مقدمة ترجمة المسرحية، عن أوسكار وايلد ومسرحيته “زوج مثالي”، الأديب الأيرلندي أوسكار وايلد، الكاتب والمترجم أسحق بنداري
مقدمة ترجمة المسرحية،
عن أوسكار وايلد ومسرحيته “زوج مثالي”،
الأديب الأيرلندي أوسكار وايلد
Oscar Fingal O’Flahertie Wills Wilde
16 أكتوبر 1854 ـ 30 نوڨمبر 1900
وُلِدَ في دبلن بأيرلندا, وتوفي في پاريس بفرنسا متأثرًا بإصابته بالتهاب السحايا. ومن أهم أعماله الأدبية: صورة دوريان جراي, أهمية أن تكون جادًا, شبح كانترڨيل, بيت الرمان, من الأعماق, سالومي, مروحة الليدي وندرمير.
وهو واحد من عظماء الأدبي العالمي ممن احتفظوا لأنفسهم بمكانةٍ أدبيةٍ مرموقةٍ حتى الآن. أليس هو من وصف نفسه في عبارته الشهيرة: “ليس لديَّ ما أعلنه سوى عبقريتي!”؟
في صيف العام 1893 بدأ وايلد في كتابة مسرحية زوج مثالي وأتمَّها لاحقًا في شتاء العام نفسه. وفي البداية أرسلها لمسرح جاريك Garrick Theatre حيث رفضها مدير المسرح, وبعدها قُبِلَت في مسرح هييماركت Haymarket وكانت المسرحية سببًا في تحقيق النجاح لهذا المسرح الذي كان في مسيس الحاجة إليه. فبعد العرض الافتتاحي في 3 يناير 1895, وصل عدد مرات عرضها إلى 124 عرضًا. وفي إبريل من نفس العام سُجِنَ وايلد بتهمة ارتكاب الفحش وعدم الاحتشام ثم أُزيلَ اسمه من المسرحية ونُقِلَ عرضها إلى مسرح كريتريون Criterion والذي عُرِضَت عليه من 13 إلى 27 إبريل.
نُشِرَت المسرحية للقراءة في العام 1899 ولم يُدرَجْ اسم وايلد عليها, والنسخة المنشورة تحتوي على اختلافاتٍ طفيفةٍ عن النص المُقَدَّم للتمثيل المسرحي؛ إذ أضاف وايلد العديد من المقاطع وأزال البعض الآخر. وأهم هذه المقاطع هي المتعلقة بوصف الشخصيات والتوجيهات والإرشادات المسرحية. بما يدلل على أنه أراد لها أن تكون قطعةً أدبيةً صالحةً للإمتاع الأدبي والذهني كما للتمثيل على خشبة المسرح, فجاءت التيمات والموتيفات الرئيسة في المسرحية من واقع الظروف المتعسرة التي مَرَّ بها وايلد في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ومن حياته أيضًا.
فمن ثم كان تشديده على أهمية الصفح والغفران عن خطايا ومثالب الشباب, والتغاضي عما اعتبره أمرًا لا منطقيًا بإفساد وتدمير حياة أصحاب المواهب من ذوي الحيثية الرفيعة في المجتمع, بسبب ذيوع الرياء الأخلاقي وازدواجية المعايير.
فسيرة حياة السير روبرت تشيلترن, السياسي المرموق, صاحب المسيرة السياسية الناصعة, والمكانة الاجتماعية العالية التي يُجِلُّها كل من حوله لدرجة أن اللورد كيڨرشام يطالب ابنه اللورد جورنج بأن يحذو حذو روبرت, إلا أنها تصبح على المحك عندما تطفو على السطح آثار الماضي المُلَوَّث. إذ يتعرض السير روبرت تشيلترن لابتزاز مسز تشيڨلي ذات الشخصية الماكرة سيئة السمعة, والتي تحوز خطابًا قديمًا له يبيع فيه تشيلترن أسرارًا وزاريةً عن أسهم شركة قناة السويس مقابل المال. خطيئة الشباب الوحيدة تطل برأسها القبيح بعد زمنٍ, فإما أن يرضخ لابتزاز مسز تشيڨلي ويدعم مشروعًا احتياليًا استثمرت فيه هي وأصدقائها, أو تفضح ماضيه وتقوض حياته قاطبةً.
