صورةٌ جماعيَّةٌ
قصة: صفوت فوزي
ممطرًا كان المساء، جهمًا عبوسًا وواعدًا بالبرد. أكوام من السحب الداكنة محتشدة متراكبة تتعلق بتوازن قلق على حافة الأفق الرازح الثقيل. ثمة ريح باردة تعبث بستائر الدانتيلَّا فتهتز أوراق الشجر الذي يبدو من النافذة محنيًّا وقد أثقله البلل. أتسمَّعُ وشوشة المطر الوديعة إذ يهمى بانتظام وثبات، والهواء يصفع الوجوه باردًا. ضباب مسائي تشوبه منذ الآن عتمة الليل الزرقاء السوداء. نجتمع حول مائدة دائرية لها أربع سيقان، مغطاة بقماش مشمَّع به مربَّعات ومُثلَّثات انمحت ألوانُها ورسومُها، واستحال التعرُّف على معالمها أو ألوانها الأصلية. وضعت فوقها أطباق قليلة وكوب كبير من الماء. كوب طويل يقف على طبق مُزخرَف بالأزرق، تلتمع حافته إذ ينثال عليه الضوء الواهن من المصباح المعلق في سقف الصالة. شرائح الضوء تومض من خصاص النافذة كالفضة- الفضة الباردة. خلف المائدة في منتصف الحائط تمامًا في صالة البيت، صورة كبيرة بالأبيض والأسود ذات إطار ذهبي بهت لونه، لفتاة صغيرة بضفيرتين سوداوين تنسدلان في نعومة خلف الظهر. يأتينا صوت أمي تدندن بأغنية حزينة عن قطار مغادر وصبية صغيرة رحلت في عمر الزهور. تهدهد بها دموعًا منسية ويداها مشغولتان. تهب علينا روائح الطعام من المطبخ القريب.
في ظلال العتمة الكابية الباركة في بير السلم كانوا يتعاركون. تصلني أصوات عراكهم. قطط جَوَّابة لا تني تطوف بالحارات والأزقة في دكنة المساء. تصدر مواءً ممطوطًا شبقيًّا لا يتوقف حتى يعود مجددًا وبقوة. من بين أصوات العراك يرتفع صوتٌ يشبه صراخًا جذعًا لطفل صغير يبكى بحرقة. متوجسًا اجتاز الصالة متجهًا نحو الباب. جذبته ببطء فأزَّ قليلًا وانفتح. قطة سوداء مقطوعة الذيل تتثاءب وتتمطى فاردةً جسدها اللدن. ترتكز بقائمتيها الخلفيتين فاغرة فاها تبرز منه أنيابها الحادة وعيناها الخضراوان تبرقان لامعتين في الظلمة الساجية وهى تحدق بي.
ارتمى على الحائط ظل، وسمعت صوت الآدمي، واعتدلت، ورأيتها أمامي. فتاة نحيلة الجسد لها عينان بنيتان واسعتان مكحولتان. ينسدل شعرها القصير الحالك السواد على جبهتها التي تلمع في عتمة السلم. منكمشةً على نفسها في الهواء الليلي الذي يهب الآن، وأنا أمعن النظر إليها مأخوذًا في صمتٍ وترقُّب، فأحس الدم يفيض من قلبي. ترفع وجهها ناظرةً إليَّ، خجلة وجسورًا معًا، ينثال من عينيها الصافيتين حنان دافق وشغف. نظرة يرف لها قلبي ولا أعرف معناها، وصدرها الصغير الملموم أحسه حرًّا، متماسكًا، ناهدًا. قلت لنفسي: أي ريح ألقت بها إلينا في هذا المساء البارد؟ كانت تستند بمرفقيها على الباب الموارب. أكتم الصرخة وأنا أحاول السيطرة على جسدي المرتعش. أنتفض. تتجمد الدماء في عروقي وأزدرد ريقي بصعوبة في الحلق المتقبض المشدود، وأنا أحاول الهرب من وجهها الذى يتطلع إليَّ متسائلًا من خلف الباب الموارب. هل أحدثكم عن جمالها وبراءتها، ونظرة عينيها الساحرتين. مرعوبًا أستدير إلى الصورة المعلَّقة في إطار قديم على حائط الصالة. أغوص في غمار سنين انقضت وعبرت، لأستعيد جزيئات صورة مازالت مرتسمة -وإن كانت باهتة- على جدار الذاكرة. تتحرك فجأة ذكريات بقيت كامنةً على حواف كياني، مستبهمة لم تتشكل معالمها حقًّا. ألَمْلِمُها وأركِّب أجزاءها، فتنطق طلَّتها وتعبيرات وجهها الصافي الذى يواجهني الآن بابتسامة دافئة ونظرات ترفعها إليَّ.
