قراءة انطباعية لرواية "قائم وحصيد"

للروائية د. انجي البسيوني



قراءة انطباعية لرواية "قائم وحصيد" للروائية د. انجي البسيوني
د. محمد غنيم: قراءة انطباعية لرواية "قائم وحصيد" للروائية د. انجي البسيوني



   د. محمد غنيم


هذه هي الرواية الرابعة للروائية د. انجي البسيوني، فقد سبقتها رواية "عيون المرايا" عن دار الأدهم للنشر والتوزيع عام 2020، ثم رواية "متاهه تسكن جسدًا" عام 2021م، ورواية "سقط متاع" عام 2022م عن دار يسطرون، ثم هذه الرواية الجديدة "قائم وحصيد" عن دار يسطرون أيضاً. 

والقارىء لهذه الروايات الأربع للدكتورة انجي البسيوني سيجد أنها تحاول في كل عمل أن تقدم لنا تجربة روائية مختلفة عما يسبقها شكلاً ومضموناً، وإن كانت ثمة أواصر قربى بين الرواية الثالثة والرواية الأخيرة من حيث كونهما ينتميان للأدب الذي يتناول فترة تاريخية، أو موضوعاً له علاقة بالتاريخ وأشخاصاً من التاريخ، إلا أن الرواية الأخيرة لم تتناول حدثاً تاريخياً، أو شخصية تاريخية تناولاً خالصًا وإنما امتزج الفكر الصوفي فيها بالتاريخ واستحوذ الخيال على جل ما فيها. كما أن القارئ لهما لن تخطأ عيناه أن ثمة اختلاف في البناء الفني والخطاب الروائي في كلتا الروايتين. 

وفي هذه الأعمال جميعها تستخدم الكاتبة أدواتها الابداعية بحرفية بالغة، من سرد مسبوك سبكاً احترافيًا، ولغة رشيقة بعيدة عن السمنة المفرطة والنحافة الممرضة، وحواراً مصاغاً صياغة محكمة، بحرفية من يتعامل مع الجواهر والمعادن الثمينة، فجاء نقيّاً خالياً من الشوائب والحشو وبعيداً عن الترهل، إضافة إلى خيال ثري خصب يصل في بعض مواضعه إلى حالة من الجموح فيركض القارئ خلفه، ولا يستطيع التوقف عن متابعته والتجول عبر عوالمه، إضافة إلى الثقافة الروائية الغزيرة، والقدرة التعبيرية عن المكامن النفسية بمهارة وتمكن، كل هذا مع احترام للغة القارئ، وفكره، ومشاعره وأخلاقياته. 
 
تقع رّواية "قائمٌ وحصيد"، في 130 صفحة من القطع المتوسط، وقراءتي لها ليست قراءة نقديّة من متخصّص في النّقد، وإنّما من قارىء متذوق للعمل الروائي أو قارىء يحاول أن يفهم ويتذوق.

ولعل أول ما لفت نظري في هذه الرواية عنوانها، لماذا اختارت الكاتبة هذا العنوان؟ وما هي دلالاته؟ وإن كان هذا العنوان يردنا رداً مباشراً إلى الآية القرآنية " ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ" (سورة هود آية: 100). وهو ما يدل دلالة ظاهرية على أننا أمام شيء أو أشياء ثابتة قائمة، وإن واجهت عوامل التغيير وقسوة الظروف، وأشياءَ حصدتها الأيام وعركها الزمن فلا تسمع لها ركزا، ولعل هذا ما أدركته بعدما أبحرت في خضم الرواية، وانجلت لي عوالمها قبل النهاية بقليل ليتضح لي أن المقصود بهذا "القائم" ذلك الأثر الباقي من بطل الرواية "شاهين الخلوتي" الصوفي الزاهد، وهو مسجده الذي بناه له ولده جمال الدين ليبقى على مر الزمن تقام فيه الصلوات، ويطل علينا من أعلى جبل المقطم، و"لا تزال أطلاله قائمة تتحدى الزمان وقسوة الإهمال وتلك هي قصة هذا الأثر وكل أثر".

