عبد الرحيم طايع يكتب: تأملات في عناوين طارق إمام الروائية

 

بانوراما أدبية: مقالات- عبد الرحيم طايع يكتب: تأملات في عناوين طارق إمام الروائية- فنون الكتابة- قصة قصيرة، شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، أقلام، كتب، كتاب.




أتأمل هنا روايات المبدع اللامع طارق إمام تأملات ذهنية خفيفة ليس أكثر، أتأمل عناوين الروايات وحدها لا فيوض محبرته الروائية، وأتأمل الطبيعة اللغوية للعناوين بشكل أكثر تحديدا وحسما، كتابة طارق عجائبية في مجملها، إلا أنها العجائبيه المتصلة بالعالم والناس لا المنفصلة عنهما بتة، العجائبية التي يستطيع الوعاء البشري حصد زرعها، عقليا ووجدانيا، لا التي تدخل في نطاق عبث التخريف والتهويم أو إلغاز عمدية الغموض مما لا يفضي إلى شيء ذي بال في الختام!

أعد ما أقدمه بشأن المادة المرصودة كتابة تدبرية للاستيقان، تتسم باليقظة والضبط، وتحاول إدارك سر الكاتب من خلال محاولتها إدراك أسرار المكتوب، لكن لو عده متخصصون، أو متذوقون كبار، نقدا ما فلا بأس بالأمر؛ لأن التأمل الذهني يقارب الحالة النقدية الانطباعية على وجه الخصوص، وقد يصح أن يقال إن كل تأمل لكتابة إبداعية، ولو اقتصر على جانب واحد بسيط من جوانبها، هو لون من ألوان النقد، سواء كان تأملا خفيفا أو ثقيلا عابرا أو مقيما.. 




لطارق إمام عدد وافر من الأعمال الإبداعية الفارقة في مجال القصة والرواية، بدأ مبكرا في 1995 بمجموعته القصصية "طيور جديدة لم يفسدها الهواء" الصادرة عن دار شرقيات القاهرة، وهو عنوان حاشد لافت للانتباه، سيما وهو عنوان تجربته الأولى، غير أنني سأكتفي بتأمل العناوين الروائية كما عنونت موضوعي، وقد قلت إنه بدأ مبكرا بالنظر إلى ميلاده؛ فطارق مواليد 1977 وعلى هذا يكون عمله الأول المذكور قد صدر، عن الدار المعتبرة، وعمره ثمانية عشر عاما بالضبط!
الأعمال الروائية لطارق بترتيب صدورها (تورايخ نشرها) والدور الناشرة:

- شريعة القطة/ دار ميريت/ القاهرة 2003
- هدوء القتلة/ دار ميريت/ القاهرة 2007
- الأرملة تكتب الخطابات سرا/ دار العين/ القاهرة 2009
- الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس/ دار العين/ القاهرة 2012
- ضريح أبي/ دار العين/ القاهرة 2013
- طعم النوم/ الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة 2019 
- ماكيت القاهرة/ منشورات المتوسط/ القاهرة2021


بدأ طارق بالقصة، كما أسلفت، والملاحظ أن سلسلة رواياته السبع تخللتها مجموعتان قصصيتان بديعتان شهيرتان هما "حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها" الصادرة عن دار نهضة مصر بالقاهرة في 2010، والثانية هي "مدينة الحوائط اللانهائية" الصادرة عن دار العين بالقاهرة في 2012. قد يخالجني شعور هنا بعدم استغنائه عن القصة مهما أمعن في الرواية أو استطرد في مشروعها الذي يبدو جادا وكبيرا لديه.. (سبع روايات كبيرة ثرية تؤكد صدق هذا المشروع)، وإذا كانت القصة والرواية فرعين من شجرة عملاقة واحدة هي الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير، أو كانتا شجرتين عملاقتين بلصق بعضهما طوال الدهر كأنهما التوأم، إلا أن الروح تختلف، كما تختلف القواعد والشروط التي بموجبها يمكننا تحديد النوع. على كل حال لدى طارق روحان مستقلتان يكتب بهما، روح القاص وروح الروائي، ومن فرائده الأدبية أن روحيه يعكسان اسمه بالتمام، أعني يعكسان نمطه الأدبي الذاتي؛ فالقاص هو الروائي والعكس، مع أن المقاسين متغايرين، وهنا نقطة التميز، فعديدون من الآخرين الذين يمارسون الكتابة في المجالين المتشابهين، تتشوش أرواحهم فيهما فلا يصفون صفاء الاكتمال، وهنالك يلتبس الأمر على متابعيهم!

