إنسانية الرسالة في الحكي القصصي
 في قصة "الجاموسة تطلب" لمحمد إبراهيم طه 





بقلم / طارق عمران

ضمن المجموعة القصصية ( إمرأة أسفل الشرفة) 
للروائي / محمد إبراهيم طه ، قدم لنا كاتبنا قصتة " الجاموسة تطلب" من خلال ، سرد قصصي غاية في الروعة والجمال ، 
ووصف بديع لحياة الريف بكل تفاصيلها الدقيقة ، 
وبمهارة شديدة إستخدم في حكيه وسرده القصصي ، لغة جذابة وشفافة ، محملة بدلالات عميقة ، ورؤي مغايرة لكل من حوله ، فصاغ لنا عالما قد لانراه الأن سوي في الزمن الماضي البعيد لكنه معاش في صور كثيرة ومتعددة الوجوه داخل المجتمع وخاصة طبقاته الفقيرة والمتوسطة ، لقد خلق لنا عالما موازيا للعالم الذي نحياه ، لكنه مختلف عنه في كافة تفاصيلة ، وكل قضاياه التي طرح لنا من خلالها ماهية الكتابة لدية ، لقد إستطاع كاتبنا "محمد إبراهيم طه" ان يخلق لنا حالة إنسانية مفعمة بعمق الدلالة المغلفة بمشاعر وأحاسيس صادقة ، وهي في أغلب الظن الأن قد دخلت في متاهات وسراديب الحياة ، بكل تغولاتها على كل ماهو جميل في حياتنا ، لقد إستخدم كاتبنا تكنيك شديد العمق في محتواه الوظيفي لكل كلمة ولفظة وجملة ، تحت تأثير الحكي والسرد المتنامي ، حيث صنع لنا عالما تشابكت فيه كل خيوطه الإجتماعية لتنسج لنا حاله إنسانية شديدة الحميمية بين أفراد هذا المجتمع ، 

قرأت القصة أكثر من قراءة ، وفي كل قراءة تزداد متعتي وأكتشف كنوزا من المتعة ، تختبئ خلف كل جملة ، من خلال ماسطرة لنا كاتبنا الحكاء السارد الدكتور / "محمد إبراهيم طه" بكل دقة، ماأروع هذا الحكي الذي أعادني إلى جمال الريف ، وروعة قلوب ساكنية ،

وكيف ان هذه القلوب العامرة تنشأ بينها وبين هذه الجاموسة هذا الحب ، الذي يتجلي في أبهى صوره ، حين لا يطاوع قلب الولد الصغير وقلب أمه بيع الجاموسة ، وكيف كان ينظر كل منهم للأخر في رحلة البيع الأخيرة

حيث نرى الجاموسة ، والتي لم تستطيع للعام الثاني الحمل من الفحل ، والأسرة كانت في أشد الحاجة إلى المال للعام الثاني لدفع إيجار الأرض ، وكافة مصاريف الحياة اليومية 

فحمل الجاموسة لسيدة ريفية توفي زوجها يعني لها كل شيئ ، بداية من دفع الإيجار للارض ، وكل مصاريف البيت ، من خلال ماتبتاعة من ألبان بعد ولادة الجاموسة ، وكذلك وجود عجل صغير بالدار يمكن بيعة في أي وقت تحتاج الأسرة لبيعة ، او تركة حتى يتم علفه ، وهي عادة في القرى ، حيث يتم علف الذكور من العجول حتى يتم تثمينها لبيعها ، وهي مصدر رئيس لجميع الأسر في الريف ،

لقد جسد كاتبنا الرائع " محمد إبراهيم طه" في قصتة براءة الطفل الريفي ، الذي يخجل من أبسط الأشياء ، ومن ذهاب أمه معة لكي يتم تلقيح الجاموسة ، فيذهب هو على الرغم من سنه المبكرة ، وهي إشارة على تحمل هذا الطفل الصغير اليتيم للمسؤلية ، والتي تكررت أكثر من مرة في ذهابه وعودتة من أجل تلقيح الجاموسة ، والتي يشاء القدر عدم حملها لمدة عامين والتي سببت أزمة طاحنة في الدار ،

