلان مصيره حتى لا أفجعه، ليكون حرا وآملا فى الغد، ولما قدته إلى مصيره بكيت وأنا أكتب، وكتبت تلك العبارة التى خلدته من وجهة نظرى "ترى، هل يموت المرء من جراء قلب منفطر؟"

Post a Comment

أحدث أقدم