من الأصل، لو لم تكن عناوين طارق ملهمة وأخاذة ومحرضة على السياحة بمعالمها، لم تكن الحاجة دعتني إلى تأملها، وأنا لا أنوي تأملها بشكل معتاد، أعني لن أجعل تأملي كإجابة حاسمة على سؤال الجواهرجي أو الطبيب: ماذا تقول قطعة المعدن التي تحت المنظار؟ بماذا يخبر الكائن الحي الدقيق الذي يفحصه المجهر؟، لكنني أحبذ أن تكون الإجابات في الأسئلة نفسها أو هي الأسئلة، وأن أتوسع فيها بلا حدود، وأتزيد فلا أخشى أن يوقعني التزيد في ترهل بائس أو نقيصة ما، وأن أتأمل العناوين الروائية السبع كما لو كنت أحكي حكيا لطيفا موجزا عن المبدع نفسه، أعني عن نجاح تحركه الشخصي في الآونة الأخيرة بالذات؛ فقد جذب الأقلام النقدية الكبرى إلى ساحته، وتصدر المشهد الأدبي بامتياز، هو الحائز على ست جوائز محلية وعربية وعالمية من قبل، وأظنه في الطريق لحصد المزيد الأهم؛ لأنه، فيما يظهر، يملك خطة واضحة محكمة لمساره، ولا يبدو من الكتاب الذين يقولون في المساءات السعيدة: لنشرب نخب انتصاراتنا الحالية، وندع ما للغد للغد!


ههنا ألفت أنظار الجموع، قاصدا، إلى كونه إنسانا محبا للحياة ومقبلا عليها
بمجامع القلب؛ فخطته الإبداعية فتحت آفاقه المرحة ولم تغلقها قيد أنملة.. جعلته ابنا مخلصا من أبناء الوجود، يناقض وجوده العدم، سلاحه الاستهانة القادرة على تخفيف الحمل مهما يكن، وليس بالمستهين إلى الحد الذي يصمه بالعيب ويلطخه بالقبح، ولكنه مقدار الاستهانة الذي يعين على إزاحة الأعباء كما بينت، وفيما قد يظنه الأعداء غافلا مستهترا، يكون بدائرة ترتيب مفاجأة قاصمة لهم، وقد يصحون من نعاسهم بعدها فلا يجدون أنفسهم في عوالم اليقظة، ولكن في العقاب الذي رتبه لهم بإحكام، العقاب الذي ليس جحيما بالمرة، إنما شيء أفظع هو النسيان المؤلم؛ فحقيق به، هو الكبير الذي رباه كبير، أن يترفع عن الصغائر؛ ينساها وينسى أهلها بالكلية كأنهم لم يكونوا ذوي دول وذوي أعلام!     


أعود إلى نقطة الأسئلة فأركز القول في أن الاعتماد عليها يليق بي وبطارق نفسه؛ فمن جهتي أرى السؤال متواضعا ونبيلا وأراه أول الضوء في الطريق المظلم وأبلغه، وأما هو فقد دام منتميا إلى جماعة معتبرة محدودة تثق في الأسئلة مقدار فقدان يقينها بالإجابات!


