التعليم أولاً وبعده تأتي بقية الأشياء
عاطف محمد عبد المجيد
أذكر أنه منذ سنوات وفي حوار له مع برنامج "مصر النهارده" قال الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية وقتها إنه في حديثه مع أحد كبار المسئولين في العهد البائد قال له مُستنكرًا: إن نسبة الأميين في مصر تزيد عن ستة وثلاثين في المائة تقريبًا وربما تصل إلى الأربعين في المائة، ولذا وجب علينا أن نعمل على محو أمية هؤلاء. فما كان من المسئول الكبير إلا أن رد عليه قائلاً: ومَنْ قال لك إننا نريد أن نمحو أميتهم؟..ألا تعلم أن السيطرة على الأميين أسهل من غيرهم؟!
قطعان ماشية
هكذا كان رجال الأنظمة السابقة ينظرون إلينا ويريدون منا ولنا أنْ نكون قُطْعانًا من الماشية ليست لنا مهمة في الحياة سوى أنْ نأكل فقط ما يجودون به علينا، ولا نطالب بحقوقنا لديهم، بعد أن احتجزونا في حظيرة واسعة تمتد ما امتدت أراضي مصر. ومن هنا جاء إهمال هؤلاء للتعليم بل قل عملوا على إفساده بكل ما لديهم من طرق وأساليب. لقد حوَّلوا بعض المناهج التعليمية إلى ما يشبه الأبواق التي يمتدحون من خلالها مجموعة من الفاشلين سياسيًّا وإقتصاديًّا وحذفوا منها ما يصف سواهم بالنجاح الحقيقي غير المزيف كنجاحاتهم، عفوًا أقصد فشلهم الذريع. لقد نجحوا فقط في طمس الحقائق، في إخفاء المشكلات التي تواجه بلادنا بالتعتيم فقط وليس أكثر، وكأنهم بهذا قد قدموا الحلول التي لا مثيل لها.
ثورة شيلي
وفي معرض حديثه عن الثورات التي حدثت في العالم قال جمعة: إن الثورة الشيلية، نسبة إلى دولة شيلي، كان من أبرز ثمارها أنْ أفردت للمُعلِّم وضعًا خاصًّا به وحده، بأن جعلت له قانونًا ودستورًا وكادرًا خاصًّا، وفرقت بينه وبين بقية موظفي الدولة، في حالة اهتمام فعْليّ بالتعليم الذي لن ترقى أي دولة في ربوع هذه البسيطة، وهذا معروف، إلا إذا كان هناك اهتمام به وبأضلاعه الثلاثة: المتعلم والمُعلم والمنهج التعليمي.
وبنظرة إلى واقعنا التعليمي الراهن نجد فيه عوارًا كبيرًا، فلا هناك اهتمام بالمتعلم لتنشئته تنشئة صحيحة تساعد في جعله ترسًا في ماكينة النهوض بالبلاد ورقيها، ولا هي أوْلت المعلم أي اهتمام، بل ساعدت على أن يفقد المعلم مكانته الاجتماعية التي كان يحتلها في الماضي، إضافة إلى أنها جعلت راتبه ضعيفًا مما يدفعه لأعمال أخرى يدور في فلكها كثور في ساقية، حتى لا يتفرغ لاستخدام عقله وتفكيره مع تلاميذه.
وأهون هذه الأعمال هي الدروس الخصوصية التي قضت تمامًا على هيبة المعلمين وجعلتهم يتسولون النقود من أولياء الأمور، مما عمل على أن تفشل العملية التعليمية فشلاً تُشم رائحته من على بُعْد أميال وأميال.
وبها أيضًا فقد التلميذ الثقة في معلِّمه فلم يعد هو قدوتَه، ولم يعد يسمع لنصائحه إنْ كان ثمة نصائح!
عملية كوكتيل
وتمشيًا مع هذه السياسة الغبية لم تضع الدولة المناهج التعليمية نصب أعينها مهتمةً بها وبتجويدها واختيار الأفضل والمناسب للمتعلمين، إذ هناك مناهج قد عفى عليها الزمن وإذا ما قام أحد بتغييرها فإن أقصى ما يفعله هو أن يقوم بعملية كوكتيل أو عملية قص ولصق للمناهج، أي يأخذ جزءًا من منهج المرحلة الثانوية مثلاً ليقرره على المرحلة الاعدادية، وكذلك جزء من المرحلة الاعدادية ليقرره على المرحلة الابتدائية، أو يأخذ جزءًا من منهج عام دراسي ليضعه في منهج عام دراسي آخر يسبقه أو يليه.
