علي حسن يكتب: وحي الإبداع يهبط على جبريل في بحري
علي حسن يكتب: وحي الإبداع يهبط على جبريل في بحري |
بقلم: علي حسن
مَن منا لا يشعر بسطوة المكان على حياته؟ كلنا نعيش تحت تأثير الزمان والمكان، الزمان يمضي نحو النهاية، لكن مفعوله لا يكتمل أثره إلا حين يقترن بتوأمه "المكان" الأشد قوة والأبلغ تأثيرًا!
نجد العجوز يترك دنياه وزمانه ويعيش في مكان آخر خيالي ويستحضر مع المكان الزمان الملائم له، كم من الناس لا تعش زمانها، ولكنها تتفاعل مع المكان دائمًا أبدًا.
قد عظم الله أوقاتًا وفضلها على غيرها، وقدس أماكن لا تختلف في حجارتها ولا رمالها عن غيرها من البقاع الأخرى، لكن الله أراد أن يهبها تعظيمًا لم يهبه لسواها.
بدأ عشق الإنسان للمكان منذ أن خلقه الله وعلمه الأسماء كلها، وآدم مخلوق من طين الأرض، فلا عجب حين نرى البشر يميلون إلى أصلهم ويعشقون مواطئ أقدامهم، هكذا الإنسان يجد في بعض الأماكن ما لا يجده في أماكن أخرى،
ويمنحها من التقدير ما لا يمنحه لغيرها، معتمدًا على زمان يخصه هو أو على بشر استأنس بوجودهم فيها، أو حتى أنه اشتم نسمه زكية واستمتع ذات ليلة بعبير مفعم بالحب في لحظة من لحظات حياته، فظل يذكر ذلك المكان ويستمتع بذاك النسيم ويشتم ذلك العبير رغم ما مر من سنوات!
يقول أمير الشعراء: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعًا.
يظهر دائمًا هذا الأمر جليًا مع الشعراء والأدباء، هو موجود مع كل البشر، لكن ملكة التعبير وصياغة الكلمات تبرز ما قد يعجز لسان الإنسان العادي على التعبير عنه والإشارة إليه رغم أنه موجود ومؤثر لا ريب.
قد يكون المكان الذي نعشقه وطنًا، وقد يكون المكان مدينة أو حيًا، وقد يكون شارعًا في مدينة، أو بيتًا صغيرًا في شارع، قد يكون كوخًا صغيرًا لن نستطيع أن نصفه بـأنه حقير ومتواضع لأنه عند بعض البشر هو الدنيا وما فيها! ألم ترى إنسانًا يهيم شوقًا ليقف بجوار شبر من الأرض؟ وفي الأديان متسع من الأمثلة التي لا تحتاج إلى إشارة أو توضيح.
وفي الأدب نجد عشرات الأمثلة، عالميًا كان أو محليًا، فعشق الإنسان للمكان لا يرتبط بإقليم أو بجنس بشري معين، والحنين للأمكنة يصيب جميع بني آدم في الصميم، الحنين هو السر الذي يفضحة القلم، واللغز الذي ينجلي وينكشف حين يقع الأديب في شباكه، ويسهب في الحديث عنه.
نجد بلزاك في قصته الرائعة "على من يقع اللوم" يعتذر عن الإسهاب الذي تناول به معالم الشارع الذي تدور فيه قصته، فلقد كان الدافع للإسهاب هو ذاك الحنين للشارع الذي شهد طفولته. هل تذكر بوضوح وبكل عنفوان مكانًا مثلما تذكر المكان الذي شهد طفولتك؟ تلك الأماكن الذي شهدت نمونا ومراهقتنا، ونمو شهوتنا ونشوتنا وتعلمنا الكتابة والقراءة والسؤال وكيف نرد عليه، اللعب، الصبر على الإجهاد من أجل المتعة، التعرف على صديق جديد، البكاء على صديق فضل علينا آخر، مصاحبة الأب، العدو أمام الأم والخالات العائدات من بيت الجدة! كل ذلك يترك على الذاكرة أثرًا لا تزيله الأيام، ولا يجد جناحين ليطير بعيدًا عن الذاكرة، فيمكث كالدودة في الحجر، لا يكف عن الحركة لكنه لا يستطيع الفكاك أو الهرب!
