جورج سيمنون: مأساة مضاعفة في حياة رجل العشرة آلاف امرأة، بقلم خديجة إبراهيم، المغرب
بانوراما أدبية- جورج سيمنون: مأساة مضاعفة في حياة رجل العشرة آلاف امرأة، بقلم خديجة إبراهيم، المغرب-سيرة ذاتية-شعر-فن-الكتابة الإبداعية-قصة-رواية-نثر-سرد-أغاني-سينما-دراما
عاش الكاتب البلجيكي جورج سيمنون (1903-1989) حياة حافلة بالمجد والنجاحات والمال والنساء. طاف العالم وتقلد الأوسمة الأدبية وكتب أربعمائة كتاب وذاق اللذة مع عشرة الاف امرأة. قد تكون هذه المعلومة الأخيرة مجرد مزحة منه لصديقه فلليني، لكنها التصقت به كما تلتصق الأساطير بالموهوبين أو المميزين الذين أحبتهم الدنيا وأحبوها.
لكن هذه الحياة انتهت على وقع مأساة مرعبة. مأساة ناء الكاتب بحملها حتى تجرأ يوما وكتبها بتفاصيلها في كتابه الأخير: مذكرات حميمية.
المأساة الثانية: ابنة تحبه
حدثت المأساة يوم 19 ماي 1978 في شقة بشارع الشانزليزيه، حيث رتبت فتاة في سن الرابعة والعشرين كل شيء حولها، ثم استلقت على بطنها فوق سريرها لتصوب رصاصة نحو قلبها وتموت في صمت. لم تكن الفتاة سوى ابنة سيمنون الوحيدة: ماري جو.
المأساة ليست في انتحار شابة موهوبة وجميلة. بل في كونها انتحرت لأنها تحب أباها حبا خارج كل نطاق. وأنهت حياتها لأنها لم تستطع تحمل ثقل اسمها وخيباتها. لم تستطع ببساطة تحمل حياتها.
بدأت العلاقة طبيعية. فتاة تحب أباها وتتعلق به كل يوم أكثر. لذلك لم يطرح الكاتب أسئلة كثيرة حين طلبت منه أثناء جولة عادية لهما في المدينة أن يشتري لها خاتم زواج. وبأسى يدمي القلب اعترف للمحاور الكبير برنار بيفو أنها أوصت في رسالة انتحارها بأن يوضع الخاتم فوق رمادها.
تركت ماري جو رسالة تقطر محبة لهذا الأب الذي أرادته لها وحدها. وبأسى مضاعف قال لبرنارد بيفو: لم يكن ممكنا أن أصل معها للحب الجسدي. ولمرتين أو ثلاث قال: ماذا كنت لأفعل؟ بل ماذا كنت لتفعل لو كنت مكاني؟
لم يكن أحد مكانه. هو لوحده تحمل الضربة. حاول أن يخففها بالبوح فكتبها. بل اعترف في كتابه عنها بكل نقائصه. اعترف بخياناته الكثيرة. اعترف بضعفه. اعترف بحبه لأبنائه. اعترف بكرهه لزوجته الثانية والدة ماري جو وقد بادلته كرها بكره. قال إنه يسامح كثيرا ولكن حين يقسو قلبه فلا سبيل أبدا لجعله يلين. كانت الكتابة الحميمية فكرته للخلاص من ثقل المأساة.
هل خففت عنه الكتابة ثقل المصيبة؟ يقول إن نعم. ثم يستدل على صحة كلامه بقراءته لنصوص ابنته. كان عاجزا عن ذلك لمدة طويلة. وخلال الحلقة قرأ مقاطع منها.
تقول النصوص أن ماري جو كانت مشروع شاعرة، ويقول والدها أنها جربت جميع أنواع الفن. كانت موهوبة في كل شيء ولا شيء. ربما لو لم تكن ابنة سيمنون لاستمرت في المحاولة. لكنها كانت تجرب كل مرة شيئا مختلفا بحثا عن نظرة اعجاب في عيون والدها. كانت تريد أن تكون جديرة به.
اعترف سيمنون لفلليني أنه عرف من النساء عشرة آلاف. واعترف أيضا أنه يحب بائعات الهوى ويعتبرهن نساء كاملات حنونات. بل وكان يجمع أحيانا بين أكثر من امرأة، ويستغرب من غيرة نساء حياته من بعضهن البعض. ممارسة الحب بالنسبة له تواصل بين كائنين. تواصل مباشر يجعله في جوع دائم للمرأة. كل امرأة.
هل عاشت ماري جو هذا الجو المشحون بالحب والكراهية؟ هل فشل سيمنون في منح ابنته حبا سليما كما فعل مع أولاده الذكور؟ ربما يجيب علم النفس عن هذه الأسئلة. لكن الأكيد أن علاقته المتوترة بأمه أثرت على علاقاته مع النساء.
المأساة الأولى: أم لا تحبه
لقد عاش حياته يحاول أن يجعلها تحبه وتفتخر به. لكنه نال اعتراف العالم بأسره بموهبته وعجز عن انتزاع كلمة اعجاب منها. كانت تفضل أخاه كريستيان، ولما توفي هذا الأخير خاطبت جورج قائلة: لماذا لم تمت أنت مكانه؟
علاقة سيمنون بأمه هي مأساته النسوية الأولى. بقي ساهرا على رأسها أثناء فترة مرضها واحتضارها. ومتأرجحا بين الحب والكره والأسى والندم والرجاء مرض ولزم الفراش. عندها قرر أن يكتب لها ولو بعد موتها. فكانت الرسالة الشهيرة: رسالة إلى أمي. قال لها كل شيء. ثم ارتاح ونام.
ماري جو أيضا كانت تحاول انتزاع اعتراف منه بأنها أهم النساء في حياته. كانت تغار بشدة من رفيقته تيريزا. بل أرادت أن تكون مكانها في قلبه وحياته وربما سريره. أما هو فقد كان يحبها. كان أبا رائعا ومحبا. لكن ما كانت تطلبه ماري جو فوق لاستطاعته.
توفي بعد ابنته بأحد عشرة سنة، ثم أوصى مثلها بأن تحرق جثته ويتم ذر رمادها في حديقة منزله بلوزان. انتشر جسده تماما فوق رمادها. وبالتأكيد فوق ذلك الخاتم الذي اشترته فتاة صغيرة لتربط مصيرها بمصير أب عظيم جدا أحبته حتى الموت.
إرسال تعليق