قراءة فى رواية
رواية ( سيرة الكائنات)
للكاتبة ياسمين مجدي
زكريا صبح يكتب: قراءة في رواية ( سيرة الكائنات)، للكاتبة ياسمين مجدي |
بقلم: زكريا صبح
سيكون عليك فى كل لحظة اثناء القراءة وبعد عدة صفحات من الغوص فى العمل والتماهى مع الابطال ،اقول سيكون عليك ان تكون يقظا فى اسنخلاص الابطال ذوى الصبغة الانسانية عن اقرانهم ذوى الروح الاليكترونية حيث تخوض الكاتبة تجربة شائقة فى تأنيس الكائنات بصفة عامة وبث الروح فيما هو رقمى ليصبح انسيا يتفاعل مع الانسان الذى يلعب به او يلعب معه حتى يتحول هذا الكائن الرقمى الى راو مشارك وعليم ، فهو مشارك يحكى عن نفسه وهو عليم يحكى عن زهرة.
نجحت الكاتبة ببراعة فى بث روح الحياة فى الكائنات المحيطة بها وربما لو اتيح لهذه الكائنات ان تتحدث الان او تقول كلمة حول الرواية لقالت : شكرا للكاتبة التى عاملتنا بمنطق الروح الانسانية التى ترى فى كل الموجودات عاقلة كانت او غير عاقلة اخوة وجيرانا واصدقاء ، لو اتيح للكائنات ان تتحدث ، لعبرت عن فرحها رقصا وطربا لما الت اليه مصائرهم داخل العمل ، لقد نجحت الكاتبة فى نقل ادارة الصراع بين البشر الى صراع تصنعه علاقات البشر بالكائنات.
رحلة سريعة الايقاع لاهثة الانفاس زادتها سرعة ولهاثا تقسيم العمل الى فصول او مقاطع رئيسية ثم تقسيم المقطع الرئيس الى مقاطع كثيرة قد تصل الى عشرين مقطعا او يزيد شديدة الاكتناز والتكثيف لتعبر لنا الكاتبة فى لغة فنية مفعمة بالانسانية عن معاناة امرأة معاصرة تعيش فى مجتمع ضاغط فى حالة مطالبة دائما بحقوقه متغافلا عن حقوق زهرة تلك المرأة التى تعرض لنا لحظاتها ولا اقول يومياتها او ساعاتها ، بل تنقل لنا صورة مفصلة للحظات تعيشها جل نساء العصر.
فهى على حد قول الكاتبة على لسان بطلتها ( مثقلة وتريد ان تجد من بين كل ذلك حياتها التى تأملها )
تلك اذن هى القضية البحث عن الذات ، ولبس اقدر على البحث عن ذاته من امرأة تفهم روح الحياة وتعيش فيها بقلب يفهم عن واهب الوجود رسائله ،
الرواية رحلة نخوض فيها بل ونتورط فيها مع البطلة فى البحث عن ذاتها ، ونشفق فيها على البطلة من رهافة مشاعرها التى ارادات من خلالها الاشارة من بعيد كغريق يرسل اخر اشاراته قبل الغرق
لعبة فنية تلعب فيها الكاتبة مع القارئ لعبة مزدوجة فهى تلعب مع ماريو الباحث عن الملكة ، فى لعبته الشهيرة ، وهى تلعب مع القارئ بالتماهى مع اللعبة ونقل لحظاتها عبر الكائنات المحيطة بها والتى استعاضت بهم عن الزوج الحاضر الغائب ،
حبكة روائية مدهشة احتفظت فيها الكاتبة بالسر حتى السطر الاخير من الرواية ، استفادت من الحركة السريعة فى زمن لا يحده حد من سرعته غير المتناهية ، لذا اعتمدت الجمل القصيرة المتتابعة والمتتالية للتعبير عن مواقف لحظية تمر بها البطلة ، جمل سريعة ولقطات قصيرة لتصنع مقطعا صغيرا فى رواية صغيرة الحجم فى كون شديد الاتساع ،
لسنا هنا بصدد الحديث عن خط زمنى محدد ، بل تستطيع القول وانت مطمئن ان الرواية كلها لحظة من لحظات الحياة الممتدة ولذا لن تستطيع فى تحليل الرواية ان تتحدث عن زمن محدد ،
الوحدة هى مفتاح الرواية الرئيس ، فالوحدة الجئت البطلة الى الانهماك فى لعبة اليكترونية ثم الانخراط بالكلية فى العالم الافتراضى التى اصطنعت فيه لنفسها عالما خاصا جدا ،
الوحدة هى التى جعلتها تتخذ من الكائنات اصدقاء وخلانا ،
الوحدة هى التى دفعتها لنقل سيرة الكائنات ببساطة لان البشر كانوا غائبين
لم ازل معنيا باستخلاص الإنساني فى هذه الرواية فأجدنى متعاطفا تارة مع البطلة التي نحت الرجل فيها جانبا وكأنه غير موجود بالمرة فكنت مشفقا على امرأة لا تجد من يحتويها او تبث له شكواها او تفخر امامه بنجاحاتها الصغيرة والكبيرة على حد سواء ، استطاعت الكاتبة فى عرض قضيتها وقضية كل امرأة تعانى الوحدة بعد زواجها حيث يتنبى الرجل فلسفة مؤداها ان يكون دوره فى الحياة ( ان يقضى ساعات طويلة هناك بلا طعام ساخن ولا وسائد مريحة لكنه تعود ان يحمى وظيفته وانا هنا ( زهرة ) اقف على الخط الخلفى له اسند له ماتبقى من حياته لتكتمل)
وكيف لا نتعاطف مع امرأة يفكر فيها الرجل مثل هذا التفكير.