يقول فوكنر: "استطيع أن أكتب عن قريتي - وأنا خارجها- دون توقف على الإطلاق" وضع عشرات الخطوط أسفل "وأنا خارجها" فالذي يتحدث هو الحنين. سألوا جابريل جارثيا مركيز: "لماذا لا تعيش في وطنك كولومبيا؟" فأجابهم: "من قال أني لا أعيش في كولومبيا؟ لقد غادرت الوطن لكني مازلت أحيا فيه، من يقرأ مئة عام من العزلة، خريف البطريرك، قصة موت معلن، الحب في زمن الكوليرا جميع تلك الروايات جاءت من الحنين، الحنين إلى الوطن".
الحنين لا يرتبط دائمًا بلحظات العز والانتصار؛ فقد يأتي الحنين ملازمًا للحظات رفض وإنكسار أو هزيمة، وكم من الأدباء صرحوا في كتاباتهم بلحظات ضعف قد ينكرونها أمام الناس في العلن، لكنهم يفخرون بها على الورق، إن الكتابة لحظة صدق لا تتكرر، ولا يستطيع المرء الفكاك منها إذا تناول قلمًا ليكتب.
محليًا كان بوح طه حسين بكل ماضيه وخلجاته التي استقرت عشرات السنين في صدره، وأخرج "الأيام" ورغم أن شخصية الدكتور طه حسين متفردة، وليس سهلًا أن نجد ما يشبهها سواء في مصر أو عالميًا، إلا أن حنين الدكتور طه كان حنينًا مضاعفًا، ومُركبًا. حنينه كان شوقًا للبصر، وتلهفًا إلى السنوات القليلة التي شاهد النور وميز الألوان خلالها، وكان حنين إلى المكان، وإن كان يبدو من أول وهلة أنه سخط وغضب!
كذلك الأزهر الذي اعتقد البعض أنه جاهر بالعداء له في روايته، ما كان صوت العميد إلا دعوة للإصلاح والتجديد وما كان معول هدم ومحو!
كان كل شيء للعميد ونظرًا لحالة فقد البصر يمثل له حنينًا دائمًا، وتضاعف لديه الحنين مرات، ومبعث ذلك الحنين لم يتعدَ السمع وما تجاوز الروح، لقد اشتم عبق الأماكن وحفظ كل ما يمثلها من نسائم وأحاديث، حتى زوجته، ظل حنينه إليها يؤرقه وهي بين ذراعيه! فقدان بصره كان عذاب مقيم وشعور متجدد بالفقد.
أكتفي هنا بهذه الأمثلة التي تبرهن على أثر المكان في النفس والحنين المتجدد إلى الماضي، وأبدأ في الحديث عن الشمس، سأتناول باختصار ما فاض به الأستاذ محمد جبريل من نور وضياء ودفء على الإسكندرية. أديب عشق مسقط رأسه حتى الثمالة، وذاب عشقًا في "حي بحري" وما كتبه الأستاذ محمد جبريل عن "بحري" يبرهن على أثر المكان في نفس الأديب، سبقه إلى ذلك الأستاذ الأكبر نجيب محفوظ، عاشق "الجمالية" والذي كان له بساطًا سحريًا أوصله لنوبل. كذلك الأستاذ محمد جبريل تعددت كتاباته عن حي بحري، وتوجها بعمله الروائي الضخم "رباعية بحري" من أربعة أجزاء: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز. تعرض للحياة في بحري منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى مطلع ثورة يوليو ١٩٥٢، وكما يصفها الأستاذ بنفسه فهي لوحات منفصلة من حيث تكامل اللحظة القصصية، ومتصلة من حيث اتصال الأحداث، وتناغم المواقف وتكرار الشخصيات، "أنسية" التي طالعتنا في بداية الجزء الأول هي "أنسية" التي انتهت بها أحداث الجزء الرابع والأخير، وما بين البداية والنهاية نتعرف إلى دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وإنجاب وشيخوخة ووفاة، فضلا عن الحياة في المعهد الديني بالمسافر خانة وحلقة السمك وحياة الفتوات والعوالم وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز، بقدرات اختلاف البيئة وتميزها. ذلك من وجهة نظر الأستاذ، وإن كنت أرى أن الأستاذ حضر وبقوة بل لم يختفِ من إحدى صفحات الرباعية منذ بدايتها وحتى نهايتها.
