رواية  روح، كتاب من رأى لمن لن يصدق، للكاتب محمد على إبراهيم.



رواية  روح، للكاتب  محمد على إبراهيم
رواية  روح، كتاب من رأى لمن لن يصدق، للكاتب  محمد على إبراهيم



بقلم مجدي نصار 


(1) الراوي فوق العليم في رواية روح: 

الروائي إله محدود الإمكانات إن قورِن بالله الواحد الكبير لكنه كامل السيطرة والتحكم في عالمه الروائي الصغير، هذه حقيقة الصَنْعة الروائية، فالروائي يخلق ما يشاء من الفانتازيا ويمنح من يشاء من الشخوص ما يرغب من صفات وأقدار ويضعه فيما يستهويه من أحداث ومواقف يحتاجها السرد. 

لكن (محمد على إبراهيم) في (روح) أبى أن يحصر إمكاناته في مجرد خلق الفانتازيا المتعلقة بالأحياء لينتقل لما بعد الفانتازيا فيربط بين العالمين: عالم الحي وعالم الميت، بين الدنيا والآخرة.  

(2) النظرة الكلية / التوحد مع الزمن في رواية روح: 

هل أتاك حديث الصراع بين آينشتاين ونيوتن؟! 
نالت الصدمة من أهل الفيزياء وربما من كل العلماء في مختلف المجالات حين خرج (آينشتاين) في العام 1916 بنظرياته الشهيرة عن النسبية وإمكانية السفر عبر الزمن. قضى أينشتاين على منظور نيوتن التقليدي عن مُطلقية الزمن مشيرًا إلى أن الزمن (نسبي/شخصي) يتفاوت من مراقب للحدث إلى مراقب آخر مضيفًا (الزمن) كبعد رابع إلى الأبعاد الثلاثة المكانية المعروفة (الطول، العرض، والارتفاع) مشكلًا مفهومًا جديدًا على السَمع والعلم: الزمكان، محركًا الزمن في فراغ دائري يجعل الماضي والحاضر والمستقبل هناك في آن واحد (دائرة واحدة) تسمى (كتلة الزمن/المنظر الزمني). 

يقول أينشتاين أنه لو تمكن الإنسان من الانحناء كالزمن (ربما عند الثقب الأسود مثلًا) مستعينًا بسرعة تساوي سرعة الضوء، سيكون بإمكانه _حتمًا_ أن يرى الدائرة كاملة (الماضي والحاضر والمستقبل) وأن يسافر بينهم في حرية تامة. 

من هذا المنطلق انبثقت الحكاية عند إبراهيم: يتحرك السارد كزمن أينشتاين (ضلع روائي رابع يثور على التقاليد الكتابية) ويجعل نفسه رقيبًا على البداية والآنية والمنتهى، محاصرًا الماضي والحاضر والمستقبل في (كتلة روائية / نشأوية-دنيوية-أخروية-عودوية) وراصدًا للدائرة كلها من موقع شِبه سماوي. 

لم يسافر إبراهيم عبر الزمن كما حلم آينشتاين، لكنه توحد مع هذا الزمن ووضع نفسه في موضع سامي عَلِيّ مٌفارِق، يرى الكتلة الكونية بشكل كامل وفق ما تيسر لخياله. وإن كان الزمن عند نيوتن (مطلق) وعند أينشتاين (نسبي) فهو في رواية روح (كتلي) بما يتيسر لروائي معاصر، يتحكم فيه إبراهيم قدر المستطاع.  

(3) النسق في رواية روح للكاتب محمد علي إبراهيم:

في عالم (روح) يتحرك إبراهيم نسقًا بين الدنيا والآخرة ويعود دائريًا إلى الدنيا ثانية. يبدأ بــ (تمهيد) عن الحياة الدنيا مسميًا إياها بالمسرحية ثم ينتقل إلى (وقت القيامة) ثم (إبليس) ثم (وقت الوردة) ثم (الله) وينتهي بــ (وقت التفاح) وعودة آدم من الجنة إلى الأرض. هذا النسق مفارق كما النص تمامًا يتنقل فيه إبراهيم بين العوالم في عالمه الجديد.  