وجميل أن تركّز الرواية على أثر حجري قديم مهجور، قد لا يلتفت إلى أهميته المارّة والسابلة، ولا يرى فيه البعض إلا كومةً من أحجار متهالكة لا قيمة لها، لتلفت الرواية إنتباهنا إلي قيمته التاريخية والإنسانية، فهو حجر الزاوية الذي قامت عليه الرواية، فقد قامت بينه وبين بطلة الرواية "شاهندة على جمال الدين" وشائج الاتصال الروحي والنفسي، فكان المكان الذي دائمًا ما تحرص البطلة على زيارته كلما ألمت بها نازلة أو أصابها سَقم؛ لتستكين رُوحها المتعبة؛ ولتتأمل شموخ الأثر وتعاين صبر الحجر، لنكتشف في النهاية أن هذا الاتصال الروحي الخفي بينها وبين هذا الأثر، ليس مبعثه ايمانها بقيمة الأثر وحسب، بحكم عملها كمرشدة سياحية، وإنما مبعثه أنها تنتمي في أصولها وجذورها إلى صاحب هذا المسجد، وأن ارتباطها الروحي به كان ارتباطاً وراثياً نابعًا من ارتباطها بصاحبه برباط القربى والنسب فهو جدها البعيد. 

هذا الارتباط الروحي بين البشر والحجر، تنقله لنا الرواية، وكأنها توجه لنا رسالة خفية نبيلة مفادها أن الآثار القديمة ليست مجرد أحجار قديمة بالية إنما هي جذور، وقربى، وتاريخ، وذكريات، وحياة، بل وروحٌ كامنةٌ فينا، لا نستطيع الفكاك منها ولا يمكن أن نستغني عنها، ويجب الحفاظ عليها والحرص على بقائها وسلامتها لا أن نتركها نهباً للإهمال والضياع فتصير حصيداً كأن لم تغن بالأمس. 

تقوم الرواية على خطين متوازيين يشكلان الزمن البنائي للرواية، ويمثلان فترتين زمنيتين مختلفتين، حرصت الكاتبة على أن تحددهما للقارئ منذ البداية، الخط الأول منهما يمثل الزمن القديم، أو فترة السلطان قايتباي أحد أهم سلاطنة المماليك، حيث كان يعيش "شاهين المحمدي" الشخصية المحورية للرواية، وهو الجندي الفارسي الذي جُلب إلى مصر من تبريز في إيران بعدما تتلمذ على يد شيخه "التبريزي" الصوفي الزاهد حيث صار جندياً من جنود السلطان قايتباي، ولشجاعته وتدينه وسلامة صدره صار من المقربين له ومن ندمائه وخاصته. والخط الآخر للزمن الحاضر وبدايته شهر سبتمبر عام 2018م، في مدينة القاهرة حيث تعيش شاهندة على جمال الدين، التي تعمل مرشدة سياحية، نكتشف في نهاية الرواية أنها حفيدة "شاهين المحمدي" الذي ينسب إليه ذلك الأثر المعروف بمسجد شاهين الخلوتي أعلى جبل المقطم. 