متسمرون في أماكننا وقد عقدت الدهشة ألسنتنا لا نجرؤ على الكلام. من المطبخ تندفع أمي لاهثةً نحو الباب. تجذبها من يدها وتُجلِسُها على كنبة الصالة. تمسح جبهتها كما لو كانت تزيح الشعر عن وجهها. تفيض عليها بفيض محبة لا ينتهي. كطفل هرول إلى أمه باكيًا وبعينين تظللهما ابتسامة عذبة مجهدة قالت لنا إنها أختنا الشقيقة التي توفيت منذ أكثر من عشر سنوات.
كان على أن أولد ثانية ، ليس عن طريق الرحم ، كما هى العادة عندكم ، بل عن طريق الأصبع الوسطى . كنت قد أصبحت عجوزا وراح جلدى يترهل فغيرته ، أبدلت جلدى القديم بآخر ، كان يعود لامرأة شابة . لدينا هنلك أجساد مفككة . كل طرف وجزء وعضو يعرض عليك أولا لترى ملاءمته ، وفى كل مرة كنت أبدى موافقتى أو عدمها بايماءة من رأسى أو هزة منه . وكان من الضرورى أن أبلغ درجة من النضج والسلامة النفسية كى أكون مؤهلة للعودة إلى الأرض مصحوبة بتمنيات الرفاق برحلة سعيدة . هنا كان على أن أختار الجنس الذى أولد به ، ولقد فضلت أن أظل أنثى لأننى أحببت حياتى كأنثى ، تحب وتراعى من قبل محب ، وكرهت مفارقة الأشياء التى اعتدت عليها فى حياتى الأولى ، أو قد يكون لأن الماضى الذى عشته كان مفعما بالذكريات . فى مكان ما على هذه الأرض ، كان لابد أن يشعلوا النيران فوق قمم الجبال ، لتهتدى الأرواح العائدة – عبر السماء الليلية – إلى عالم الأحياء على الأرض . لذا كان لابد من اختيار ليلة شديدة الظلام ، يكون فيها القمر فى المحاق ، موعدا لنزول الأرواح .
لطالما اشتقت اليكم ، كم تبدو الحياة كئيبة فى غياب من نحبهم ويحبوننا . جاهدت كثيرا وطويلا حتى أصل إلى هذه اللحظة ، لكن لايهم ، أشعر بدفء فى أعماقى . رتبت شعرها بأصابعها ،
بكل اللهفة وعطش السنين تأخذها أمنا في حضنها، بضعة حميمة منها، تهدهدها وهي تئن وتنتحب بصوتٍ خفيضٍ ودموع صامتة تنسال في هدوء على وجهها المدوَّر الذي شحبت
سمرته الداكنة: وحيدة والديكِ كنتِ، مثل حبة تمر في صدر نخلة. كفَّ المجرى عن الفيض، فكفَّت أمكِ عن الولادة، كنخلةٍ عفيةٍ كفَّتْ عن الطرح في عزها. ثم دار الزمنُ دورتَه، وبطنُ أمكِ طرحت الذكور، وكفَّت عن أن تطرح الإناث.
****
في الفجر الذي لا لون له، كأننا ظلال تركها الليل خلفه، كنا نتسامر قاعدين على كنبة الصالة تحت صورة بالأبيض والأسود ذات إطار ذهبي بهت لونه، ننقل البصر بين الصورة والأصل الذي كبر قليلًا. نستمتع بذكريات الأوقات السعيدة ونصغي بشغف للأغنيات القديمة. نحدق في تأمل ذاهل في أختنا التي عادت. تضمُّها أمي في حضنها الوثير فيترقرق الدمع من عينيها الطيبتين.