(4) عالَم السرد (الإبرا - فيزيقا) عند محمد علي إبراهيم:

في عالم سردي مختلف يعيش محمد على إبراهيم في (روح) ويُقحِم القارىء معه في هذا العالم. (روح) رواية مركبة تطرح أسئلة عديدة ولا تقدم الإجابات للغالب الأغلب منها. يخترق إبراهيم عالم الأبدية بصناعة عالم موازي له يشبه الهلوسة التي تدور في رأس الراوي والتي تمزج بين واقع متخيل وآخر أبعد من الخيال بدرجات. عالم به زخم على مستوى التفاصيل والرؤى لكن الكاتب بحرفية قام بتبسيط لغته ولجأ إلى هوامش تفسيرية _ وإن زادت عن الحد في بعض المواقع _ تدعم المتن وتدمج القارىء في العالم (الإبراهيمي) الجديد الذي يمزج بين العالمين الفيزيقي والميتافيزيقي في فانتازيا غير عادية قد تدفعك إلى تسميته بــ (الإبرا - فيزيقي) وهي تسمية يستحقها الكاتب إذ وضع (إبراهيم) منظوره الخاص بين الظاهر والباطن، بين الدنيا والآخرة، بين الله وإبليس، بين الكون والثقب الأسود وما بعد الثقب، بين الأدب والعلم، وبين أزواج أخرى عديدة مخترقًا (البرزخ) ومحاولًا إضافة تصور جديد يزيل الرمادية بين (الأبيض/الظاهر) و(الأسود/الغيّبي).

نحن أمام كاتب يكره الرمادية والرماديين ولعل هذا ما دفعه لخلق عالم مغاير في (روح). يمثل الدنيا بالبرتقالة والآخرة بالوردة ويوزع المنعمين والمُجحَمين بين أجزاء الوردة ويستعين بالرسوم لأجل توضيح ذلك. يتنقل بحرية بين جميع جنبات الأرض وجميع أقسام الآخرة. 

(5) عتبة النص والتمهيد في رواية روح: 

العنوان (روح، كتاب من رأى لمن لن يصدق) مثير وإثارته لا تخطئها عين قارىء. يتحدث الكاتب في التمهيد عن حالة سكون للكون كله وقيامة الأرواح _ أرواح البشر وروح إبليس _ مع التركيز على بطلة الحكاية (روح) التي ستبدو خلال ثنايا السرد كالتي تقود أرواح الآخرة (الأخرويين). في مستهل العمل، يمتدح إبراهيم الموت ويلعن الحياة كأنما يُعَلِّق قلب القارىء بالعالم الموازي/الجديد الذي سيخلقه. 

في هذا المفتتح، يُشَبِّه الحياة بالظل والمسرحية واللايقين، والآخرة بالحقيقة والجَدّ واليقين في إشارة إلى دائرية الحكاية – عودة الأرواح من جديد وإعادة خلق الكون؛ يقول في ذلك، (أتَمّ الممثلون أدوارهم)؛ متبنيًا فلسفة الظل والحقيقة (النجوم ومواقع النجوم) داعمًا المنظور الأفلاطوني عن المثل الأخروية المفارقة (الحقائق) والمحسوسات الدنيوية الظاهرة (الظلال التي تمثل تلك الحقائق). حتى أنه حين يُعَرِّف الوحي يقول بأنه فكرة انتقلت من ميت إلى حي وأن كل إبداعات الجنس البشري ظلال للموتى. 

في جنبات السرد يبحث إبراهيم في ظلال الأرض عن حقائق الآخرة، عن ما يمثل الوردة على الأرض. يقول، (تبدو الأفكار وتواردها عبر العصور دليلًا غير مادي على أفكار دائرية الزمن والعودة للنقطة رقم صفر). يماثل بين عناصر دنيوية أيضًا كمخلوق (هولدرا) في النرويج وأبو الهول في مصر القديمة وكلاهما مزيج من حيوان وإنسان. 