لا أضع، إذ أتأمل العناوين، عنوانه الروائي الأول "شريعة القطة" أمام عيني، وأبدأ في النظر الثاقب إلى اللفظين ودلالتهما، متكئا على أن الدلالة مفتاح كبير للولوج إلى العالم المراد استكناهه، ثم أتكلم كلاما شارحا يبدو بعيد الغور بيد أنه مجاني التصور، لكنني أسأل أسئلة عادية جدا (أو كأنها هكذا): لماذا قفز إلى ذهنه هذان اللفظان، دون غيرهما، بكل شحنتيهما الإيجابيتين والسلبيتين، وهو يدشن مشروعه الروائي الضخم (بصرف النظر عن كونهما الأنسب كعنوان لروايته الأولى؛ فمسألة الأنسب، في هذا الصدد وفي سواه، تبقى محل اختلاف لا اتفاق على الدوام)؟ ماذا قصد بصنع التئام بين لفظ ثقيل كلفظ "شريعة" وآخر خفيف كلفظ "قطة" (الثقل والخفة نسبيان؛ ففي الوقت الذي يمكن أن تكون فيه للفظ الأول ظلال مقدسة مهيبة وظلال قانونية صارمة تكون للثاني ظلال أليفة، ولكن الأمر يحتمل أبعادا أخرى بالحقيقة والمجاز)، كيف يخلق عناوينه؟ هل يعكس بعضها كونه مفكرا لغويا؟ إن عنوان "الشريعة والقطة" عنوان نابض دافئ كأنه كان موجودا من قبل أن يطرحه هو بأزمنة طوال ووجد أريحية تاريخية في نفوس جميع من تلقوه، هكذا بالرغم من إحساس نافذ قد يتولد، بعد تفريق اللفظين، وفحص كل منهما على حدة، بصعوبة التئامهما من حيث عدم انسجامهما الظاهري، أقصد إمكانية حدوث نشاز من إيقاع لأم اللفظين في ذاكرة الأغلبية حال مروره بأسماعهم، بيد أننا لم نسمع صوت معترض ولم نقرأ كلمة محتج، تراه حالفه الحظ في بناء العنوان، على الهيئة التي بناه عليها، ومن ثم الإيحاء بتماسكه وحميميته، فجلجلت تجاذبيته الواردة لا تنافريته المحتملة؟ على أي 
نحو تفوقت وسيلته اللغوية في فرض مبتغاه بالشكل الذي وصل سلسا مستساغا؟ 

ههنا لا بد أن أوضح أنني حين أتأمل عنوانا من العناوين فإنني أعزله عن عمله عزلا قطعيا؛ والقصد أنني أكتفي بدراسة حالة العنوان، ولو كان من كلمة واحدة، وهذا نادر عند طارق بالمناسبة، نادر لأنه لا يحبذ وحدة الكلمة على ما يظهر، يقاوم عزلتها، ويميل إلى الإسناد لا الإفراد، ويلاحظ ولعه بالجملة التمويهية القصيرة المؤلفة من المتضايفين (المضاف والمضاف إليه)، والتي تصح مبتدأ وتصح خبرا بذات الوقت، تصح مبتدأ لخبر محذوف، ذلك المحذوف هو مبتغى بحث الباحث عن الخافي بين السطور متى قرر التفرغ للقراءة والاستنباط، وتصح خبرا لاسم إشارة أو لضمير أو ما عداهما، بحيث يوافق كل مقدر جملته: شريعة القطة، هدوء القتلة، ضريح أبي، طعم النوم، ماكيت القاهرة. 


ويجب أن يكون واضحا أن تشابه المنهج في العناوين لا يعكس نمطية أو فقر خيال، قد يقودان إلى الملل والأسف، بل على العكس، يشير الأمر، في إحدى صوره، إلى وحدة المشروع، كما أن الكاتب نفسه كسر الرتابة التي يمكن أن يلمسها لامسٌ بعنوانين اثنين لم يأتيا كبقية العناوين (الأرملة تكتب الخطابات سرا، الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس)، وأظنه سيستمر في التغيير بمدى حصول عناوينه القادمة المرتقبة (مع الحفاظ على وحدة مشروعه التي سبق وألمعت إليها).. لكن تظل الفحوى، فحوى كل عنوان بلفظيه المحددين المغايرين لما عداه، في عناوينه الغالبة، فارقا بينه وبين العناوين الأخرى عموما؛ لأن جملة التراكيب اللغوية للعناوين ليست من كلمتين وحيدتين طبعا، على معنى ثبات كلمتين معينتين كأصل وبناء فروع حولهما من كلام آخر، بل إن العناوين الخمسة لم تتكرر فيهن كلمة واحدة؛ لأن الكاتب على دراية تامة بما يفعله ولا يتصرف عفو الخاطر، فلدينا عشر كلمات مختلفة شكلن خمسة عناوين.. (شريعة، قطة، هدوء، قتلة، ضريح، أب، طعم، نوم، ماكيت، قاهرة)..


