حجرة الحقائب المفقودة،
بقلم/ أسامة علام
يقطع القطار المسافة فى واحد وخمسين دقيقة. راهنت عشرات المرات على دقته الرهيبة فى تحدى الوقت. لكنه لم يخذلنى أبدا. القطار من محطة بيتى الى محطة الجامعة الأوربية التى تستضيف محاضراتى واحد وخمسين دقيقة. وكأنه أصرار سخيف على احراج هؤلاء المستمتعين بتمضية الوقت فى الاشيئ من أمثالى. فأى معنى لدقيقة واحدة فقط لا يستطيع هذا القطار أو ركابه التسامح فيها.
القطار مليئ بهؤلاء الذين يذهبون الى العمل بتأنق ملفت. تقابلك عاصفة العطور مع كل توقف لثوان معدودة مع القادمين. يقرأوا الكتب باعتيادية غريبة. دون الالتفات للجمال الفائق لطبيعة متفجرة كجنة متحققة على الأرض. أو حتى الالتفات لعازف الكمان الغجرى بشعره الطويل وألحانه التى تجعل القلب يرقص من النشوة.
ومع الوقت اعتدت القطار والركاب وعازف الكمان. الى اليوم الذى اكتشفت فيه أننى نسيت حقيبتى الصغيرة فى القطار. بعد ان انشغلت فى مكالمة دولية طويلة مع صديق الطفولة. كنت أعلم أن القطار سيفتح بابه لثوان وأن على أن أخرج سريعا حتى يدخل أخرين بذلك النظام المزعج. وعلى الرصيف اكتشفت أننى نسيت حقيبة يدى. وعندما أخبرت مكتب المفقودات فى المحطة طلبوا منى العودة بعد الخامسة مساءا. ساعتها سيكون تم حصر ماتم العثور عليه واداعة فى غرفة خاصة.
عدت كما طلبوا منى. المكتب يجلس فيه موظف عجوز ضخم وبطيئ الحركة. يرتدى نظارة سميكة ولا يتوقف على حل السدوكو والنظر بارتياب. والموظف الذى لديه الكثير من الوقت فرح بوجود شخص مغترب قادم من الشرق السحرى. وبعد أن سجل مواصفات حقيبتى فى دفتر خاص قادنى الى الغرفة العجيبة. غرفة مليئة بالحقائب المفقودة. موضوعة بترتيب على رفوف فى حوائط الغرفة الواسعة.
وبهدوء انسحب الى مكتبه وتركنى. تحت كل حقيبة تاريخ العثور عليها ورقم القطار وقائمة بمحتوياتها. وكزائر لمتحف عجيب بدأت فى الفرجة على المعروضات المدهشة. تاريخ كامل من حياة البشر يقف أمامى. كنت فى بداية الأمر أبحث بعيونى عن حقيبتى التى لم يكن فيها شيئ مهم. لكنى بمرور عيونى على باقى الحقائب بدأت أهتم أكثر بقراءة محتويات حقائب الآخرين المفقودة. حقائب لم يهتم أصحابها بالعودة للسؤال عليها. حقائب احتوت صور عائلية وكتب وأدوات تجميل ومفاتيح لن تفتح أبوابها مرة أخرى.
الضوء الخافت ومنظر الرجل الجالس يحرس ذاكرة ضائعة للركاب عابرين جعل قلبى يشعر بحزن عميق. لكنى وسط كل الحقائب الجالسة بصمت على الأرفف. وجدت حقيبة نسائية حمراء صغيرة تبدو قديمة جدا. وبدلا من قائمة محتويات الحقيبة التى توضع بدبوس صغير فى الرف وجدت هذه الرسالة.
عندما سيجد أحدهم حقيبتى الصغيرة هذه فلابد أنه سيأتى بها لك. بالتأكيد ستعرف انها منى. أعلم أنك تعرف خطى. كما تعلم كم كنت أحبك. لكنك أصبحت شخص ممل وصامت طوال الوقت. لا تفعل سوى الجلوس لساعات تحل فيها معضلات السدوكو التى لا تنتهى. لذلك قررت أن أرحل. وعندما سيحمل حقيبتى هذه أحدهم الى مكتبك سأكون بعيدة جدا.
وعندما انتهيت من قراءة الرسالة. وجدت الموظف العجوز يقف خلفى. كانت عيونه مليئة بالدموع لكنه لايكف عن النظر لى بارتياب. فأخبرته متلعثما أننى لم أجد حقيبتى. وخرجت بسرعة من الغرفة. مقررا أن لا أركب القطار الذى يقطع المسافة فى واحد وخمسين دقيقة أبدا.
أسامة علام
نيوجيرسى
17 مارس 2021
إرسال تعليق