(6) السياق / الحكاية وتقنين الفانتازيا في رواية روح:

في مسرحيته الفانتازية يبرىء (إبراهيم) بطل العمل/الراوي من توهمات الفانتازيا التي سيخلقها فيصدح منذ البداية بحقيقة الكتاب الذي سيقوم الراوي بترجمته (كتاب من رسوم وجده البطل – مدرس الموسيقى – ثم قام بنسخه للقراء). يضيف، "هذا كتاب من العالم الآخر وليس من تأليفي". 

السلاح السردي الأول/البطل الأول لإبراهيم هو الكتاب الأخروي (كتاب من رأى لمن لن يصدق)، المصنوع من جلود تساقطت من أجساد أهل الجحيم في الآخرة ووصل إلى الحياة الدنيا حين قذف به آدم الجديد _ المُعاد تناسخه _ في النهر ليتلقفه الراوي حين السباحة وسط عدد من المصطافين فيرغب في ترجمته وإعلامنا _ أهل الدنيا _ بمحتواه). 

خلق إبراهيم لهذا الكتاب طريقة صنع بعناصر أخروية متخيلة ألصِقت فيها اللوحات الجلدية بعسل من نهر النعيم/الجنة والتئمت الصفحات باستغلال حرارة الجحيم وحُفِرَت الرسوم بواسطة ناب (روح) بطلة العالم الأخروي. يقول عن البطل مبرئًا إياه من القدرة على خلق الحكاية بمفرده، "شخص مسالم، يعزف الموسيقى ويذهب إلى البحر خائفًا". 

(7) التشكيك التشويقي في سرد محمد علي إبراهيم: 

لا يتخلى إبراهيم عن تقنية تشكيك القارىء في عالمه الفانتازي. يسأل الراوي نفسه في البدء: هل هذا الكتاب حقيقي أم شيطاني؟! يُكَرِّرُ الجملة التالية مرتين، "دع يقينك يكن دليلك، سيحيلك إلى الحقيقة أو الغواية." 

يأخذ الشك منحى آخر عند إبراهيم: حين يتمعن القارىء فيما يقرأ، يشعر في مبتدأ الرواية بفكرة التماثل بين الدنويين/الدنويات والأخرويين/الأخرويات؛ تناسخ في الأرواح قد يكون فيه الراوي هو (واحد روح/رجُلَها) وهو آدم أيضًا؛ وقد تغدو فيه زوجة صديق الراوي هي (روح) أو (حوّاء) نفسها. يُشعرك الكاتب بذلك _ كأنما يرغب في تسهيل الفكرة عليك _ حين يقول عن زوجة صديق البطل خلال لقائها به: (رمقتني بابتسامة تشبه روح وهي تتلقف حبيبها في فراغ القيامة). 

قرب نهاية الرواية يسأل متشككًا ليعصف بيقين القارىء: (هل أنا واحدها؟ وهل زوجة صديقي الطبيب هي روح؟) ثم في النهاية يعاود التساؤل كي يقذف بنا وبنفسه في بئر الشك السحيق، "هل هي هي؟ وهل هو أنا؟!" مما يجعلنا نسأل إبراهيم نفسه، "هل أنت وواحِد روح تمثلان بعضكما البعض ثم تتوحدا مع آدم؟ وهل زوج صديق البطل تماثل روح ثم يحدث توحد لهما في حواء؟ لن يجيب إبراهيم بالطبع فهو لا يتخلى عن التشكيك حتى وهو يغادر النص يقول "كتبت الرواية ووضعت عليها إسمًا ثلاثيًا وهميًا لكاتب يدعى (محمد علي إبراهيم)!!" 

يعترف الراوي بإضافته جزء من خياله على محتويات الكتاب الأخروي (عن كيفية عودة الحياة للروح في الآخرة) مما يعيد القارىء إلى رمادية الشك. الحق أن إبراهيم لا يكف عن طرح الأسئلة المتشككة.

(8)مَنْطقية الفانتازيا والتأثر بالواقع في رواية روح: 

يُمنطق إبراهيم الفانتازيا التي صنع بخامات واقعية، ومنذا يمكنه أن يفعل غير ذلك؟! فالكاتب – كالجميع – ليس لديه إلا قماشة الواقع (المعرفة الحياتية) دليلًا يخلق منه عالمه الجديد. 

