أحمد مصطفى معوض يكتب: قراءة في قصة القُرعة، للكاتب هاني منسي.
(المنشورة في ملحق الأهرام الأدبي الأسبوعي)
قصة قصيرة لكنها كبيرة الاتجاه وعميقة المدلول.. قد يراها البعض يسيرة لطيفة نوعاً ما.. وإن كنت أراها كذلك ولكن تختلف رؤيتي كثيراً في أبعاد ذلك..
أولاً من الحياة الأرضية إلى الحياة الأبدية..
تلك هي المسألة التي نعيش جميعاً في مدارها وأفلاكها الخضمة المتسعة إلى ما لا نهاية.. نعم.. وأكثر من ذلك..
فقد قصد الكاتب وكان موفقاً في قصديته أن يكتب مراحل التحول من الدنيوية إلى العلو والسمو الروحي الذي يسطع به القلب فيمضي إلى طريق الرب وكل هدفه أن يصل للمجد الأبدي والديمومة الأخروية ويقابل المُخلِص المُخَلِّص يسوع الحبيب المحبوب الذي ننتظره جميعاً عليه السلام بكل شوقٍ ومحبة ليخلصنا مما نحن فيه من هموم ويرتقي بنا إلى المعالي والسمو الروحي العظيم..
ثم تأتي مراحل السمو بجلالها عبر القصة حيث التحول من الإنشغال بالدنيا إلى الطاعة والعفة وتحمل البعد عن شهوات الجسد؛ يالها من معاني يتجلى فيها الزهد حيث يفيض علينا بمعانيه الرائقة الرقيقة الشفافة العميقة..
ثم يذكر الكاتب كلمة عظيمة لمن تحدى نفسه للوصول لهذه المنزلة الرفيعة وهي:
قضاء الوقت في معية الله..
وهذا يأتي عبر الصلوات المختلفة بطرقها وأنواعها لكنها وقد تأكدت قصدية الكاتب هي الطريق الصحيح للوصول لمعية الله..
وهذه جدلية فكرية كبيرة يطرحها الكاتب ببساطة ولطف وكأنه يقول متسائلاً: من يستحق المعية الذي يفكر فيها ويعمل من أجلها أم من يفكر في شهوات الجسد والعوامل الدنيوية الأرضية؟؟
أعتقد أنه أجاب بوضوح في أحداث القصة..
وكما هو مذكور في إنجيل متى:
" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله "
ثم يطرح الكاتب جملة هامة ليحسم بها جدلية فكرية شائكة وقوية وهي:
" تدرجت من مرحلة العلمانية والتردد على الدير إلى مرحلة طالب الرهبنة المقيم في الدير "
حتي وصل للمرحلة التي استطاع أن يصبح راهباً حقيقياً بل وشعر أن الذي ألبسه زي الرهبنة بحب ورحابة هو السيد المسيح نفسه..
وهكذا كانت العلمانية مرحلة أرضية دنيوية لم ترتق أبداً للتقرب من المسيح السيد ومحبته العظيمة.. فهي كما وصفها الكاتب مجرد مرحلة ولابد أن يتخطاها الإنسان ليسمو روحياً للمحبة والمعية..
الآن جاء دور القرعة..
من يبيع ومن يشتري.. يالها من دقة ورمزية لا أعرف جيداً مدى قصدية الكاتب لتوظيفها.. لكنها تحمل مدلول لا يخف على قلب بشر.. فمن يبيع لا كمن يشتري ..
وفي سياق القصة لكل بطل من بطلي السرد دور وكأنهما متساويان بين البيع والشراء.. ولكن.. وفق الله من اشترى ووقع في الخطيئة من باع.. إنها القصدية مرة أخرى..
حتى أن الشاري يردد مرنماً مزمور:
" ارحمني يا الله أنا الخاطيء "
ثم تنقلب الأحداث رأساً على عقب عندما وجد الراهب صاحبه يبكي بل وينتحب من شدة البكاء في زاوية منفردة بعيداً عن الناس.. وفي ذلك أقول.. أولاً عندما يوضح الكاتب أن الناس من حول الراهبين طيبين ويشترون بامتنان البضائع منهما .. إذن هما وسط أناس ليسوا بالخطية يفعلون بل إنهم طيبون.. وهذا يدل أن الخطيئة ليست بين الأشرار فقط تنتشر بل إن الشيطان والذي هو البطل الخفي في هذه القصة دائماً يجر الناس إلى الخطيئة والجميع لهم خطاياهم وكما هو مذكور في إنجيل يوحنا أن يسوع عندما سألوه عن رجم إمرأة وقعت في الخطية وأرادوا أن يرجموها:
"وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!»
ثانياً.. سقطت دموعه على لحيته..