تتحسَّسُها بكل خلجة فيها ولا تني تربت على ظهرها، تمسد شعرها القصير المقصوص، يكسبها مظهر بنت صغيرة، فيها شبه غامض بهذه الملائكة في النوافذ الملونة للكنائس العتيقة. كان فيها شيء من السكينة والسلام. تتوالى الذكريات التي جمعتهما يوما وتبدو الأحزان التي عانين منها كسحابٍ مرَّ سريعًا وانقضى.
نتبادل ضحكات غضة طازجة، ضحكات لا همَّ فيها ولا مبالاة. هذه الضحكات البريئة المتمردة التي تضفي هذه الكثافة من الأمان، والتي نتبادلها فيما بيننا فتستقر في القلب ماءً قراحًا. وكانت أختنا تنهنه باكيةً بين الحين والآخر وهي تحكي لنا كيف كان الحنين يستبد بها إلى جلسة دافئة بين أفراد عائلتها وفي حضن أمها، ونحن نستمع إليها في إصغاء عميق. فاغرين الأفواه، نستمع غير مصدِّقين للكلام الذي يتدفق بينهما. عالَمٌ غريب يتدفق بالحياة الحاشدة، يعيد تنسيق نظامه وينتهي إلى ما لا نعرف ولا نفهم.
****
كانت الشمسُ قد انبثق ربعُها الآن من حافة الأفق، والأفق لم يزل غائمًا. وكان باستطاعتنا أن نرى البيوت والأشجار تمتد تحت غطاءٍ من الضباب يرتفع ببطء من الأرض، والقطط الجوَّابة تجول في الحارات والأزقة الغارقة في الضوء الشحيح.
ارتفعت الشمسُ من الأفق، سريعة، حمراء، تطفو على وجهها خطوط من السُّحُبِ المغبرة. تلألأت عيناها وهى تحدق فينا .
آه يا أمى ، وضعت رأسها فى حضن أمها . مسدت الأم شعر الابنة ، ومن بعيد يأتى صوت الجنادب فى الحقل تسقسق .
ننظر إلى أختنا العائدة في ضوء النهار الصافي، نراها لأول مرة منذ غربت الشمس في الليلة الماضية. لوَّنت الشمسُ وجهَها الشاحب بلون الدم. إلا أن عينيها مجهدتان، لا حياة فيهما، يلوح كأنها تقف مهتزةً على قدميها، تبذل مجهودًا كبيرًا، كما لو كانت سوف تفقد توازنها على الفور، وتسقط على الأرض. الكلمات تخرج من فمها ببطء وثقل، كأنها القطرات الأخيرة من صنبور. كان وجهها أكثر شحوبًا ووجنتاها أكثر نحولًا وبروزًا.
كانت الساعة المعلقة في الصالة تدق دقات رتيبة منتظمة مدوية. فتحت فمي لأقول شيئًا، لكن حلقي غصَّ بالكلمات، ولم أقل شيئًا. أتطلع إلى أختي، إلى أمي، إلى الصورة المعلَّقة، إلى النوافذ والستائر، وثمة شعور يعتريني بأني غريبٌ في بلد غريب، وأحس أني موشك على البكاء.
****
أعد أخي الكاميرا لالتقاط صورة تذكارية جماعية مع أختنا العائدة. انقطع التيار الكهربائي فجأة فلزمنا أماكننا. عاد التيار ثانية، وكانت أمي ما تزال تتدفق بالحكي، لكنها لم تجد ردًّا مقابلًا من أختنا. بحثنا عنها في أرجاء الشقة، ليس ثمة أثر لها. ظهرت على ملامحنا علامات الارتياع. حمل ثقيل رازح يجثم فوق صدورنا. خبطت أمي مفزوعةً بيدها على صدرها وركبها الهم . كنا فى حيرة من أمرنا لا ندرى ماذا نفعل والخوف يعبث بنا . ثم سمعنا صوتًا يأتي من ناحية النافذة. قطة سوداء نحيفة ترتكز على أفريز النافذة تقعد مرتاحة مستكينة تلعق فراءها الناعم بلسانها الوردي الرطب، وتوجه لنا نظرات ملؤها الشفقة . كان الجو داكنا ، أعولت الريح فى الخارج والمطر يهمى بلا انقطاع . أطبق الصمت المطلق على الجميع ، ونحن نصغى إلى الضجة المخنوقة للمطر المتساقط .
إرسال تعليق