يعيش بطل الرواية مئة عام، يجد الكتاب في ليلة عبوره عامه الأربعين، سن نضج البشر والأنبياء. يشأ إبراهيم أن يبدأ البطل في التعامل مع الكتاب ولديه من الخبرة الحياتية ما يكفيه للتخلي عن المراهقة الفكرية واتباع نهج متوازن في التعامل مع الأمور. 

لم يكبح الكاتب جماح منظوره الديني والثقافي، يضطر إلى التدخل بمداخلات لفظية تحقق تناصًا مع القرآن الكريم، يبرِئها كعادته بقوله، (هذه ليست مداخلات حكائية)، لم يُرِد إبراهيم أن يخدع القارىء أو يُنَفِّره من الحكاية بجعل البطل ينكر معتقداته مُدعيًا الحياد العقائدي. 

إبراهيم نفسه لا يكبح جماح أفكاره (واقعه) من التأثير في النص (الخيال): يلعن الرماديين الدنيويين الذين هم أصحاب الأعراف في الآخرة، يكره السلبية وأهلها ويصدح بذلك دون مواربة، يبرىء إبليس من تحمل آثام البشر وحده، فالبشر آثمون: يصاحبون الغانيات ويُحَرِّمون الاجتهاد في النص ويقتلون المريض بالخطأ حين يحاولون علاجه والزوجات لا يحزنن لموت أزواجهن ويفكرن في الموضة والزينة بعد ساعات من رحيلهم. 
   

(9) السرد الدائري المتداخل / المتن والهوامش عند محمد علي إبراهيم: 

يتحرك السرد دائريًا بين ثلاث مناطق تتداخل فيما بينها: "سرد حكائي" _ يتراوح بين حكاية الكتاب (الآخرة/الحقيقة) وحكاية بطل الرواية الذي عَثر على الكتاب (الدنيا/ظل الحقيقة) وهذا يمثل مَتنْ الرواية (عَظْمَها) _ و "سرد معلوماتي تقريري" أغلبه مشوق وهام وهذا يمثل هامش الرواية. وقد مَيَّز الكاتب على المستوى التحريري للنص بين المَتن/حكاية الكتاب الأخروي (بالخط العادي) والهامش/حكاية البطل والمعلومات العلمية التوضيحية/مداخلات البطل (بالخط الكثيف) ليُسَهِل على القارىء معضلة التداخل السردي. 

يُحمَد للكاتب فعلته هذه لكنني أرى أن أغلب الهوامش جاءت حتمية وهامة جدًا وبعضها جاءت معطلة للسرد وبها إسهاب في معلومات غير حتمية للنص كأن يقول الكاتب عن مداخلات البطل (تدخلي سخيف/بدوية وزنجي من اختراعي أنا) بالإضافة إلى كم كبير من المعلومات المتعلقة بالناي الموسيقي في منتصف الرواية (خلال لقاء البطل بزوجة صديقه) وفي النهاية (خلال لقاء البطل بحفيد البَقال مع دنو أجله واقترابه من الموت). 

إلا أن كثير من الهوامش جاءت ضرورية ومثمرة وماتعة في آنٍ، كتفسيره الممتاز لنظريات نيوتن وأينشتاين وفيزياء الكم وميكانيكا الكم ونظام التموضع العالمي (GPS) وحديثه الرائع رغم طوله عن مصطلحي (إدراك الزمن) و (وهم الوقت) النسبيين الشخصيين ولكنني أتحفظ على الاستفاضة الكبيرة في شرح النسبية العامة تحديدًا مما قد يربك القارىء متوسط المعرفة. كما يسرد طبيعة العلاقة بين جميع الأديان/المتدينين والرقم (سبعة) وحتى بين الرقم وبين الملحدين. 

الحق أن الجانب المعلوماتي فيما يخص حياة البطل هام وضروري، وفيما يخص سفر البطل حول العالم زائد بعض الشىء وفيما يخص الناي مثلا غير ضروري. 
 

(10) الأبدية المتخيلة والمنظور الموازي في رواية روح: 

يرفع إبراهيم القواعد الأخروية الفانتازية من بيت واقعه ومعرفته؛ يصنع أبدية في الآخرة من فراغ زمني رغم احتواءه على المسافات والحركات، يعدم الزمن والمسافة والجاذبية ويخلق ثلاث عوالم أخروية: أبيض (النعيم)، أسود (الجحيم) ورمادي (موقع أهل الأعراف). 

