طارق إمام...، حديث مختصر عن النجومية الفارقة في الأدب،
عبد الرحيم طايع
ابن وطننا الروائي المبدع طارق إمام تأهل فعليا للحصول على الجائزة عن روايته البديعة "ماكيت القاهرة" بعد وصوله إلى القائمة القصيرة للجائزة، وهو المصري الوحيد الذي بلغ السلمة قبل النهائية في هذه الدورة من دورات الجائزة الرفيعة ذات السمعة الباسقة.. القيمة المعنوية للجائزة في السماء طبعا، وقد يضاعف من قيمتها إخفاق منتخبنا الوطني في الوصول إلى كأس العالم، والمعنى أننا نحتاج إلى حدث عالمي مواز تنجح مصرنا من خلاله في بلوغ القمة؛ فيكون عوض نفوسنا عن هذه الخسارة الرياضية الفادحة، ومجال الأدب يوازي الرياضة حتى إن عجز عن نوال شعبيتها الجارفة، بل يظل مجالا عظيما راقيا قادرا على جذب أبصار نخب معتبرة من جميع البلدان وخطفها باتجاه منطقتنا.. وأما القيمة المادية فخمسون ألفا من الدولارات الأمريكية، تضاف إليها عشرة آلاف دولار هي قيمة الوصول للقائمة القصيرة من قبل؛ فتصير المحصلة ستين ألفا بالتمام والكمال، وهو ما يعني ثروة معقولة لفرد، من شأنها أن تنقله نقلة جيدة في الإطار المالي ومن ثم الاجتماعي..
لا ينظر طارق إلى النقود، مهما تكن مرغوبة في الواقع الحالي المعقد اقتصاديا، نظرةَ آملٍ هي خلاصة آماله، ولو حصدها لآلت إلى محيطه القريب الذي قد يكون في حاجة ماسة إليها، وربما البعيد الذي يراقب طارق أساه بمنتهى الألم، أتحدث في هذه النقطة عارفا بنبله، والأكيد أن البسيط منها سيكون لدعم مشروعه الأدبي الكبير الفارق، لا للمتعة الشخصية أيا كانت، ولو كانت المتعة المشروعة في حد ذاتها شيئا يجب الحرص عليه.. إن معظم ما يخصه من الجائزة هو حمل اللقب.. أن يفوز، منفردا، بالبوكر فتفوز بلده كلها، ويرتفع علمها خفاقا في العالم، وينتصر أدبيون مهمون آمنوا به وأيدوه واثقين في عقله وقلمه، وفي ألمعية إشراق روحه!
رسَّخ طارق إمام تيارا أدبيا جديدا، أسمِّيه أنا بتيار الإمامية في الأدب (نسبة إلى لقبه)، ليس في كلامي مبالغة من أي نوع، فقارئه يلاحظ الفوارق الشاسعة بينه وبين أبناء جيله من المبدعين، بل بينه وبين جملة سابقيه ولاحقيه على السواء، هذا التيار الذي رسَّخه طارق، أسَّسه أبوه الجليل سيد إمام، رمز الترجمة والنقد، الشيخ المكافح الشاهق الذي لم ينل ما يستحقه على الدوام، وصبر على الإهمال والإساءة والضرر، واكتفى بالقليل دون شكوى، ولكنه عندما وجد ابنه صاعدا بمدارات الصاعدين؛ سعدت دواخله أبلغ سعادة لأنه ظفر بالمجد في أوضحِ صورةٍ مطابقةٍ له في مرآة الدهور..
وإذا كان طارق رسَّخ لما كان أسَّسه أبوه، كما أتصور يقينًا، فإن الخبر المبهج أنه بقي وحده في خانة تستوعب تجليه، وعمنا أبوه وحده في خانة ثانية، أقصد أنهما انفصلا مقدار ما اتصلا، ومكث كل منهما في استقلاله الخاص النبيه على كثرة التقائهما وشدة التئامهما.. إنهما يعنيان الإمامية المذكورة بالضبط، وحتى لو لم تكن الإمامية التي اخترعت اسمها أنا، بأدلة قطعية لا ظنية يسهل تفصيلها في موضع آخر، وقد كنت، بالمناسبة، فصلتها تدريجيا في كتابات سابقة متعاقبة تناولتهما فيها أو تناولت أحدهما، وصدقتها تمام التصديق، وصدقها معي معتبرون كثيرون، حتى لو لم تكن تعني صفحة أدبية يرضى عنها الجميع، وهذا طبيعي فلا شيء يمكن أن يكون محل رضا الجميع، فستكون خالدةً كوجهٍ فنِّيٍّ باذخِ الجمال، فريدٍ وذي ملامحَ أصيلةٍ مدهشةٍ حقًّا، والأغلب أن مساحة الرضا عن تميُّزه ستكون هائلةً فوق تفاؤل الخيال المتفائل نفسه!
أخيرا فإن "ماكيت القاهرة" الصادرة عن المتوسط، والمرشحة، بقوة، للحصول على البوكر، رواية مختلفة بكل معنى، يظهر فيها جهدٌ مضنٍ بذله كاتبها، جهد فوق العادة، يشمل فكرتها ولغتها وبناءها والرؤية الكامنة خلفها بالضرورة، يشملها جميعا من الجلدة إلى الجلدة كما نقول، ولا أظن رواية، من الروايات التي صدرت في الفترة الأخيرة بالذات، حظيت بما حظيت به هذه الرواية البديعة من الاهتمام التوقيعي الاحتفائي والرصد النقدي الذي لا يزال يحاول كشف أبعادها الخفية التي تبدو شديدة الغنى والاتساع، من أول عنوانها إلى النقطة التي أغلقت جملتها الأخيرة!
إرسال تعليق