نهال حسن القويسني تكتب: صباح ١٩ أغسطس، الجانب الآخر من التاريخ، رواية للكاتبة ضحى عاصي
الكاتبة نهال حسن القويسني
لا أعتقد أن أحدا من الروائيين المصريبن، فيما أعلم، قد أقدم على مثل هذه التجربة التي قدمتها لنا باقتدار الأستاذة ضحى عاصي. وهي واحدة من الكاتبات اللاتي أعدن لي اهتمامي بقراءة الأدب العربي، يعد أن كنت قد هجرته زمنا طويلا لأسباب متنوعة.
هو ليس العمل الأول الذي أقرأه من إبداعها المميز، فهي تكتب عن شغف بعد أن تغوص بعمق شديد داخل الحدث والشخصيات والأفكار. دائما الفكرة جديدة، والتناول غير نمطي.
مرة أخرى تعطيك الإحساس أن هناك جهدا فكريا وعقليا وعاطفيا قد سبق مرحلة البدء في كتابة العمل.
وفي هذا العمل خلطة مثيرة جدا من لقطة تاريخية قامت برصدها من التاريخ الحديث، تاريخ الإتحاد السوفيتي وانهياره وتحلل عناصره. ومن منا لم يقف مذهولا امام (البيروسترويكا) وما تلاها من أحداث متلاحقة ومتسارعة. كلنا تابع الأحداث بأنفاس لاهثة، متتبعا الشق السياسي والتاريخي وتأثيراته على ميزان القوى في العالم. لكن لم يتطرق إلى أذهاننا آنذاك أن نتابع الشق الإنساني. البشر والأفراد والمواطنون الذين عاشوا حياتهم بين فكي النظام الشيوعي وتداعياته الحضارية، ثم وجدوا أنفسهم فجأة في فراغ رهيب وضياع مثير للرثاء.
ومن هنا جاء واحد من أسباب تميز هذا العمل الروائي الذي نحن بصدد تناوله اليوم.
حتى الشخصيات الرئيسية والفرعية، تم رسم ملامحها بأسلوب غير تقليدي. البطلة روسية الأم ومصرية الأب. هو واحد من هؤلاء الذين كانوا يذهبون إلى الإتحاد السوفيتي لنيل الإجازات العلمية في مختلف المجالات، ويرتبطون بالزواج من سيدات هناك، وقد يرزقون بأبناء يعتبرهم المجتمع الذي ولدوا فيه من أبنائه يعيشون في كنفه إلى أن يحدث الإنهيار، فتتبدل الأحوال ويبدأ الآخرون في التعامل معهم بصورة مختلفة.
وفي نفس الوقت، لا يعدهم المجتمع المصري من أبنائه الخُلًص. وهناك نماذج متعددة في مجتمعات مختلفة مر فيها الأبناء بهذه التجارب الإنسانية القاسية، فهي مشكلة هوية وانتماء وليس مجرد إختلاف ثقافي.
والحقيقة أن الأستاذة ضحى قد تناولت بالتحليل العميق مظاهر عدة من حياة البشر في التاريخ المعاصر، بما فيها تواجد أفراد من جنسيات معينة في بلاد مختلفة عن تلك التي نشأوا فيها، ثم ارتباطهم بأشخاص من تلك الأماكن. فربما جعلهم وجودهم في غربة ممتدة زمنيا في حاجة للإستئناس بعلاقة حميمة، لكنهم لم يفكروا في تداعيات هذا الإرتباط على المدى البعيد، ولا في ثماره التي تتمثل في أبناء يرزقون بهم في إطار هذا الإرتباط. ثم تأتي لحظة الصدام الحضاري حين يصطحبون أسرهم لدى عودتهم لأهلهم الأصليين، سواء،كانوا في الريف أو في الحضر. تظل النظرة لتلك الأطراف دائما انهم (خواجات). ناهيك عن إحساس الصغار الذين تربوا في كنف ثقافة مختلفة، وتشكل وجدانهم من كل تفاصيلها فكرا وعاطفة، ابتداء بالأم والجدود إن تواجدوا، إلى زملاء الدراسة والجيران وبقية التفاصيل.
والرواية تغوص في تفاصيل المجتمع الروسي بكل عاداته وأفكاره وشخوصه وذكريات صموده وأمجاده القومية، إلى أحلام الأجيال الشابة وطموحاتها واهتماماتها. تفاصيل ترسم لك صورة، لم يسبقها إليها أحد، لأعماق ذلك المجتمع من الناحية الإنسانية إلى أدق التفاصيل، وعلاقة أفراده بالدولة ونظمه الدراسية والعملية وعاداته الإجتماعية.