يقنن ما يفعل بمنح كل عالم مفرداته الخاصة، فعالم الدنيا لديه مجسد ومحسوس يتحدث فيه بشكل طبيعي عن أجساد وشهوات وأعضاء ولغات وموسيقى وفي العالم الأخروي يصر على منح ذاك العالم مفرداته المفارقة والمناسبة له فيتحدث عن أرواح ولغة عيون ومشاعر تتنقل عبر أثير أخروي ورسوم يستعيض بها عن اللغة الدنيوية المعروفة وعن الكتابة بصورتها التي نعرف. يتخيل الأخرويين وهم يطلعون على حياة أهل الأرض في بداية فصل (وقت الوردة). 

يقتل إبراهيم الزمن الأخروي ويستبدله بوحدات (مسافات) فراغية؛ يحدد الزمن في الأبدية مثلا كما يلي: (بعد أن يسقط جلدنا وينمو مرتين/بعد برقوقتين وعنقود عنب). الأخرويون _ في روح _ مساكين يرغبون في قطع رتابة الحياة الأبدية، يشتاقون للحياة الأولى ولذة اللهاث والنوم والنقص البشري بكل مزاياه. 

(11) سلاسة السرد في رواية روح: 

يتحرك إبراهيم بحرية بين حنايا السرد؛ يُدخِل الأشخاص والأحداث في الحكاية بسلاسة: تظهر صديقة زوج البطل فجأة وتبدأ في سرد حكاية عشقها للبطل وتعلقها به منذ زمن وتخرج من الحكاية فجأة بقرار انتحار ينقله لنا الكاتب ببساطة سينيمائية (حديث سمعه على لسان أحد العمال بالمدرسة بعد حفل خروجه على المعاش)؛ تعاود زوجة الصديق (العاشقة/ظل روح) الظهور ثانية عن طريق محاميها الذي أوكلت له مهمة نقل كل ثروتها إلى البطل كي يستمتع بحياته ويوفر لنفسه كل ما يعينه على ترجمة الكتاب وتترك رسالة للبطل تحكي فيها عن حرمانها العاطفي وعشقها للبطل وعلمها بقصة الكتاب الأخروي الذي عثر عليه ومعرفتها بأن البطل هو من قتل زوجها وتصرح بسعادتها بذلك وتخبر البطل بأنها في انتظاره في الحياة الآخرة بعد أن ينتهي من ترجمة الكتاب ويموت. 

يتميز السرد عند إبراهيم _ بالإضافة إلى الدائرية والتداخل الممتازين _ بالتأجيل المثير للتفاصيل _ لم تكتمل حكاية زوجة الصديق مثلا ولم يظهر خطابها الكاشف عن مشاعرها ونواياها إلا بعد وقت سردي ليس بالقليل، في الصفحة 128 تحديدًا من أصل 158 صفحة هي صفحات الرواية. 

(12) الله:  

الله فوق الدهر، فوق الزمن، الله أكبر من كل شىء، هكذا يؤمن إبراهيم ويؤمن نَصّه؛ يموج إبراهيم في واقعه الروائي المخلوق بحثًا عن ماهية الزمن وعن ماهية الوحي وعن ماهية مفارقة مطلقة _ يرتعش قلمه وهو يكتب عنها _ ماهية الله، خالق كل شىء، القادر المقتدر القدير.  
 
الله هو العارِف المطلق والبشر سجناء الحُجُبْ. يعبر إبراهيم عن مأساة الناس في العالمين: الدنيا والآخرة؛ في الدنيا يلهثون وراء المعرفة رغم امتلاكهم الأدوات والعناصر وفي الآخرة يملكون المعرفة ولا يملكون العناصر في إشارة إلى عدم تحقق الكمال في أي من العالمين. 

الله رحيم للغاية المطلقة في (روح)، يجعل إبراهيم أهل الجحيم أقل عددًا _ بكثير وكثير _ من أهل النعيم أو أهل الأعراف، كما نرى الآثمين: البطل وزوجة صديقه (الراوي وروح/آدم وحواء) بين أهل النعيم لا الجحيم. 