علي حسن يكتب: وحي الإبداع يهبط على جبريل في بحري |
وحي الإبداع في بحري
حي بحري لمن لا يعرفه، وأنا مثله شاهدته ومشيت في شوارعه لكني لم أعرفه حق المعرفة حتى قرأت ما أبدعه الأستاذ عنه، واعترف أنه كان دافعًا لي كي أعاود اكتشافه من جديد، وذهبت إلى "بحري" خصيصًا لأعرفه عن كثب، وأعاين كل ما تناوله الأستاذ في كتاباته عن هذا الحي الذي يقول الأستاذ عنه: "الحق أني حين أغادر بحري أعاني ارتباكًا وفقدانًا للاتجاه، أسأل بحثًا عن البناية التي – ربما – علت أمامي، أو الشارع الذي - ربما – سرت فيه. لم أكن أتجاوز بحري إلا نادرًا، يصحبني أبي، أو أحد أقاربنا، أو أضع تصورًا محددًا للشوارع التي يجب أن أخترقها، لا أميل إلى شوارع أخرى، ولو لإرضاء الفضول! حي بحري الذي سكن فيه الأستاذ، وبالتحديد في٥٤ شارع إسماعيل صبري كان له دور في خلق وعيه، قرب بيته من مسجد أبو العباس المرسي، وامتداده إلى المنشية ومحطة الرمل وأحياء الإسكندرية الأخرى، أتاح للجلوات أن تخترقه من شارع الأباصيري، كما كانت المظاهرات السياسية ومواكب المسؤولين القادمة من باب الجمرك رقم واحد تأتي من شارع أبو وردة أو شارع رأس التين، وحي بحري شبه جزيرة تحيط به الماء من جهات ثلاث.
الحنين إلى بحري
يقول الأستاذ: "عندما أكون خارج مصر، فإن الحنين يدفعني إلى استحضار الملامح المألوفة، واللهجة، إلى الحياة فيها ومعها، تذكر التفصيلات الصغيرة، والتافهة، ضغطة الزر في اللهجات المصرية، وصوت الناي، وتلاوة الشيخ محمد رفعت وأبو العينين شعيشع، وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب وعبدالحليم وبدارة وعزت عوض الله ورقصات سيد حلال عليه، ولوحات محمود سعيد، وروايات نجيب محفوظ، وقراءات فاروق شوشة في الإذاعة والأفلام المصرية في التليفزيون. وثمة الإسكندرية إنها عندي ليست مطلقة، بل تتحدد في ذكريات شخصية، وأماكن وبشر، بالتحديد حي بحري، ناسه ومساجده وميادينه وأسواقه وشوارعه وأزقته وتميز الحياة فيه، أنتمي بمشاعري وذكرياتي إلى بحري، تلك المنطقة التي تبدأ من ميدان المنشية وتنتهي في سراي رأس التين".