لكن الكاتبة تحتفظ لقارئها بمفاجئة فى نهاية الرواية حيث يتضح ان الزوج لم يكن غائبا بالمرة عن زوجته بل هو الذى يتأمر عليها محبة فيها وعشقا لها.
ولأن البطلة تمتلك روحا شفافة تجعلها مغرمة بحفظ الأصوات فى مخيلتها وروحها ومن ثم تعاود استخراجهم ليلا للاتناس بهم أقول لأن للبطلة روحا كونية تعامل الكون كصديق فانها ( كانت تعامل النباتات باعتبارهم أشخاصا تحاول النفاذ الى روحهم واكتشاف شخصياتهم لذلك تحمى حياتهم كما تحمى حياة البشر ، تحزن لفقدهم وللمحاولات الفاشلة التى تودى بحياتهم).
لقد استطاعت البطلة بطاقة الحب والنور التى تملكهما ان تجعل ( منزلها مزدحما بالحياة سلحفاة وبامبو وكائنات تستحضر اصواتها وتقلدها ) ومن ثم تحيل البيت الى الكون الذى تعيد فيه خلق سبل التعامل فيما بين افراده تعاملا نموذجيا لو تخيلناه بين البشر والكائنات لاصبحت الأرض جنة،
ان البطلة استحضرت من التراث نبيين كريميين احدهما نوح عليه السلام عندما جعلت الزوج او صاحب البيت الذى يرمز لسفينة نوح التى انقذته من الطوفان ، البيت تحول لسفينة نوح فيها من كل الانواع ، فيها السلحفاة ، والصبار و الصرصور والنمل والعصافير ، كل هذه الكائنات تدير البطلة حوارها اليومى معهم ، بل ويصل التفاهم لان يصبح ماريو وترتر راويين من رواة الروايه ينقلون عن البطلة احوالها اليومية ، بل وربما حزنوا لها وتعاملوا معها باعتبارها اما لهم
تقول السلحفاة ترتر ( انشغلت عنى بالخروج وبتقليد الاصوات وتسجيلها واصبح لديها جدولا تعلقه على الثلاجة يحدد مواعيد تدريباتها التى تذهب اليها ..... ترتر تودع لانها لا تستطيع البقاء لمجرد وجود وجبات شهية وسيدتها التى تحبها غائبة عنها )
أرأيتم الى اى مدى تحولت الكائنات الى ارواح بشرية تعلى من شأن المعنوى على حساب المادى
حصلت على هذه النتيجة لان ( الام زهرة اعتادت على ترويض الحيوانات ،وعندما تفعل ذلك فانها تلغى انتمائنا للبرية )
لم تكتف البطلة بالحديث الى الكائنات الحية بل كانت تحاور الكائنات من الجمادات ، فلقد حاورت المرآة وحاورت المطبخ والشجر و القوقعة والكاميرا وشاشة الكمبيوتر وهنا يبدو تأثر الكاتبة الشديد بنبى اخر هو سليمان عليه افضل الصلاة والسلام الذى وهبه الله القدرة على محاورة المخلوقات من غير بنى الانسان ، هنا البطلة تتحدث الى الكائنات وليس فى هذا غضاضة ولا دهشة فكم من شخص يتحدث الى الاشياء لكن المدهش ان تحدثنا الاشياء وتنقل عنا وتتماهى معنا الى حد اعتبرت زهرة اما لها
اربع سير وخروج ، هذه هى فصول الرواية التى لم تشأ الكاتية وصفها بالفصول
فهى سيرة اولى ماريو وهى سيرة ثانية مع سمكة القرصان وكذلك هى سيرة ثالثة مع ترتر السلحفاة ثم سيرة رابعة مع سيدة المورينجا ثم فصل الخروج والعثور على الذات والذى عنونته الكاتبة ب خروج زهرة
على الرغم من تعدد الرواة فى هذه الرواية الا اننا كدنا لا نسمع سوى صوت البطلة الرئيس فى العمل ، ولكن يبقى ان الكاتبة اجادت فى استدعاء رواة غير البطلة لسرد لحظاتها التي منها تشكلت الرواية كما تتشكل لوحة الفسيفساء من احزاء دقيقة للغاية ولكن فى النهاية تخرج لنا اللوحة مبهرة بكل هذه الجزيئيات المختلفة وكذلك خرجت لنا الرواية من كل هذه اللحظات المتتابعة ومن كل هذا المواقف المختلفة ، ومن كل ردود أفعال البطلة وممارسة فلسفتها الخاصة فى الحياة وصبغ الكائنات بهذه الفلسفة
ربما كانت الواقعية السحرية ظاهرة لمن يقرأ الرواية ظهورا طبيعا لان الكاتبة فى تطوير الاحداث والشخصيات وانتقال الكائنات من طور الجماد او المخلوقات غير الناطقة الى روح انسانية ، اقول كانت الانتقالات والتحولات غير مفتعلة حتى لكأنك تشعر بان الامر طبيعى للغاية ، فلن تجد نفسك متلبسا بسؤال منطقى من امثلة الاسئلة التى تجول بخاطر القارئ اذا ما تعثر بالقراءة ولم يتقبل انتقالة ما او تحول ما ،
فى النهاية انت مدعو الى وجبة دسمة من المتعة الفنية عبر لغة رائقة غير معرقلة لتصوير الاحداث او مناقشة الافكار
انت مدعو لعالم مختلف عن العالم الذى نعيش فيه وان كان عالم الرواية بالضرورة مستمد من واقعنا الذى نعيشه لكنه عالم حالم بما ينبغى ان يكون عليه الكون بكل كائناته
إرسال تعليق