لا يفلح البشري (الراوي/إبراهيم) _ في الحقيقة هو لا يريد هذا الفلاح الأثيم _ في رسم صورة لله فيقول (هناك فصلًا لم أترجمه يا الله) كأنما يقول ضمنيًا (لن أقترف ذنبًا كذلك، يا الله، فليس كمثلك شىء).
 
لا يقتحم خيال الكاتب الذات الإلهية ومحيطها القدير؛ عوضًا عن وصف ذات الله، يتحدث عن آيات الله، أقدار الله، تجليات الله، حكمة الله، خلق الله، زمن الله وكون الله والآخرة التي لا يملك قدرها إلا الله. 
 

(13) الخطاب السردي: 

يُنَوِّع إبراهيم من خطاباته السردية: يحكي عن حياته (حياة الراوي)، وعن حكاية الكتاب بألسنة متنوعة: لسان روح / لسان واحِد روح / لسان أهل النعيم / لسان أهل الجحيم / لسان أهل الأعراف أو المنطقة الوسطى بين الجنة والنار، يتحدث بلسان عالم فيزياء شهير دار بينه وبين البطل حوارًا طويلًا في كينيا، ويتحدث بلسان زوجة صديق البطل في الرسالة التي تركتها للبطل قبل انتحارها.  

(14) ثراء الشخصيات في  رواية روح: 

الشخصيتان المحوريتان (البطل وزوج صديقه/ واحد روح وروح نفسها / ظليّ آدم وحواء) شخصيتين ثريتين منحهما الكاتب العديد من التفاصيل. البطل مدرس موسيقى مسالم راغب في المعرفة وإنسان عادي يمزج الفجور بالتقوى ويمارس الفسق والإحسان في آنٍ. زوج الصديق تحمل بعدًا اجتماعيا هاما (تحولت من فقر إلى ثراء)، وبعدًا نفسيًا (العشق والحرمان العاطفي) وبعدًا ثقافيًا عقائديًا دينيًا (لا تخشى الموت بعد أن عرفت الكثير من الحقيقة وترغب في الأبدية وتنتظر حبيبها هناك). 

(15) اللغة / البساطة والتماسك / الموسيقى في رواية روح: 

يعتمد إبراهيم اللغة البسيطة كيما يخفف من وطأة عمق الفكرة وفلسفة النص الغير عادية، فيستخدم في ذلك (لغة نموذجية متماسكة) على مستوى الألفاظ والعبارات وبالطبع يقوم بشرح كل الغوامض (في الهوامش) لكن النص يتمتع بمستوى عالٍ وعميق من البوح بالمشاعر وما يعتمل في نفوس الشخصيات. 

يرتكن إبراهيم إلى (أسلوب النداء) في مواقع كثيرة مما يضفي على النص ديناميكية وتدفق؛ يقول "أيها الأحمق / أيتها الحمقاء / أيها المساكين" ويحدث الله بما يليق بوحدانيته ومطلقيته مكتفيًا بمناداته (يا الله) في خضوع وخشوع. 

تحمل الفقرات وقعًا موسيقيًا أحيانا، ومن الفقرات الرائعة بالنص ما قاله إبراهيم تلخيصًا لوصف الأبدية فوق الوردة الأخروية: " لا نعطش، ولا نجوع، ولا ننام، ولا نشبع، ولا نخاف، ولا نقتل، ولا نموت، ولا نلهث، ولا نمرض. لا شمس، ولا قمر، ولا يوم، ولا سنة، لا حرب ولا سِلم، لا صلاة ولا كفر، لا رعب ولا فرح، ولا ولد ولا مال ولا فقر، لا ولا ولا، فماذا تبقى لنفقد إنسانيتنا أيها المساكين؟!"
 
يتجلى الوقع الموسيقي للكلام أيضًا في مشهد عودة البشر من الآخرة إلى الدنيا في صورة رجل واحد (آدم) حين يقول إبراهيم في ذلك، (اختلط المليارات من البشر في جسد واحد ضخم، ضخم جدًا، ضخم جدًا جدًا). 