وبهذا لا تتغير المناهج بل تزداد تعقيدًا وصعوبة. ثم مَنْ هم هؤلاء الذين يُسند إليهم اختيار المناهج؟
ربما يكونون هؤلاء أساتذةً في المناهج، وهذا ما يبدو في ألقابهم وأسمائهم الرنانة، لكن بنظرة إلى المناهج نكتشف أن من قام باختيار المنهج وترقيعه ربما لم يكن يفهم لماذا يفعل هذا، ومن يعترض على هذا فعليه أن يعود إلى عدد من الكتب الدراسية في المراحل المختلفة ليكتشف كم الأخطاء المعلوماتية إلى جانب أختها الطباعية في الوقت الذي يحمل غلاف كل كتاب أعدادًا غفيرة من المؤلفين والمراجعين، فماذا ألَّفوا وماذا راجعوا؟
ولماذا لا يأخذ هؤلاء رأي المعلمين في اعتبارهم خاصة وأن المعلمين هم القناة التي تصل عبرها المناهج إلى المتعلمين؟!
التعليم أولاً
والآن ونحن على أبواب مصر جديدة، علينا أولاً وقبل أي وكل شيء أن نبدأ ثورة في مجال التعليم قبل وبعد الجامعي، ليكون هو حائط الحماية لهذا البلد، فالأميون لا يبنون بلدانهم ولكنهم يهدمونها وإن كان بغير قصد.
أما المتعلمون الذين تلقّوا تعليمًا حقيقيًّا فهم البناة الحقيقيون الذين يتقنون البناء وهم يضعون لبناته الأولى ويحافظون عليه إذا ما صار كيانًا قائمًا.
نعم التعليم أولاً، وبعده تأتي بقية الأشياء. فالجهل يحوِّل الأوطان إلى أنقاض فيما يحوّل التعليم هذه الأنقاض إلى قصور وجنان.
ولنعلمْ جميعًا أن أي دولة إن لم تهتم بالتعليم الاهتمام اللازم والكافي فإن لِحاقها بركْب التخلف وارد عما قريب ولا محالة.
أمّا إذا ما فعلت العكس واهتمت به فستتقدم، بل ستصبح في مقدمة صفوف الدول المتقدمة.
فلنبدأ في التخطيط الواعي لبناء واختيار مناهج تعليمية تتوافق مع ما نملك من رصيد حضاري، ويكون هذا بأخذ آراء المتخصصين في المناهج وطرق التدريس والمفكرين الذين يشغلهم أمر التعليم، دون أن ننسى مشاركة المعلمين وهم الضلع الأساسي في العملية التعليمية، لنخرج في النهاية بشكل تعليمي يجعل من أبناء هذا الوطن أساتذة في كل المجالات.
وأهم خطوة، في اعتقادي، على طريق تطوير التعليم هي ألا يُترك أمر القرارات المهمة للوزير ومستشاريه وحاشيته، وهذا أخطر ما يكون على التعليم، بل يجب إنشاء مجلس أعلى للتعليم، إن لم يكن موجودًا ومعطّلًا، يُنتقى له خيرة المتخصصين في مجالي التربية والتعليم من كل كليات التربية المنتشرة في كل محافظات مصر، ويُسند لهم، هم وحدهم، أمر التخطيط لتطوير التعليم، واتخاذ القرارات التي تؤدي إلى حدوث هذا التطوير، ولا ضير في أن يأخذ هؤلاء برأي المفكرين والمهتمين بأمر التعليم، أما أن يحتكر شخص، أيًّا من كان، أمر تطوير التعليم فهذا ما لا يحدث في أي بلد من بلدان العالم، حتى المتأخرة منها.
سياسة التخلف
إننا نريد تعليمًا يُخرِّج لنا علماء فضاء وفلك، علماء طب وهندسة واقتصاد، علماء في كل المجالات والتخصصات، نريد متعلمين يأخذون بناصية البلد إلى الصدارة والريادة ونحن قادرون على ذلك بما نمتلك من عقليات ذكية ومفكرة.
أما التعليم الذي يُخرّج "بغبغانات" تُردّد ما تتلقّى فقط، ولا تستخدم عقلها وفكرها فلم يعد ذا جدوى الآن، وكذلك التعليم الذي يقضي على ملَكات الإبداع لدى الأطفال فهو تكريس لسياسة التخلف والجهل.
إذن فلنطرح هذه النوعية من التعليم العقيم جانبًا، ومسرعين نبدأ السير في طريق تعليم مختلف يُفجّر طاقات الإبداع لدى المعلمين والمتعلمين أيضًا، فهم الذين سيكون على عاتقهم تأسيس دولة عصرية متقدمة تفخر بحق بأنها صاحبة أعظم حضارات العالم.
ومن هذه النافذة أدعو كل المتخصصين في مجالات التعليم الذين يعشقون تراب مصر وثراها أن يُدْلوا بدلوهم في قضية التعليم حتى نضيء الطريق أمام من يتولون أمر هذا البلد واضعين معهم اللبنات الأولى لتعليم يوازي التعليم الكائن في الدول الغربية وخاصة المتقدمة منها. فلعل وعسى أصبحنا، ذات يوم، مثلهم، ولعل وعسى تقدمنا عليهم، فليسوا بأفضل منا، فقط نحتاج إلى عقول تفكر لأجل هذا البلد، وقلوب تحبه، وأفراد يجلعون مصلحته أولًا وأخيرًا.
الكاتب والمبدع الحقيقي عاطف محمد عبدالمج تحياتي وتقديري لإبداعك وقلمك النابض بالحياة
ردحذفإرسال تعليق