وإن كان السير روبرت تشيلترن يُصور أزمة أوسكار وايلد الشخصية عندما حانت لحظة سداد فواتير الماضي, فإن اللورد جورنج يُجسد ما في وايلد نفسه من التأنق والرفاهية والتمرد على أخلاقيات المجتمع الڨيكتوري التي كانت تتسم باحترام الحياة الأسرية والقانون والإخلاص العائلي والسلوكيات الپيوريتانية, الظاهرة بشكلٍ جليٍ في حديث كل من أبيه اللورد كيڨرشام أو الليدي جرترود تشيلترن زوجة روبرت.
كما أن هناك ما يوضح وجهات نظر وايلد عن مكانة المرأة في المجتمع وآراءه المتحيزة ضد النساء. فبعض الجمل الواردة في الحوار يستحيل أن تمر بسهولةٍ في وقتنا الحاضر لما فيها من تحيزٍ جائرٍ باعتبار حياة الرجل وقيمتها أهم من حياة المرأة, وأن دور النساء هو التعاطف والرفق والصفح وليس إصدار الأحكام والإدانة, لافتراض أن النساء كُنَّ منبع الأخلاقيات في العصر الڨيكتوري, فالحري بهن من وجهة نظره, أن يتجاوزن عما قد اقترفه أزواجهن من أخطاءٍ أو خطايا. وألا يبالغن ويغالين في تصوراتهن الأخلاقية والمثالية الجامدة التي تجسدها الليدي جرترود تشيلترن زوجة روبرت؛ إذ تظهر شخصية جرترود في حالةٍ من الحب الأعمى لدرجة أنها ترفض فكرة أن زوجها قد اقترف ما يشين في الماضي, بل تطلب منه أن يكذب عليها مُنكِرًا ذلك, فتتجسد فيها حالة البر الذاتي المتعسفة في الحكم, وإن كانت تقتنع في النهاية بوجهة نظر اللورد جورنج بالصفح والعفو.
إن كانت هذه الآراء المتحيزة ضد النساء من الاستحالة بأن تُقَدَّمَ بهذه الأريحية حاليًا, إلا أنها على كل حالٍ تعبر عن أزمة وايلد الخاصة بعد أن تفجرت الفضيحة المدوية عن ميوله المثلية.
أما الملمح المهم في مسرحية زوج مثالي بجلاءٍ لا لبس فيه فهو اعتراض وايلد الحاد وانتقاده اللاذع لحالة الرياء الأخلاقي والمعايير المزدوجة المتفشيتين في المجتمع وخصوصًا بين الطبقات العليا والأرستقراطية. بكل ما ترفل فيه هذه الطبقات من حياة البذخ والترف وما يموج تحت السطح من انحلالٍ أخلاقيٍ وإن ادعوا عكس ذلك وتزمتوا في إدانة من تُفتَضَح سلوكياتهم المعيبة. ويلمس القارئ ما في حياة هذه الطبقات من تفاهةٍ وسطحيةٍ بالغتين, من خلال المقاطع الحوارية لكلٍ من مسز ماركبي والليدي بيزلدن, وما يتسمُ به حديثهن من نزقٍ وتناقضٍ, فهن يقلن الشيء وعكسه في ذات الوقت.