بحري حاضر بقوة في أعمال محمد جبريل
تناول الأستاذ حي بحري في أغلب أعماله الإبداعية، مشاهد كثيرة تأملها واختزنها ثم استعادها حين بدأ الكتابة، ولم تخلُ عناوين هذه الأعمال من تأثير المكان وبحري والإسكندرية والبحر والخليج والميناء والحنين والموج والأنفوشي والشاطئ، نذكر من هذه الأعمال وليس جميعها "رباعية بحري"، "الصهبة"، "قاضي البهار ينزل البحر"، "صيد العصاري"، "نجم وحيد في الأفق"، "حكايات الفصول الأربعة"، "مواسم للحنين"، "زوينة"، "المينا الشرقية"، "الخليج"، "حكايات عن جزيرة فاروس" (سيرة ذاتية)، "زمان الوصل"، "النظر إلى أسفل"، "مصر المكان"، "أهل البحر"، "البحر أمامها"، "صخرة في الأنفوشي"، "غواية الإسكندرية"، "الشاطئ الآخر" وقصة "حلاوة الوقت"، كذلك "مد الموج" الذي يقول عنها: "إن النسائم المحملة بروائح الملح واليود والأعشاب والطحالب، تلامس أنفي في مكان ما، في لحظة ما، على الشاطئ الأطلسي، خور فكان، شاطئ الكورنيش بمطرح، فوق تلال الجزائر، حي البورسعيد التونسي، استعيد الرائحة نفسها على شاطئ الكورنيش في المينا الشرقية، أو في الأنفوشي، يغلبني الشوق إلى ملء رئتي من هواء بحري، تصنعه تيارات من البحر الذي يحيط بمعظم جوانبه".
إن الأستاذ لم ينس الإسكندرية، أو بالأحرى لم ينس "حي بحري" للحظة، يقول: " بعيدًا عن بحري سواء في القاهرة أو في المدن المصرية الأخرى، أو في خارج البلاد، فإني كنت أجري ما يشبه المقارنات بين بحري وغيره من المناطق التي تتسم بخصوصية. خصوصية بحري حافلة بالتنوع والخصوبة والثراء، بيئة ساحلية يختلط فيها البحر باليابسة بحميمية معلنة، مفرداتها الصيادون والغزل وتجار السمك، وتجار أدوات الصيد وعمال الميناء وعساكر السواحل وأفراد القوات البحرية والبحارة الأجانب والسياح بالإضافة إلى المفردات الروحية المتمثلة في عشرات الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة، مشهد غير متماثل ولا متكرر، يمثل بالنسبة - لي على الأقل- حافزًا للتأمل وتوظيف البيئة في أعمالي الروائية والقصصية".
"سافرت إلى مدن كثيرة، لكن وجداني لم يترك الإسكندرية -وبحري بخاصة- في أي وقت، أنا دائم الوجود فيه بالحنين والشوق واستعادة الذكريات والمقارنة والكتابة عن الوقائع والأماكن والشخصيات، جغرافيًا قد أكون بعيدًا عن بحري بمئات أو آلاف الكيلومترات، لكني أعيش في بحري، أسير في الشوارع والحواري والأزقة، أؤدي الصلوات في المساجد، أذاكر في صحن أبي العباس، أشاهد الموالد، أزور الأضرحة والمقامات، وأقرأ الفاتحة، أندس وسط حلقات الذكر، أخترق زحام شارع الميدان، أقف على شاطئ البحر، أتابع عمليات صيد السنارة والطراحة والجرافة، أتابع تحليق الطائرات الورقية الملونة، أمد النظر إلى نهاية الأفق".
تلك العبارات التي تفيض شوقًا وحنينًا إلى بحري، نطالعها في كتاب رقيق وجميل هو "الحنين إلى بحري" الصادر عن مؤسسة الهلال، ومن يطالع هذا الكتاب سيشعر بما شعر به الأستاذ من حنين جارف لحي بحري، وستصيبه عدوى الحب والحنين إلى بحري من شدة ما تحمله الكلمات والعبارات والصفحات من هذا الحب الصادق وذلك الحنين الجارف لأجمل أحياء الإسكندرية! قرأت الكتاب عدة مرات، وسافرت إلى حي بحري لاستكشف عالم الأستاذ، وسألت عن الشوارع والأزقة التي حدثني عنها في كتابه!
رغم انقضاء عشرات السنين على رحيل الأستاذ من بحري إلا أنه يقول: "أصحو في كثير من الأيام على جلبة الطريق في ميدان الخمس فوانيس، ورائحة البحر، وأهازيج السَحَر، وجَلوات الصوفية، وسوق العيد ومواكب العرائس أسفل بيتنا، تختلط الذكريات والصور القديمة، استغرق لحظات قبل أن أعود إلى الآني".