لحيته.. نعم لحيته.. فهل الراهب له لحية.. نعم.. فليس كل من له لحية آثم أو متطرف بل يسوع المسيح نفسه كان له لحية جميلة كما تصفها الأناجيل والصور .. لذا لمن يحب يسوع يتقرب له بأن يحاول أن يقلد هيئته ومن ضمن هذه الهيئة.. اللحية.. كما وصفها الكاتب ببساطة ولطف ودون أي تكلف..
ثالثاً.. وصف الراهب خطيته وقد اعترف بها بشجاعة وحزن لصاحبه.. لكن صاحبه أيضاً قد هَوَّنَ عليه الأمر مواسياً له بأنه قد وقع في الخطيئة أيضاً فنحن بشر وقد يجرنا الشيطان للخطيئة وإن لم يحدث ذلك فلماذا قد أتي المسيح إذن؟.. وهو الذي يمسح الخطايا عن تلاميذه وأحبته..
رابعاً.. وما أدراك ما رابعاً..
يقول الراهب مواسياً صاحبه:
" أنا أيضاً وقعت في الخطية التي طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء "
يالها من عبارة في قمة الدقة والبلاغة وهي تنطبق على وصية من الوصايا العشرة.. لاتزني.
فلماذا إذن يخصص الكاتب ويوظف في قصته هذه الخطية بالذات؟؟؟
إنها القصدية مرة أخرى ومذكور في إنجيل متَّى أن يسوع قال :
" قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن . وأما أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه . فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم "
وقد خص الكاتب هذه الخطية بالذات دون السرقة أو الغش في التجارة أو أي خطايا أخرى.. وفي رأيي أنه أراد أن يكشف مدى خطورة هذه الخطية وأنها منبت الشرور ونقطة ضعف إنسانية لا يستطع أن يقاومها أشد الناس تديناً بل وحتى الرهبان الذين يتقربون للمسيح بأعمالهم الجميلة وصلواتهم الجليلة والذين هم في معية الله كما ذكر الكاتب في قصته قبل ذلك.. فالشيطان يعرف كيف يوقع الأقوياء في الخطيئة وهكذا يجذبهم لها بطرقه الشريرة والتي جائت في القصة عن طريق بيع قلادة يبيعها الراهب لإمرأة فيلمسها وتلمسه حتى وقع المحظور بينهما.
وهكذا أراد الكاتب الذي أخذنا عبر قصته في رحلة إيمانية من الدير والمعية الإلاهية والسمو الروحي إلى البيع والدنيا ثم الوقوع في الخطيئة.. وكأنه يقول المذكور في سفر يشوع بن سيراخ:
"بَيْنَ الْحِجَارَةِ الْمُتَضَامَّةِ يُغْرَزُ الْوَتَدِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَنْشَبُ الْخَطِيئَةُ."
وقد أراد الكاتب أن يلمح تلميحاً بأن هذه الخطية أصبحت منتشرة هذه الأيام وأحبَ بأسلوبٍ قصصي راقٍ أن يحذر منها كل مؤمنٍ لأن الإنسانية كلها تسمو بالأخلاق..
" فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا "
وهنا تأتي الفجيعة والنهاية الصادمة للغاية..
نعم هي كذلك..
جائت القرعة الثانية لا للبيع ولا للشراء ولكن الاقتراع هذه المرة لكي يحسم السؤال الهام والخطير للغاية: هل نعترف بالخطية أم نُبْقِي الأمر سراً..؟؟
وتأتي نتيجة القرعة بإبقاء الأمر سراً.. يالها من نتيجة مخيبة للآمال وأكاد أسمع بكاء الكاتب الذي لم يستطع أن يخفي تحذيره وإن كان دوبلوماسياً ناعماً بأن عدم الإعتراف بالخطية يجعلها تزداد وتتفاخم دائماً حتى لو كان لها أثراً واضحاً في زيادة المبيعات وبالتالي رواجها واتساع سوقها وزيادة الدخل الناتج عنها.. لكن كل ذلك لا يساوي ما ذكره الكاتب في بداية قصته من القرب من يسوع ومحبته والسعي إلى معية الله.. وهذا أفضل كثيراً كثيراً ولا يستويان أبداً أبداً..
أما إنطباعي عن القصة كسرد فأعتبرها من القصص الوعظي الذي قد افتقدناه بشدة في الأونة الأخيرة وإن اتسم قليلاً بالمباشرة لكنه يُصْلِح كثيراً من توجهات النفس الإنسانية الضعيفة ويوضح لها الطريق الصحيح للوصول للسمو الروحي والإنسانية العظيمة بحق..
وكما هو مذكور في سفر التثنية:
" أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان "
وفي ختام قرائتي أبعث تحياتي وتقديري للكاتب / هاني منسي وأهنئه على قصته الرائعة..
الكاتب/ أحمد مصطفى معوض.
إرسال تعليق