مقصدي البوح لا الشكوى، رواية تسجيلية لمحمد جبريل
بانوراما أدبية: مقالات: مقصدي البوح لا الشكوى، رواية تسجيلية لمحمد جبريل، رؤية نقدية بقلم: سيد الوكيل. شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، كتب، كتاب.
مقصدي البوح لا الشكوى، كتابة سردية تخرج عن التصنيف النوعي
قليلة هي الكتابات السردية التي تخرج عن التصنيف النوعي بين القصة والرواية، فالواقع النقدي والقرائي المنضبط على معنى النوع، لا يستطيع احتواءها عادة، لهذا تقبع في الظل إذا ما قورنت بأعمال أخرى تعلن عن نوعها بوضوح. ومع ذلك، فكل الأدباء الموهوبين أمثال أستاذنا محمد جبريل، ومهما كانت ضخامة إنتاجهم، لديهم عمل ـ على الأقل ـ يقبع خارج النوع، فيظل يغرد خارج السرب، ويعلن عن نفسه على استحياء كمن يشعر باغترابه. لكن لا أحد يقدر على مقاومة غواية أن يكتب خارج النوع، ولا حتى نجيب محفوظ الذي كتب أصداء السيرة الذاتية فأثارت جدلا واسعاً في تصنيفها. ثم كتب الأحلام فوضع أساسا لفن سردي جديد. لكننا لا نصل إلي هذا إلا باكتمال ونضج لرحلتنا الأدبية على مشقتها.
رؤية نقدية: سيد الوكيل
كنت أفكر على هذا النحو وأنا أقرأ (مقصدي البوح لا الشكوى) للأستاذ محمد جبريل، وقد كتب على الغلاف (رواية تسجيلية).
بالنسبة لي، ف محمد جبريل أكبر من روائي أو صحفي، إنه مدرسة، خرّجت على الأقل جيلين من المبدعين والنقاد من خلال ندوته الأسبوعية التي بدأت في منتصف الثمانينيات. وعلى الرغم من أنها كانت تعقد بدار التحرير للطبع والنشر، إلا أن رواد هذه الندوة كانوا ينسبونها إلى شخص محمد جبريل مباشرة متجاهلين هذه المؤسسة العريقة، ربما بدافع من التقدير لقدرة هذا الرجل على احتواء الكتاب والمبدعين الجدد واستيعاب نزقهم وتطرفهم أحيانا. ومن خلال هذا الأداء الإنساني المتسامح، أخذت الندوة طابع الورشة- ولا أظن أن مفهوم الورشة قد تحقق في مصر بهذا المستوى- إذ قدمت للحياة الثقافية عشرات من المبدعين والنقاد على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وهم الآن من كبار نجوم الشعر والسرد والنقد، بل والصحافة في مصر، وإن كنت ناسي..أفكرك...
البوح عند محمد جبريل
في هذا العمل، لم يكن بوح محمد جبريل نوعاً من السيرة الذاتية بمعناها التقليدي، بل كانت جانباً واحداً منها. جانب يتعلق بمعاناته مع المرض(شفاه الله وعافاه) وهي تجربة في واقعها اليومي قد تبدو للبعض روتينية، لكن جبريل يجعل منها عملاً أدبياً مراوغاً حد الدهشة في تصنيفه، ليس هذا فحسب، بل هو مراوغ في علاماته، ومن ثم تلقيه، يحدث هذا بفضل النقلات السريعة المتلاحقة بين جوانب الموضوع، تلك التي تكسبه حيوية وتدفقاً على الرغم مما فيه من عذابات وآلام، فتحتار بين الشعورين ، شعور الألم بالتعاطف مع معاناة الكاتب ولا سيما إذا كنت تعرفه أو كنت واحداً من مريديه كما أنا؟ أم شعور المتعة الذي تخلفه رشاقة اللغة وسلاسة التعبير والنقر الخفيف على الكثير من المعاني الإنسانية والمقاصد. فنشعر بدرجة عالية من الصدق المتضَمن لمعنى (البوح) يكسب هذا العمل حضوراً شعورياً يشبه التراجيديا في تصورها عند أرسطو، فتجد نفسك متوحدا مع التجربة، وكأنك تعيشها في رحلة العلاج والألم والحيرة بين الأطباء وطرقات المشافي.
رواية تسجيلية
أنا شخصيا أرى أن تصنيف هذا العمل بوصفه رواية تسجيلية، أضيق كثيراً من محتواه الرحب، فمساحات البوح الواسعة حررت الكاتب من كل قيود الكتابة الروائية، كما أنها تجاوزت معنى التسجيلية إلى مساحات من التأمل في البعد الذاتي والشخصي، وفي البعد الفلسفي لمعنى الألم ومعاناة الإنسان أمام قدره. وفي محيط العلاقات الإنسانية مع الأسرة والأصدقاء والمقربين. فضلا عن البعد التحليلي الذكي والطريف لكثير من مظاهر الحياة اليومية والثقافية والسياسية.
سمات السرد عند محمد جبريل
هناك سردات سريعة ومتتابعة تحوم فوق كل هذه المعاني، لكنها لا تذهب بعيداً عن موضوعها المركزي، وهو رحلة الألم والمعاناة التي هي مدعاة البوح والشجن، ومشارط الجراحين، وخطايا الأطباء التي كشفت عن تحول الطب من معنى الرسالة إلى الاسترزاق، وأفضت إلى حيرة المرضى بين عشرات التخصصات الدقيقة والتشخيصات المرتجلة، وفتاوي الأصدقاء ونصائح المجربين واختراعات العطارين وجرائم المعالجين بالطب النبوي.. وهكذا يتجاوز العمل معنى التسجيلية إلى معنى أوسع كثيراً.
إن هذا الفضاء الكتابي الشاسع والمتعدد هو السبب في ندرة هذا النوع من الكتابة، فغالبية الكتّاب يفضلون السير في المضمون وفق مسارات النوع الواحد، فالكتابة خارج النوع مغامرة تحتاج إلى خبرة عميقة، ومهارة خاصة في قيادة السرد عبر طرق وعرة وغير مأهولة لكثير من الكتاب، على نحو ما نجد في هذا العمل.
تجربة محمد جبريل مع المرض
من السطر الأول يضعك الأستاذ محمد جبريل داخل تجربته، بل ويدعوك لتجلس بجواره في المستشفى على سرير المرض، لتشهد لحظة الإفاقة من أثر التخدير بعد عملية جراحية خطيرة. تلك هي لحظة انطلاق البوح التي تبدو أقرب إلى المناجاة، وهو يستدعي عشرات التفاصيل الصغيرة في رحلة الحياة والمرض والكتابة، حتى نجد أنفسنا معه على كورنيش الإسكندرية، فنراه شاباً عفياً مفعماً بالحيوية، يصافحنا ويكمل رحلته بين الناس في مشهد لا يمكن نسيانه:
" .. إذا أتاح لي الله حرية الحركة أن أمشي بلا توقف، أنضم لتيارات الناس، والزحام، اخترق الأسواق والشوارع والميادين والحواري والأزقة، أسير على الكورنيش من رأس التين حتى المنتزة، أستعيد رؤى وذكريات، لا يدركني الملل.
أستعير قول محمود درويش: إني هنا، ومازلت حياً".
-------------------------------------
مقصدي البوح لا الشكوى، رواية تسجيلية لمحمد جبريل- الهيئة العامة لقصور الثقافة.
إرسال تعليق