عنوانه "الأرملة تكتب الخطابات سرا" جملة اسمية، ولنقل إنه أرادها اسمية على الحقيقة، فصورتها الفعلية هي ما يخطر بالبال عاجلا "تكتب الأرملة خطاباتها سرا"؛ غير أنه أراد أن يعطي الصدارة للسيدة، يمنح حالتها اهتماما يلقي بظلاله على قارئيه، فعمد إلى الاسمية، اسمية الجملة، متغاضيا عن فعليتها، وعلى هذا صارت جملة اسمية، خبر مبتدئها جملة فعلية "تكتب الخطابات سرا"، ولا يفوتنا أن للجملة الاسمية معنى الثبات على عكس الأخرى الفعلية (أي أن التحويل كان عمديا لإضفاء مغزى مراد). وأما عنوانه "الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" فجملة اسمية صريحة، لكنها تمويهية كجمله القصيرة، وإن طالت قليلا هذه المرة، فعناصرها المبتدأ والصفة "الحياة الثانية" ثم حرف الجر "اللام" والمجرور "شخصية الشاعر والصحفي اليوناني الرمز المولود في الإسكندرية"، والجار والمجرور متممان للشق الأول من الجملة؛ فلا يفيدان متصفحهما خبرا، ولا يعطيان الجملة انسيابا معرفيا، لكنها تبقى ملتبسة بالقصدية، فالجملة كلها صالحة كمبتدأ لخبر محذوف، وكخبر لاسم إشارة مقدر "هذه أو تلك" أو لضمير المؤنثة الغائبة "هي" أو "إن" الحرف الناسخ التوكيدي المتصل به ضمير الغائبة "ها" في محل نصب اسمه أو "كأن" الحرف الناسخ التشبيهي المتصل به ضمير الغائبة "ها" في محل نصب اسمه أيضا.. وإن كانت كلمة "الثانية" التي وقعت موقع الصفة في الجملة كلمة مفتاحية، إلا أن غياب الخبر يغلق الجملة بشقيها، وإن أبدت الصفة وميضا ما، وهو ما تبينه قراءة العمل بالكامل دون العنوان وحده، بمعنى أن العنوان، بهذه الصيغة التمويهية، كلمحة تشويق، فمواراة الخبر في مثل هذه الصيغ العنوانية هو مكمن جاذبيتها، ومن ثم تجتمع الحواس وتتحرك باتجاه القراءة المتأنية للنص مما يعقبه قبض الفحوى بكلياتها، كما أن التمويه أعطى عنوانه المدهش إثارة إضافية؛ لأن الشخصية الشعرية والصحفية "مثلية الجنس" المذكورة فيه، والمثيرة للاستدعاء التاريخي، ومن ثم الكلام والجدل، كانت أعطته إثارة مبدئية، وهو ما يضعنا مجددا أمام كاتب يتقن عناوينه!


أستأنف ما قصدته بشأن تأملي للعناوين فأقول، مؤكدا معنى سبق وقلته، إنني أمنح العنوان مساحته الحرة فلا أقيده بما بعده، وإن كنت أتفهم الصلة الوطيدة بينهما، لا شأن لي بما تتضمنه الصفحات التي من المفترض أنه يعبر عنها أدق تعبير.. باختصار، أعتبر العنوان، منفردا، إبداعا صغيرا قائما بذاته، أعطيه حقه الأوفى من العناية بالتساوي مع مطالعة ما خلفه وهضمه!


بالنسبة لعنوانه الروائي الأخير "ماكيت القاهرة" أدور دورة شبيهة حوله، كما درت حول العنوان الأول "شريعة القطة" مستفسرا أو دار هو حولي محرضا إياي على الاستفسار، ولا أدري لماذا يحيل العنوان روحي دائما إلى سخرية لاذعة كامنة فيه، أو فانتازيا سابحة بحروفه، أعني بالتلقي المباشر له بدون أدنى معرفة بالمحتوى، كما حددت المسار، يمنحني الطعمين من خلال تساؤل صغير: هل القاهرة التاريخية الراسخة، بجلال مبانيها، بحاجة إلى إعلانها كمشروع للبناء كأنها ليست بذات بناء؟! وتساؤل آخر يتولد من الأول: هل إعلان البناء هكذا بمثابة حض على هدم القائم بالفعل (بصورتي الهدم المادية والمعنوية) بمعنى قلب كيانه وتغييره؟ أي هل هو طيف ثورة شاملة كبرى؟ وقد يحيلني العنوان إلى شيء أبعد كمثل اقتراح هندسة جديدة للفكرة العاصمية، وغير ذلك طبعا، لكن يبقى العنوان مثيرا هكذا، ويبقى مكره آسرا، بلا أدنى شك!