وفي هذا الخط الزمني المتأخر الحديث تلتقي "شاهنده" بالشاب "رستم ركن الدين" وهو شاب إيراني، في فوج كندي، كُلِّفت هي من قبل الشركة التي تعمل فيها بمصاحبتهم في رحلة سياحية إلى آثار شارع المعز ومنها إلى مجموعة السلطان قايتباي، يلفت نظرها اختلاف سلوكه عن بقية أفراد الفوج، ثم تحدُّثُه إليها بالعربية بطلاقة من يعيشون في مصر، ليلتقيا مرة ويتعارفا، وثانية عند جامع جدها شاهين الخلوتي لنكتشف أن هناك تواصلاً روحياً آخر بين البشر والبشر، كما هو بين البشر والحجر، فقد رآها رستم في منامه قبل أن يأتي إلى مصر، ولنكتشف أيضاً أن جدها "شاهين المحمدي" كان تلميذاً لجده البعيد الشيخ صفي الدين التبريزي القطب الصوفي الكبير، بينما أمه مصرية حرصت على أن تدفن في مصر، ويأتي هذا الشاب لزيارتها بشكل مستمر، ليلتقي بشاهندة في إحدى هذه الزيارات، وكأن التواصل الروحي بين الأجداد قديماً انتقل للأحفاد حديثاً، واستكمالاً للأجواء الروحية المصاحبة لشخصيات الرواية وأحداثها نكتشف في النهاية أن المسبحة التي أهدتها الأم المصرية إلى ابنها الشاب رستم وبدوره يهديها إلى شاهندة تذكاراً منه لها، هي المسبحة الفيروزية ذاتها التي كانت في يد جدها عندما جاءها من عالم الغيب لينقذها من الموت في ذلك المساء الذي أقدمت فيه علي الانتحار.

ولا تضع الكاتبة نهاية محددة للبطلين والرواية، أو لهذا التلاقي بين الماضي والحاضر وكيف سيكون مستقبلاً، وإنما تترك القارىء أمام نهاية مفتوحة تحتمل كل تأويل وتقبل جميع السيناريوهات.   

نسجت الكاتبة الحبكة السردية لكلا الخطين الزمنيين للرواية باقتدار وسلاسة وتوازن، فتشعر في بداية الرواية أنهما متوازيان متباعدان ثم ما يلبثا أن يقتربا شيئًا فشيئًا اقتراباً حميمياً يؤدي إلى إحداث التأثير المطلوب بربط الماضي بالحاضر ووصل ما كان بما هو كائن. على أن الخط الزمني الثاني في الرواية، مع ما فيه من ارتداد أو استرجاع للذاكرة أو ما يسمى بالـ Flash back نتيجة تذكر شاهندة لما حدث لها ليلة إقدامها على الانتحار، فإنه يتصف مع ذلك بالبنية الدائرية التي يرجعك آخرها إلى أولها، ويكون الأثر "جامع شاهين الخلوتي" هو محل البداية ومكان النهاية. 

حفلت الرواية بأشخاص حقيقيين يذكرهم التاريخ، مثل: السلطان قايتباي أحد سلاطين المماليك العظام، وامتدت فترة حكمه نحو تسعة وعشرين عاماً، ينسب إليه ما يزيد على سبعين أثرًا إسلاميًا ما بين إنشاء وتجديد من مساجد ومدارس وكتاتيب ووكالات وقناطر وقلاع، وقائد جيشه الأمير سيف الدين يزبك، الذي تنسب إليه منطقة أو حديقة، الأزبكية، وكانت قطعة أرض جرداء أهداها له السلطان قايتباي فأوصل إليها المياه، وأنشأ فيها الجامع الكبير ثم أنشأ حول الجامع المباني والربوع والحمامات وأقام فيها الحدائق والمتنزهات.
ومنهم أيضاً الإمام جلال الدين السيوطي وهو الإمام الحافظ، والمفسر، والمؤرخ، والأديب، والفقيه الشافعي، له نحو 600 مصنفاً، وجاء ذكره في الرواية على أنه الإمام الذي ذهب إليه شاهين المحمدي للتتلمذ على يديه وملازمته وتلقي العلم منه. 