وإن كان ذلك يخدم الطابع الكوميدي للمسرحية ولكنه يشي بضيق وايلد نفسه من المجتمع برمته, فالفساد الأخلاقي يستشري بين الجميع, فالكل يتشدق بالأخلاق, الكل يتحلى بالتدين الزائف, ولا توجد حدود واضحة بين الحياة العامة والحياة الخاصة, والويل كل الويل لمن يُفْشَى سره الدفين.
تنتمي مسرحية “زوج مثالي” إلى قالب كوميديا الأخلاق Comedy of Manners وفيها يعرض أوسكار وايلد مزجًا بين الهزل والأخلاقيات, وتَفَحُّصًا لجوانب الضعف الإنساني في مقابل الرياء المجتمعي العامر بالمفاسد المُحْتَجَبَة. الابتزاز بسبب افتضاح أخطاء الماضي في مقابل التشدد الأخلاقي الرافض لأخطاء الآخرين دون التماسٍ لأي عذرٍ. بما يستحق إنعام النظر وإمعان التفكير في العديد من الأمور الجدلية حيال الأخلاقيات الخاصة والعامة, استغلال السياسيين لنفوذهم وما تحت أيديهم من معلوماتٍ سريةٍ وتربحهم منها, ومدى تأثير ذلك على سمعتهم وصورتهم وحياتهم الخاصة. فضلاً عن اختلاف الرؤية إزاء مفهوم الحب والمراد منه؛ فهل يظل الحب غير مشروطٍ؟ فنتقبل ما حدث من أخطاء الصبا ونعفو كي ما تستمر الحياة, أم نتمسك بمفاهيم جامدة تفتقر للواقعية؟ بالإضافة لما يرسمه عن تفاصيل الحياة في مجتمع لندن في نهاية القرن التاسع عشر بما فيها من مباهج الموسم وحفلات الاستقبال, انتقاد مجلس اللوردات ومجلس العموم ومشاكل البطالة والازدحام السكاني وإعادة التوطين في المستعمرات والتعليم العالي للنساء.
يتناول وايلد كل ذلك بما يمتع القارئ أو المشاهد, بما له من لغةٍ أدبيةٍ رصينةٍ ورفيعةٍ؛ سهلةٌ في قرائتها, مُرهِقَةٌ عند ترجمتها ونقل وتصوير معانيها, بما يستدعي في عملية الترجمة استخدام لغةٍ عربيةٍ كلاسيكيةٍ معبرةٍ عن روح العمل وبلاغته الإنشائية. ولا يخفى على القارئ ما يُقدمه وايلد من دفاعٍ عن الحرية الشخصية والبحث عن المتعة والسعي في أثر الجمال, ثم وقوع الإنسان في محنة مواجهة مسئوليته الشخصية عما قد اقترفه, ومحاولته أن يبرر أخطاءه ويسوغها في محاولةٍ يائسةٍ لتجنب تحمل عواقب آثام الماضي.
نالت هذه المسرحية إعجاب النقاد والجمهور والقُرَّاء. حتى إن الأديب العظيم چورچ برنارد شو امتدحها واعتبر أن وايلد: “بالنسبة لي هو أكمل كاتب مسرحي. فهو يتلاعب بكل شيءٍ, بروح الدعابة, بالفلسفة, بالدراما, بالممثلين, بالجمهور, بالكون كله.”
وهذه المسرحية التي ما تزال تُعرَضُ على المسارح حتى وقتنا الحاضر, لم يقتصر معها الأمر على ذلك؛ إذ قُدِّمَتْ قصتها في أفلامٍ سينمائيةٍ مرارًا في دولٍ متعددةٍ, وأيضًا في معالجاتٍ تليڨيزيونيةٍ, كما سبق لإذاعة البرنامج الثقافي بمصر تقديمها في تمثيليةٍ إذاعيةٍ متميزةٍ من ضمن كنوز الإذاعة المصرية.
أرجو أن أكون قد وُفِّقْتُ في تعريب هذه المسرحية, وأتمنى أن تنال استحسان من يطالعها.
إسحاق بندري
إرسال تعليق