فيما يخص العناوين الأخرى، خلاف العنوانين اللذين تمكثنا بهما، فإنها تحوي ألفاظا وتراكيب غاية في الخداع من حيث تناقضها السطحي مع اتفاقها العميق أحيانا وتحوي كذلك ارتباطا وثيقا سرمديا بالشجن والخصوصية والكشف والخلود والفناء والجذور والأذواق والعوالم الخفية.. فإنني أذكر ما حكاه لي صديق عاش في اليابان سنوات طوال عن عجوز هناك، وصفوه بالقارئ العظيم، وكان عمله، منذ الصغر، بمجالي الطباعة والمكتبات، قال لي صديقي إنهم سألوا الرجل مرة في نهايات حياته: هل تتذكر الكتب؟ فقال من فوره: أتذكر العناوين! 


زادهم الياباني العجوز من الشعر بيتا حينها إذ تلا سريعا مئات العناوين التي يحفظها عن ظهر قلب، وكان يتوقف عند بعضها، قليلا أو كثيرا، كمن يجتر الكتاب الذي حمل عنوانا معينا كله، بل نصح سائليه أن يقتنوا الكتب ويحفظوا العناوين جيدا، قبل القراءة وبعد الانتهاء من التصفح والاستيعاب الأتم لما في السطور وما بين السطور، وقال إن العناوين هي عصارات الكتب وخلاصاتها.


كما يقول العاطفيون إن المرأة عطر يتسلل إلى أرواح الرجال على حسب استقبالهم إياه؛ فبوسعي أن أقول، مستفيدا من قالة العاطفيين ومن حديث الحكيم الياباني، إن الكتاب عنوان يماثل العطر الأنثوي، وأثره في المتلقين يماثل أثر العطر في الرجال، بعد ذلك أنصح بقراءة عناوين صاحبنا جميعا بصورة متتالية متكررة كأنها الأوراد الصوفية، وباستغراق كامل، مع الحرص على الإيقاع، كما لو كانت حالة خاصة من الذكر الاحتفائي التكريمي اللطيف الذي يعلي قيمة العناوين العبقرية المؤثرة ويمجدها تمجيدا (العناوين هي واجهات الكتب- أبوابها ونوافذها، وكثيرا، من خلال الأبواب والنوافذ، يمكننا رسم خريطة للداخل قبل الاحتكاك المباشر به): هدوء القتلة، الأرملة تكتب الخطابات سرا، الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس، ضريح أبي، طعم النوم. أنصح أيضا أن نقرأ بطريقة عكسية (من الخلف إلى الأمام)، وأن نقرأ بطريقة غير منظمة بالمرة.. إننا هنا لا نبدي فرحنا بالعناوين وحدها، لكننا نبدي الفرح بما تتضمنه، وبمقام صاحبها العارف بالتأكيد!


لا يكون المبدع مقتدرا حقا إذا خانته عناوينه، وكثيرون من المبدعين الموصوفين بالاقتدار تخونهم العناوين للأسف، وعلى هذا يفقدون فيوضا هائلة من وهج طاقاتهم ومن ثم بهائهم الفني، قد يكون ما أقوله صادما بمعنى من المعاني، غير أنها الحقيقة، وطارق إمام مبدع ذكي جسور، يحسن التفكير والاختيار، ولا توقفه كلمة، وإن تحدته، ولا تركيب لفظي، وإن زمجر في وجهه، وعلى هذا لا تخونه
العناوين لأنها في قبضته النبيهة الواعية، ذات الحس اللغوي العالي المستقيم!

Post a Comment

أحدث أقدم