ولأن الأستاذ مأخوذ بحب "بحري" ويختلط عليك الأمر فلا تعرف مَن يعيش داخل الآخر، حي بحري بكل أسواقه وشوارعه وجوامعه وحدائقه وأضرحته ومقاماته وناسه وحديقة قصر رأس التين وقراءة القرآن في ليالي رمضان، كل ذلك يعيش داخل الأستاذ، أم أن الأستاذ بكل كيانه هو مَن يعيش داخل بحري؟ لقد أعاد الأستاذ وكرر أكثر من عشر مرات كل ما يميز الحي منتشيًا بالتكرار كأنه يستمع إلى تجليات الشيخ سيد درويش أو أم كلثوم: " وعيت على البحر في مواجهة بيتنا، وفي إحاطته بالبيت والحي كله من ثلاث جهات، اعتدت طيران النورس على امتداد الساحل، والبلانسات، والفلايك، وعمليات الصيد بالسنارة والطراحة والجرافة، سراي رأس التين وعسكري السواحل، وإيقاع جياد الملك في جولتها الصباحية، والمظاهرات ما بين سراي رأس التين وميدان المنشية، والأضرحة والمقامات والموالد وحلقات الذكر وأريج البخور وأهازيج السَحَر من مئذنة أبو العباس والبوصيري ومؤذن جامع علي تمراز وهو يصعد السلم المعدني ينظر من توالي الكوات بعلو المئذنة، يلتقط أنفاسه حتى يبلغ البسطة الصغيرة أعلى المئذنة، يعتدل في وقفته، ويحيط وجهه براحتيه ويرفع الأذان، مشهد يتكرر خمس مرات في اليوم، مواكب الطهور والزفاف، وشوارع السيالة المتشابكة الضيقة، والحديقة الصغيرة أمام مستشفى الملكة نازلي، وقلعة قايتباي ومعهد الأحياء المائية، وصيد العصاري ومرسى القوارب بالميناء الشرقي، ورائحة الزفارة التي لا تخطئها الأنف في حلقة السمك ".
هذا هو حال الأستاذ مع الأماكن التي تحمل رائحة البحر، ورائحة بحري التي ألفها؛ البحر واليود والطحالب والأعشاب والأسماك والقواقع والأصداف، ولكنها لا تطفئ لهفته وشوقه إلى بحري، يستعيد الرائحة ولكنه مازال يفتقده، فالأماكن التي تحمل رائحة بحري كثيرة لكنها لا تحمل ملامحه!
يقول الأستاذ: "أحب العيش في مصر الجديدة إقامتي فيها تعود إلى ما قبل أربعين عامًا، لا أتصور الإقامة في مكان آخر، بي ألفة للبشر والأماكن والأشياء، ألفت هذا الحي، هذا الشارع، هذا البيت، هذه الشقة، لا أفكر في الانتقال ولو إلى مكان أكثر ملائمة، وإذا تركت القاهرة فإن الهاجس الذي يتملكني هو العودة إلى "مكتبتي" هي خلاصة كل ما يجتذبني إلى مصر الجديدة. مع ذلك، فإن مصر الجديدة تغيب - لا أدري لما؟ - في كتاباتي، لا أكتب عنها ولا أشير إليها، ولا إلى ناسها، شوارعها، مؤسساتها، مساجدها، كنائسها بناياتها.
ولأن العمل الإبداعي يكتب نفسه، فإن ما أكتبه -في سطوره الأولى- يستدعي الحياة في بحري:
"الشخصيات والأماكن والأحداث".
يعترف الأستاذ فيقول: "لم أكتب في أعمالي التي عرضت للحياة في بحري عن مكان لم أتردد عليه، ولا شخصية لم أتعرف إليها، ولا طقس لم أمارسه، أو تابعت ممارسته جيدًا، مثلًا: صيد الجرافة والطراحة والذكر والإنشاد الديني والجلوات إلخ".