ومن خلال ماطرحه لنا كاتبنا ، نلحظ من خلال السطور كيف أصبح الرجل الذي يمتلك الفحل الذي يلقح الجاموس بالقرية ، يشعر بأهميك كبيرة حتى أصبح لا يخرج من منزله حين يطرق بابه أي شخص من القرية ، فنراه يرد من خلف الباب على الطفل ولا يكلف نفسه مجرد فتح باب دارة ، هنا إسقاطة مهمة من الكاتب لها دلالات كثيرة ، هو يظن انه يمتلك مالا يمتلكه غيرة ، هذا الشعور الذي تملك صاحب الفحل الذي يلقح إناث الجاموس بالقرية ، جعل من الرجل مقصدا لكل أهالي القرية والذى من خلاله يعم الخير على كل دار ، ثم نرى الأم وهي تستدر العطف من صاحب الفحل لكي يترك للطفل اليتيم بعض القروش القليلة من ثمن التلقيح ،

كل هذه الإشارات والتلميحات من الكاتب تحكي لنا عوالم مخفية عن اعين العامة من الناس وأصحاب الرأي والمشورة وكذلك الحكام ، من خلال معاناة الفلاحة الفقيرة التي لاتجد لها معين في حياتها الشديدة الفقر سوي كدها وعمل يديها ، في غياب تام لدور المجتمع وكل من حولها ، فبعد وفاة الزوج أصبحت وحيدة وعليها مواجهة عنف الحياة وقسوة أيامها ، وحيدة بطفلها الصغير والذى جعل منه كاتبنا المعين لها ، في وقت ينشغل أقرانه من الأطفال باللعب في شوارع القرية ، يقضون أوقات طفولتهم في مرح وسعادة ، في نفس اللحظة يطرح الكاتب قضية تحمل الطفل المسؤلية في هذه السن المبكرة . 

وتلجأ الأم إلى بيع الجاموسة ، بعد الإستشارة مرتين لإثنين من اهل القرية ، حيث أكدوا لها عدم قدرة الجاموسة على الحمل والأفضل لها بيعها لحما اي للذبح لأي جزار وهي غير مرحبة بهذا القرار .
 
وتقرر الام بعد حيرتها وترددها الي قرارا غير مرحلة له وهو بيع الجاموسة ، وتطلب من المشتري وهو من القرية ألا يذبحها داخل القرية ، حيث نشأت بينها وبين طفلها علاقة حب قد لايشعر بها غيرهم ، 

 في النهاية تذبح الجاموسة ، وتوزع على أربع محلات للجزارة بالقرية ، فيقررا ألا يتناولون لحوما حتى الآن . 

إن هذا الحكي القصصي له دلالاته النفسية شديدة الألم النفسي علبهم ، حيث تربية الجاموسة التي يقتات أهل الريف من لبنها ، من خلال بيعه في صورة منتجات متعددة ، يكون هو المصنع الذي يدر عليهم الأموال ، وهنا يربط كاتبنا بين بيع الجاموسة وعدم حملها على الرغم من محاولاته المستمرة لإتمام الحمل ، 
إن مجرد عدم حمل الجاموسة ، يؤدي إلى فقدان الأسرة لمصدر الدخل لهم خاصة الأسر التي تعتمد على تربيتها لجاموسة واحدة في الدار ، وهذه سمة أساسية في غالبية القرى المصرية وخاصة الأسر الفقيرة منها والمتوسطة ، والتي تفقد العائل الوحيد للأسرة ، وخاصة الأسر التي لاتمتلك مصدر دخل ثابت أو أرض تزرعها وتقتات من إنتاجها ،
الجاموسة هنا هي المعادل الأخر لمصدر الدخل لكل الأسر التي تنقطع بها السبل للرزق ، 
ويتجلي هذا جيدا بموت الزوج ، وعدم وجود دخل للأسرة سوي هذه الجاموسة ،