يصنع حوارًا جماعيًا شائقًا بين أهل الآخرة بفئاتهم الثلاث (المنعمون والمجحمون وأهل الوسط) حين يخططون للعودة إلى الدنيا عبر مركز الوردة (الجحيم). 

(16) الفلسفة والحكمة / دائرية الخلق والتناسخ والعودة في رواية روح: 

أهل الأرض في (روح) كأنما استمدوا طبائعهم من الآخرة فدارت الدائرة بشكل عكسي وكأن الكون أخذ دورته وما يحدث الآن ما هو إلا تمثيل لما تم الاتفاق عليه من قبل. هذه النظرة الفلسفية العميقة هي ما ساعد إبراهيم على خلق هذا العالم المغاير المقلوب اللا مستقيم، الكتلي من حيث الزمن. 

يقول إبراهيم أن الفصل الذي لم يترجمه في الرواية (على الأرجح بالطبع هو فصل الله) جعله على يقين من الحكمة التالية (كل شخص في تلك البرتقالة "الأرض" يؤدي دوره الذي تتزن من خلاله الطبيعة).
 
يؤمن النص (روح) _ كما آمن نجيب محفوظ في نص (السماء السابعة) في مجموعة (الحب فوق هضبة الهرم) _ بتناسخ الأرواح وعودة الأموات إلى الأرض في صور جديدة. يجعل (حبيب روح) يلتقط تفاحة ويعود بها إلى الأرض كإشارة إلى نزول آدم أول الأمر إلى الأرض بسبب التفاحة. يقول إبراهيم صراحة "المشيئة أن تمضي الحياة في دائرة تناسخ الأرواح."
 
مما يدلل على إيمان النص بالتناسخ هو ظهور حفيد البقال في النهاية _ مع دنو البطل من الموت _ ليشبه البطل في عشقه للموسيقى ويسرد، رغم صغر سنه، معلومات عن الناي لا تتوافر إلا لعازف خبير، وكأن هذا الطفل سيكون نسخة جديدة من بطلنا الذي سيموت بعد أن يُوَرِّث ناياته لهذا الصغير (نسخته القادمة). 

(17) مآخذ يتوجب ذكرها في رواية روح: 

كان بإمكان إبراهيم كما أشرنا سلفًا أن يختصر في تفسير المعلومات العلمية في الهوامش، كما كان بإمكانه _ رغم ثراء النص حقيقة _ أن يمنح القارىء المزيد من المتعة القرائية مع الشخصية الثرية جدًا (زوج صديق البطل) التي رغم ظهورها مرتين في مشهدين دنيويين رئيسيين مستفيضين وظهورها في أغلب مواقف الآخرة على أنها روح، كانت ستضيف المزيد من الحركية على الحكاية لو ظهرت حياتها الأولى _ قبل تعلق قلبها بالبطل _ باستفاضة أكبر أو لو ظهرت في مزيد من المشاهد الدنيوية مع حبيبها (الراوي/البطل). لكن حداثة السرد وجِدة التقنية السردية تجعل أمرين كهذين إضافيين ويمكن التغاضي عنهما وبالطبع قد لا يتفق الكثيرون مع وجهة النظر هذه. 

(18) حرفية الإنهاء عند محمد علي إبراهيم: 

في النهاية يرسم إبراهيم بوضوح مشهد إعادة الدائرة الإنسانية على الأرض: نزول آدم الضخم ثانية، خلق القمر والشمس والنجوم من جديد، بدء المنظومة الكونية مرة أخرى، استعادة البرتقالة (الأرض) التئامها، تَعَرُف آدم على الأسماء من جديد، وجود حواء فجأة على راحة يد آدم، إلقاء آدم بالكتاب الذي عاد به في قاع النهر، تجريب الإنسان لفمه في ترديد سيمفونية دخول الجنة لأوديسياس. 

هكذا ينهي محمد على إبراهيم روايته ببراعة؛ كأنما يطالبك بمعاودة القراءة حالًا أو ضرب موعدًا لذلك في أقرب فرصة تأتيك لتدخل هذا العالم مرة أخرى وربما تعاود فعل ذلك مرات ومرات.

Post a Comment

أحدث أقدم