كتاب الحنين إلى بحري
إن كتاب "الحنين إلى بحري" ليس كتابًا قائما بذاته، تستطيع به أن تستغن عن مؤلفات الأستاذ عن بحري، بل هو خريطة إرشادية يستعين بها السائح حين يسير في الحارات والطرقات من سراي رأس التين وحتى ميدان المنشية، أما أنا فالكتاب يصف لي كيف الوصول إلى " الكنز" ورغم أن عبقرية المكان في "بحري" ظاهرة كالشمس على شاطئ البحر في الإسكندرية، وروحيًا وأدبيًا في كل الأعمال الإبداعية للأستاذ، إلا أن "الحنين إلى بحري" في قطعه الصغير وصفحاته التي تجاوزت المئتين بعشرين صفحة لا تغني عن قراءة الأعمال الإبداعية التي تتحدث عن "حي بحري" بل هو كالمقبلات التي تبدأ قبل أكلة دسمة يقبل عليها الأكلة بنهم وجوع لا ينتهي حتى الصفحات الأخيرة من كل رواية للأستاذ "محمد جبريل".
في حقيقة القول كنت أتمنى أن أطيل الحديث عن الأستاذ وحي "بحري الذي يعشقه وعشقته حين تناوله الأستاذ بقلمه ولكني أنصح القارئ بأن يكمل المسيرة بنفسه ويستكشف العالم الفريد الذي يصوره الأستاذ بحب وعشق لا يضاهيه سوى الأستاذ نجيب محفوظ في أعماله الإبداعية عن الجمالية.
لقد كتب عن الإسكندرية الكثير من الأدباء الأجانب، ومنهم من عاش فيها سنوات من حياته، وحققوا شهرة عالمية، لكن الحنين الذي أصاب الأستاذ أخطأهم، تناول الإسكندرية كلًا من لورانس داريل الإيرلندي، وأونجريتي الإيطالي، وقسطنطين كفافيس اليوناني، وفشتر السويسري، وهنري تويل الفرنسي، حنين الأستاذ يستيقظ -إن كان قد نام أصلًا- حين يسقط المطر على القاهرة، فهو يتأمله من وراء النافذة فينقله هذا الحنين إلى الإسكندرية، فيستعيد مشهد الأمطار المتساقطة على شوارع الإسكندرية، ويردد كلمات الأغنية التي طالما رددها صغيرًا: " يا مطرة رُخّي رُخّي.. على قرعة بنت أختي" حتى الشتاء في الإسكندرية كما يقول الأستاذ ولأوقات المطر بخاصة طبيعة مغايرة!
"رباعية بحري" لمحمد جبريل، رباعية عشق وحنين
إسكندرية لورانس داريل في "رباعية الإسكندرية" تختلف عن "رباعية بحري" للأستاذ، رباعية بحري قصيدة عشق، ولوعة شوق وحنين صادق لكل ما هو سكندري ينتمي للحي الذي يسكن قلب جبريل بينما الصورة التي رسمها داريل في "رباعية الإسكندرية" هي صورة تنتمي لداريل نفسه كما قال الشاعر صلاح عبد الصبور.
الكتابة عن حياة معاشة
اختصر ما قاله الأستاذ حين قارن بين رباعيته وبين رباعية داريل: أن داريل كتب عن الإسكندرية معتمدًا على ثقافته لا على تجاربه، ولهذا جعل الإسكندرية مدينة إغريقية أو متأغرقة، تتراوح بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والصورة الشعرية التي يثيرها اسمها بذاته في الأعماق! ولقد استعان الأستاذ بذكر ما قاله الناقد الإنجليزي "جلبرت فيليبس" عن رباعية داريل بأنه قد بذل قدرًا كبيرًا من الطاقة في الرباعية لكنها أقرب تمامًا إلى أن تكون طاقة ذهنية ناشئة من الذهن وموجهة إليه! بينما الإسكندرية في رباعية جبريل تصير شخوصًا من دم ولحم تتحدث عن نفسها بكل صدق وتتفجر حنينًا وشوقًا لكل قطرة ماء مالح أو حبة رمل على شاطئ الإسكندرية وبحري!
نقلا عن:
موقع منتدى الكتاب العربي
عن جريدة القاهرة، العدد 1006، 29 أكتوبر 2019
إرسال تعليق