إنها إسقاطة غنية بالرموز الدالة على وعي الكاتب" محمد إبراهيم طه" ومدى أهمية إستخدامه للكتابة الرمزية في قصته " الجاموسة تطلب" ، وإلقاء الضوء على النقط المظلمة في حياتنا ، وكذلك المناطق المضيئة منها .

يطرح كاتبنا رؤاه الفلسفية من خلال هذه الجاموسة مصدر الرزق الوحيد للعائلة ، 
والأم وهي المسؤلية عن رعاية الدار والأولاد ، وتدبير كل الإحتياجات من ملبس ومأكل ومشرب وتعليم وكافة الأشياء المتعلقة بالحياة .

الطفل الصغير الذي وجد نفسه في سن مبكرة ، متحملا للمسؤلية وحده ، وعليه المضي في تحملها ، وهنا تظهر شخصية الأم ، التي إستطاعت ان تغرس بداخل الطفل الرجولة وتحمل المسئولية منذ الصغر .

العلاقة الحميمية التي نمت ، مع تربية العجلة الصغيرة ، حتى صارت جاموسة كبيرة ، وكيف ينظر كل منهم للأخر ، في لحظات البيع وكأن كل منهم يعرف أنها النهاية .

الكاتب يقول لنا من خلال هذه العلاقة ، والحب المتبادل بين الأسرة والجاموسة ، على الرغم من أن نهاية كل الأشياء تكون بالموت ، وان البيع للحيوانات في القرى للذبح في النهاية مصير محتوم وعادات متوارثة ، خاصة الجاموس الذي لايحمل أو العجول الذكور بعد علفها .

لكن كاتبنا أراد من خلال هذا ، أن يطرح قضايا عديدة ، في التمسك بالأشياء التي بين أيدينا ، ولا نتركها بسهولة ، حتى انه حرم على نفسه عدم تناول اللحوم ، من شدة وفرط الألم النفسي الذي تعرض له عند لحظة بيعهم للجاموسة وذبحها في نفس قريتهم ، وتعليقها في أربعة أماكن في القرية لبيعها .

هو يقول لنا رسالة أخرى أن الجميع يشارك في بيع الجاموسة مصدر الرزق ، وهو تحذير شديد من كاتبنا الكبير " محمد براهيم طه" ، من بيع كل ماهو له قيمة في حياتنا

القصة رائعة ومن أجمل وأبدع القصص التي قرأتها منذ فترة طويلة .
قصة الجاموسة تطلق صرخة مدرية ورسالة قوية لكي ننتبه إلى مثل هذه القضايا الإجتماعية الشائكة ، والتي قد تؤدي إلى ضياع وتفك هذه الأسر ، إن لم تجد كل أسرة إمراة قوية تتحمل المسؤلية وحدها ، كاتبنا يخاطب كل مسئول صاحب قرار ان يتحرك لكي ينقذ هذه الأسر من الضياع ، من خلال إصدار تشريعات تساعد كل أسرة تتعرض لمثل هذا القهر الإجتماعي ، فليس كل إمرأة تستطيع ان تتحمل مثل هذه المسؤليات الضخمة ، وليس كل طفل مثل هذا الطفل في قدرته على تحمل مالا طاقة له بتحملها ، أعتقد أن الروائي "محمد إبراهيم طه" قد أوصل رسالته وطرح قضيته بكل بمهارة ، من خلال حكي قصصي أسعدنا جميعا . 

الشاعر الكاتب المسرحي الباحث
طارق عمران
كفر شكر. قليوبية

Post a Comment

أحدث أقدم