وجميعهم نعلم عنهم اليسير، ولكن شخصية شاهين المحمدي الدمرداشي، أو شاهين "الخلوتي" كما أطلقوا عليه، وهو الشخصية المحورية في هذه الرواية، ولد بمدينة تبريز بإيران في القرن التاسع الهجري ولا يُعرف تاريخ ميلاده على وجه التحديد، وأمضي طفولته ومعظم شبابه في فارس، ولم تذكر كتب التاريخ أنه تتلمذ على يد الإمام " صفي الدين التبريزي" كما تقول الرواية، وهو الخيط الذي ابتكرته الكاتبة للربط بين هذه الشخصية والشخصية الخيالية "رستم ركن الدين"، ولم توافق حياة المماليك والجندية مزاج شاهين ولا طبيعته، فقد كان منطوياً يحب العزلة ولا يطمئنُ إلا إلي صحبة الفقهاء ورجال الدين، فحفظ القرآن والكثير من الأحاديث. فلما عرف السلطان عنه ذلك وطلب منه شاهين أن يتركه ويخليه لعبادة ربه فعل وأعتقه فساح إلى بلاد فارس، ليجد شيخه التبريزي قد توفي كما تقول الرواية الأدبية، فيعود إلى مصر، ويلازم ولي الله محمد الدمرداش بالعباسية، وأصبح من رفقائه ومريديه المقربين، ولما توفي الشيخ الدمرداش ترك العباسية وسكن جبل المقطم وبنى له مكاناً للتعبد "خلوة" وحفر له قبرا فيها، و لم يزل الشيخ شاهين مقيمًا في خلوته في جبل المقطم لا ينزل منه نحو ثلاثين سنة، واشتهر أمره فتردد عليه الأمراء والوزراء لزيارته والتبرك به، وكان كثير المكاشفة قليل الكلام، كثير السهر متقشفاً في الملبس معتزلاً عن الناس، وظل كذلك حتى توفي سنة 1495م. وهكذا تلتقي الرواية الأدبية مع الرواية التاريخية في بعض الأشياء وتختلف عنها في الكثير منها.  

وبقية شخصيات الرواية شخصيات غير تاريخية، وإنما من نسج خيال الكاتبة، بعضها له أدوار قائمة بذاتها، مثل: شاهنده على جمال الدين المرشدة السياحية بطلة الرواية، والشاب رستم ركن الدين، و"مسك" زوجة شاهين، وبعضها كان ظهوره بمقدار ما يوضح جانباً من جوانب شخصية شاهين الخلوتي، مثل: الحاج سعيد العطار و"خليل ابن تاجر الحرير"، و "وصال" المرأة اللعوب التي حاولت إغواء شاهين بالاتفاق مع خليل، ولبنى صديقة شاهندة، وعبد الراضي الوراق وزوجته أم صالح، والقائد يشبك. 

كما تطرقت الرواية لأحداث تاريخية، مثل ثورة الجلبان، وانتشار الطاعون، واكتشاف القهوة وموقف المسلمين منها في البداية، وانتشار الصوفية وحال المتصوفين، ولكن في السياق الذي يخدم الرؤية الفنية والخطاب الروائي والتناول الأدبي للأحداث والشخصيات.   
ووفقت الكاتبة في اختيار أسماء الشخصيات إلى حد بعيد للتوافق تاريخياً ودلالياً مع طبيعة الشخصية ذاتها، كما وفقت في رسم الشخصيات، مظهراً وجوهراً، فيزيائياً وكيميائياً، أي خارجياً وداخليا. فجمع قلمها بين ريشة فنان ومبضع جراح. وبرعت في التعبير عن المكنونات الداخلية والمشاعر والأحاسيس النفسية.

وعلى الرغم من تركيز الكاتبة على سبك الحبكة الروائية، وترابط أحداثها، وإحكام القدرة على الإمساك بجميع خيوطها في يديها، وإدارة دفة الأحداث باقتدار وتحكم، فإن هذا لم يحل دون أن تلتزم بما اعتدنا عليه منها في رواياتها السابقة من لغة تصويرية، وبلاغة تعبيرية مع التعبير الهادف الخالص والخالي من الزيادة والحشو.  
 
رواية "قائم وحصيد" تضيف إلى رصيد الكاتبة من الأعمال الإبداعية المميزة عملاً جديداً جيداً، وتضيف إلى الابداع الروائي في مصر عملاً جديراً أن يُقرأ ويجد مكانه بين الأعمال الروائية الجيدة للمبدعين الجدد.


1 تعليقات

إرسال تعليق

أحدث أقدم