مما يجعلك تتأمل في الاختلافات الثقافية والتاريخية والجغرافية التي تمثل الفروق بين البشر، ومدى تأثير ذلك على الأفكار والسلوكيات والتوجهات..مسألة فعلا معقدة ومتشابكة يصعب الجزم فيها برأي قاطع.
الإيقاع في الرواية متناسب مع تلاحق الأحداث. كما أن اللغة المستخدمة سلسة جزل، تساعد القارئ على تتبع تطور الأحداث دون عناء، مع شرح للكلمات والمصطلحات الروسية، التي يرد ذكرها في السباق الدرامي، في الهوامش.
الرواية مليئة بالأحداث والشخصيات، لكنك ابدا لا تتوه ولا تفقد الرابط بينها وبين الشخصية المحورية (كاملة الإسناوي).
ولعلك تتوقف طويلا أمام شخصية رسلان، رغم عدم ظهوره في الأحداث إلا في فترات متباعدة وقصيرة نسبيا من حجم الرواية. هو نموذج آخر من تلك النماذج التي ولدت بمجتمع كان له تاريخ وقناعات وشخوص بارزة، لكن الإيديولوجية الشيوعية شكلت وجدانه الشاب منذ يفاعته حتى باعدت بينه وبين جذوره لفترة ليست بالقصيرة. ثم تأتي مجريات الأحداث لتغير مساره ومصيره بصورة درامية.
هو أحد الشخصيات الثرية جدا والملهمة في هذا العمل الروائي. لا بد أن تتوقف وتتأمل كثيرا في تفاصيله السابقة واللاحقة. كيف تغيرت أحواله إلى وضع لم يكن يتصوره في يوم من الأيام. ولسوف تتوقف طويلا أمام ما آل إليه حاله في نهاية المطاف.
الرواية تطرح أمامك أفكارا عميقة جدا، تأخذ بتلابيب عقلك فلا تفلتها. الأفكار والأحلام والأيديولوجيات، كيف تصاغ؟ وكيف يتم تنفيذها؟ وكيف تؤثر على فكر وحياة معتنقيها؟ ومن الذي يدفع الثمن الباهظ حين تتبدل الأحوال ويتغير الفكر؟ زحام أفكار وتساؤلات كبيرة لا إجابة قاطعة عليها. لكنك في النهاية سوف تصل إلى قناعة أن الحقيقة ليس لها وجه واحد..وكذلك الصواب والخطأ. وسوف تدرك في النهاية أنه ليس من حقك أن تحكم على أحد أو تقيم تجربته.
سوف تتعرف، من خلال أحداث الرواية، على تفاصيل مذهلة ومعلومات مفصلة عن عادات وممارسات الشعب الروسي. كما ستتعرف على معلومات تاريخية مثيرة جدا، ربما تجعلك تعيد النظر في أمور كثيرة لم تكن منتبه إليها.
١٩ أغسطس في موسكو و٢٥ يناير في مصر. أحلام وطموحات وتغيرات جارفة، تركت بصمتها على وجه الزمان وعلى نفوس البشر.
انتهيت من قراءة الرواية منذ فترة، لكني استغرقت وقتا ليس بالقصير أفكر في تفاصيلها..أصابتني حيرة غير مسبوقة، كيف أتناولها، ومن اي زاوية أدلف إلى أعماقها، وكيف أبرز الرسائل العميقة التي صاغتها، وهل بإمكاني تغطية كل النقاط والأفكار التي وردت بها..والإجابة كانت محيرة، من الصعب أن أغطي كل النقاط التي أثارتها الرواية بداخلي، لكن علي أن أحصي بعضا منها على الأقل.
مثلها مثل الرواية السابقة(غيوم فرنسية) تترك أثرا بالغا على عقلك وتفكيرك، وتظل تراودك الأفكار التي وردت بها لفترة طويلة، لتلقي بظلالها على توجهاتك وقناعاتك.
وأظن أن هذا النوع من الأدب الجاد ذي الأعماق الفلسفية يلعب دورا هاما وحيويا في تحريك الأفكار وإعادة تقييم القناعات، وتداعيات ذلك كله على تصرفات الأفراد وعلاقتهم بمن حولهم وما حولهم.
"١٩ أغسطس" عمل يستحق التوقف أمامه بالتحليل والتأمل والتدارس بجدية تتناسب مع الجهد المبذول في كتابته.
إرسال تعليق