رواية أفندينا لمحسن الغمري
الإبداع ترجمة لمسودة تاريخية محتملة
بقلم سيد محمد السيد
تطرح افتتاحية رواية أفندينا لمحسن الغمري ثلاث حكايات في الأفق السردي: الحكاية الأولى استعادة المثقف المعاصر لزمن التواصل الحيوي المشحون بالصداقة والسعى المعرفي، والحكاية الثانية عن الكاتب المترجم صاحب المخطوطة التاريخية، وانتقاله لمصر بحثا عن منصب في عصر ابن بلده محمد علي، الذي كلّفه بالعمل مع حفيده عباس، وما عاشه من تجربة حياة ثرية، انتهت بالعودة إلى قولة، وكتابته عن الشخصية التي صحبها حتى رحلت، والحكاية الثالثة هي صورة عباس حلمي من منظور كاتبه ومترجمه.
القصة الإطار في رواية أفندينا لمحسن الغمري إضافة جمالية تنساب منها القصة التاريخية بمقبولية مريحة، علاقة الصداقة التي أنتجت جلسة ترجمة المخطوط مشحونة بإنسانية رقيقة عميقة فيها محبة وشجن، وإحالة إلى سياق اجتماعي لا يدرك ماهية الاحتياج العاطفي، والعودة إلى التاريخ الشخصي متّصل بالعودة إلى التاريخ القومي، وقيمة الترجمة بوصفها صوت الآخر الحافظ لميراثنا اللساني بزمانيته وجغرافيته وثقافته، وسر روحي بين الدبلوماسية والإبداع، تفتح نافذة تصل شخصية المترجم التاريخي بالمترجم المعاصر فإنتاج النص الحكائي يحدث من خلال فعل الترجمة كما حدث إنتاج السياق الحضاري في المسار التاريخي. إن الرواية أيقونة لدور الترجمة في إبداع الحياة وإعادة إبداع الشخصية والتواصل بين الأزمنة والأرواح.
حينما تقرأ رواية أفندينا لمحسن الغمري سترى المؤلف معك وقد استخلص من نفسه شخصيتي الإطار: شخصية الدبلوماسي الذي طاف العالم، وشخصية المترجم الذي يعيد قراءة التاريخ، فهما معا مرآة له، يراه القارئ فيها داخل العمل، وهما رمز المثقف النبيل الدمث الذي يحاور ويشرح ويترجم ويبدع دون أن يرتفع صوته بالصخب أو يفرض على الآخرين حضورا ثقيلا.
الدور المهم للمثقف هو إعادة اكتشاف التاريخ لتحديد الأسباب المؤثرة في الواقع، هذا هو الطرح المهم الذي تقدّمه رواية أفندينا لمحسن الغمري، ويحدث هذا الطرح من داخل الرواية، حين يلتقي الصديقان المثقفان لترتيب سكن أحدهما، هذا الترتيب معادل رمزي لترتيب البيت الثقافي، وفتح الصندوق القديم هو رمز لمقتنيات العمر المعرفية وانفتاح الحاضر على الماضي والعكس، أمّا ترجمة المخطوطة فتلك البنية الفنية المعرفية تعد رمزا لاستنطاق الصمت التاريخي.
اختار محسن الغمري الطريق الصعب، وهو الكتابة عن عباس الأول الشخصية الغامضة التي لا ترقى لدهاء الجد، أو العبقرية القتالية للعم إبراهيم، أو الارتباط بإنشاء القناة مثل العم سعيد، أو تحويل القاهرة لباريس الشرق مثل ابن العم إسماعيل، شخصية عباس للمجددين بخاصة أبناء الألسن موقف سلبي تجاهها فقد أبعد رفاعة إلى السودان، وتجمدت الألسن سنوات طويلة بعد تأسيسها في عهد الباشا الكبير، هذه الشخصيات المغلقة مثل عباس الكتابة عنها مغامرة يمكن أن تضع الكاتب في موقف المنحاز للانغلاق أو الانفتاح، لكن الغمري كان محايدا تاركا الصوت الداخلي يحدثنا بالقرب من ذاك الوالي الغامض الذي تطرح حكايته تساؤلا مهما عن كيفية التقاط الخيط الدقيق بين سيولة التطوّر وجمود المحافظة وصولا للتجديد الواعي الذي نسعى إليه في رحلة الحداثة، ويضع القارئ في الاعتبار أن صورة عبّاس في المخطوطة الافتراضية جاءت على لسان شخصية تنتفع بقربها منه، وهي شخصية كاتبه ومترجمه، لذلك تضمر الرواية سؤالا افتراضيا عن صور أخرى لعباس يمكن أن نجدها عند المؤرخين، أو توحي بها روايات مغايرة تستطيع أن تصوّر الشخصية من زوايا مختلفة.
المقاطع الخاصة بحضور عباس حلمي متنكرا مع كاتبه مولد السيدة ومولد الحسين وزاوية الفناجيلي، في رواية أفندينا لمحسن الغمري يضفي على القص حيوية، ويلقي الضوء على الحياة خارج القصر دون تكلّف، ويوضّح الصراع الداخلي في شخصية عباس الذي نشأ يتيما منعزلا متوجسا مرتابا متعصبا عنيفا طموحا يعاني عقدة نقص في مواجهة عمه إبراهيم من ناحية، ومؤامرات حزب العم سعيد من ناحية أخرى.
تقنية ترجمة مخطوطة مكتوبة باللغة التركية القديمة في رواية أفندينا لمحسن الغمري منحت الكاتب مساحة لتجاوز المستوى اللغوي السائد في عصر محمد علي وإبراهيم وعباس، فمن المؤكد أن الترجمة لا تحيل إلى لغة الفترة المروي عنها وإنما إلى لغة الفترة المروي لها، من هذا المنطلق استطاع المترجم أن يخرج من حصار لغة القرن التاسع عشر بمنطقية، فهو يترجم لصديقه المعاصر ولا يترجم للقرن الماضي، لذلك لا يخلو أسلوب ترجمة المخطوطة من الاستعانة بتعبيرات معاصرة يحمل بعضها إشارات معرفية يمكن أن تتجاوز زمن المخطوطة المتخيّلة، ويمكن النظر إلى هذه الإشارات بوصفها تعليقات توضيحية من المترجم العصري بصدد ما جاء في صياغة المترجم القديم صاحب المخطوطة، وإن جعلنا النص بشكل عام نشعر بروح العصر المروي عنه.
إرسال تعليق