"شهوة الملايكة" للكاتبة سعاد سليمان،

 جدلية المتعلم الواعي مع الموروث الخاطئ

 عبد الرحيم طايع




عن دار روافد للنشر والتوزيع، صدرت المجموعة القصصية "شهوة الملايكة" للقاصة سعاد سليمان، المجموعة صدرت في 2014، كانت الإصدار الخامس لكاتبتها في ذلك الوقت، صدرت الطبعة في 76 صفحة، من القطع المتوسط، وضمت 42 قصة،



 تنوعت بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا (الومضة القصصية)، وقد حرصت القاصة، في نظام الترتيب، على وضع كل واحدة قصيرة جدا أمام أختها القصيرة، هكذا من أول المجموعة إلى آخرها. 

وجدت المجموعة لدى بائع صحف، في ركن خصصه للكتب القديمة، غير أنني، بعد قراءتها مرتين، يقنت من كونها مجموعة متجددة، على الأقل لحضور قضيتها في الأذهان بصورة سرمدية، وأخص حضورها الكثيف بمجتمعاتنا المتناقضة الضاجة بالجدل والاختلاف!
حملت الومضات روحا مختلفة عن القصص القصيرة، روحا فلسفية إلى حد كبير، في الوقت الذي كانت فيه القصص القصيرة أبسط من العمق الفلسفي بكثير، كانت حكيا خالصا، عمر بالجماليات الفنية طبعا، واللقطات الحميمة المدهشة، وكانت، في معظمها، بمثابة جدليات بين الذات المثقفة/ الكاتبة نفسها، وبين شخصياتها التي غالبا ما تجمعها بها قربى، ومن بين هؤلاء الأب والأم.

في النهاية ينتمي الشكلان إلى الجو القصصي العام نفسه، ولو كان ثم اختلاف!
في قسم القصص القصيرة كان للبيئة حضورها الطاغي في الأجواء التصويرية للنصوص، تحديدا البيئة الصعيدية التي تنتمي إليها الكاتبة أصلا، لم يكن هذا الحضور متمثلا في المكان وحسب، وإن نقصت معالم المكان ومفرداته نقصا لافتا، ولكن في اسمه أو إظهار الانتماء إليه بعادة ما، أو في ملامح فلكلورية تخصه، تراثه الشفاهي على وجه الخصوص.. وقد تكون استعاضت بذلك التراث الشفاهي عن الإمعان في وصف المكان، وذكر ما يميزه.. 

المجموعة عاجة بالقهر المتولد من الفقر والجهل والمرض الذي يعانيه مهمشون لا قدرة لهم على مواجهة صعوبات الحياة، ويزيد من هامشيتهم كونهم ينتمون إلى بيئة بائسة نائية عن المدينية. 
القصة الأولى "الرجل ذو العمامة": أب صعيدي يذهب إلى الكلية للاطمئنان على ابنته، تعلم بحضوره من زميل لها يقلد لهجته بتزيد وفجاجة، مشبها إياه ب"صعايدة المسلسلات التلفزيونية"، زميلها لا يعرف أنه أبوها، كمثلنا تماما، ثم يتوارى هذا الزميل، ونبقى مع خواطرها وهواجسها باتجاه الرجل الذي ندرك تدريجيا أنه أبوها، يتخلل ذلك حديث عميق عن الرجال الصعايدة، وتنتهي القصة نهاية مأساوية، تنتهي بإنكار الابنة للأب في مشهد حزين، نجحت تماما في التمهيد له، من خلال مونولوج طويل، لكنه صدمنا مع ذلك:
"كيف تركت أبي للدفع العنيف من ضابط الحراسة ولا أحميه؟
يجر قدميه يذهب إلى حال سبيله، تمزقت قدرتي على الوقوف فانهرت جالسة لا أصدق"
نلاحظ الفعلين المضارعين اللذين يظلان يرسمان حال الأب ذليلا في مخيلتنا (يجر/ يذهب)، يقابلهما الفعلان الماضيان اللذان يفيدان هزيمة خاصة وقعت للابنة، سقطت في إثرها (تمزقت قدرتي/ انهرت) كان هذا التقابل الألمعي قصديا غالبا؛ لأن ثبات مشهد الأب الذي تم إنكاره أولى بالتركيز من ثبات مشهد ابنته التي أنكرته؛ والمعنى أن التفكير في حاله الذي دفعها إلى الفعل السلبي الصادم أجدر بالالتفات!
أحسنت البداية بهذه القصة التي تفيد علما بكونها متعلمة وواعية، بينما محيطها الأقرب ليس كذلك بالمرة (تحديد مبكر لمسببات الصراع).

قصة "شهوة الملايكة"، وقد أرادت اللفظ عاميا هكذا، لأن المجموعة غاصة بالشعبيات التي تناسبها روح العامية المصرية وتناسبها اللهجات البيئية، القصة التي حملت المجموعة عنوانها، هي قصة الرجال والنساء والشهوة الجنسية والدين، الموروث الشعبي الديني على وجه الدقة، أم تراقب ابنتها وتلومها على أي انكشاف جسدي، ولو خفيفا ولو كعب قدم، صارخة فيها: 
"استري نفسك، حرام عليكي، بلاش تثيري شهوة الملايكة اللي على كتافك بيكتبوا حسناتك وسيئاتك"
وابنة ترى الملائكة نورا بلا شهوة، وتجادل أمها بلا جدوى، ثم تستعرض حالها مع الرجال الذين يتربصون بجسدها على الرغم من "الأكفان" التي ترتديها بسلطة الأم فلا تبدي منها شيئا للناظرين، في النهاية تذعن الابنة للأم الفطرية المخطوفة بغيبياتها:
"يا ابنتي: المرأة منا خلقت لتقر في بيتها، ومنه إلى القبر"
لكن تجيء النهاية ساخرة تماما:
"وعندما قررت في بيتي هربا من نزوات الرجال، طاردتني شهوات الملائكة حتى القبر"!!    
تقاوم القاصة القديرة موروثات شعبية ضاغطة بائسة لا تعجبها، وتفضح الخفاء الخطر للعوالم الهامشية، كما لا تفوت الفرصة فتعكس صورة واضحة لبطلتها قوية الظاهر ضعيفة الباطن والتي بحاجة ماسة إلى احتواء صادق دافئ.

Post a Comment

أحدث أقدم