شوارع ممتلئة بالموسيقي والموت
محمد ممدوح
أحبّتْ البنتُ اللّعب في الشوارع الطويلة. تشعر فيها بالحرية مستمتعة بالنظر لشُّرفات ونوافذ مفتوحة، تري فيها ولداً يستعد لإطلاق طائرة ورقية للسماء، أو بنتاً تنفخ في فلوت فضيّ يُدهش السائرين.
أحياناً تقابل حكاياتٍ أطول في تفاصيلها من بعض الشوارع. وتلعبُ دور أم وفتاة عندما لا تجد أحداً من أقرانها، وتداعبُ عصفورها الواقف علي نافذتها كل صباح وقُتِلَ ببندقية صيّاد، لتدفنه بجوار شجرة في مدخل البيت.
تجاهلتْ الموت، وقالت بحزم: "لن أموت". انزعج لجملتها، وهو المتواجد بالعالم كل ثانية.
ابتهجتْ الموسيقي عندما سمعتْ جُملة البنت، فبحثتْ عنها في شوارع تعرفاها لكثرة تجوالهما فيها.
سَمِعَتْ البنتُ "نغمة شجن".
فتخيّلتْ أنها تُطعم قطّاً جائعاً في حديقة. تُدخِلها الموسيقي عالماً شبيهاً بالأحلام تعبرُ خلاله طريق سيّارات دون التفاتة، تبتسم للجميع فيبادلونها قبلاتٍ في الهواء، وتهمس بكلمة في أذن مشرّد فلا يتوقّف عن الضحك.
وأدخلتْ البنتُ الموسيقي شوارعَ لم تسِرْ فيها من قبل لتصبح نغماتها أكثر حيوية، فتتشكّل حسب المشاعر والألوان التي تقابلها.
تسلّل الموت لشارعٍ خلف البنت ك"غيمةٍ سوداء" انقضّتْ علي عقِبِ قدمها اليمني، انكفأتْ علي وجهها، لتنهضَ وتهرُبَ لميدانٍ مزدحم قابلتْ فيه الموسيقي، التي مالتْ علي العَقِب وهمستْ بشئٍ ما؛ فاختفتْ الكدمة، بينما انسدّ الشارع بوجه الغيمة فتراجعتْ إلي الخلف.
رآهما في اليوم التالي علي "ناصية شارع".
هجم ك "طائر" بمنقارٍ حاد علي الموسيقي، فأصدرتْ نغماتٍ جنائزية ذكّرتْ بمشهد جثثٍ متناثرة اهتزّ معها إيقاع العالم، وصبغ حزنها بقيّة النغمات التي يردّدها الناس، وعجزتْ "ناصية الشارع" عن مساعدتهما بعد أن آناساها بحكايةٍ ونغمةٍ عذبتين.
قبضَ الموتُ أرواحاً تافهة في طريقه، ككوبٍ زجاجيّ ونملةٍ شاردة، ليُطَمئنَ نفسه أنه لا يزالُ موجوداً.
قابلتْ البنتُ الموسيقي في حفل بإحدي القاعات، بعد أن شُفِيَتْ إصابتها وأصدرتْ نغماتٍ جديدة تسرّبتْ لقاعةِ مأتمٍ مجاورة، اختبأ فيها الموت بحثاً عن ضحيّةٍ من بين مُعزّين فاضتْ أعينهم بدمعٍ احتاروا في نسبته حزناً علي الميّت، أم انتشاءً بالنغمات؛ حتي انسلّ بعضهم لقاعة الحفل ليلمسوها بأيديهم.
بعد انصراف الجميع وقف الثلاثة خارج القاعتين ينظرون لبعضهم ويبتسمون، فكانت لحظة سلامٍ للعالم.
وضع الموتُ علاماتٍ في الشوارع ليتعرّف علي مرورهما بسهولة، لكن الأخيرة كانت تتخلّص منها بسرعة.
تمنتْ البنتُ التحوّل إلي نغمة.
أخبرتها الموسيقي أن تبتسم عند استيقاظها وستسري النغمة في دمها، لكن الموت اشتَمّها أثناء وقوفها أمام محل "آيس كريم".
كان ب"هيئة عجوز" يرتدي جلباباً أبيض، فرأتْ ابتسامته التي تعرفها جيداً.
ألقتْ في وجهه بأسوأ نغمة وهرُبَتْ لشوارع جانبية، كأنها تنزع جلدها بلا مبالاة، فقبضَ أرواحاً بطريقةٍ عشوائية لتنتشر جثثٌ بالشوارعِ، وتُدفن بمقبرةٍ كبيرة علي أطراف المدينة.
عندما أُنهكَ الثلاثة من الركض، جلسوا إلي منضدة دائرية لالتقاط الأنفاس.
إرسال تعليق