العطر..! رائحة الحياة الحلوة التي تدفع إلى القتل، رؤية نقدية بقلم: شريف الوكيل.
بانوراما أدبية: مقالات: فيلم: العطر..! رائحة الحياة الحلوة التي تدفع إلى القتل، رؤية نقدية بقلم: شريف الوكيل. شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، كتب، كتاب.
الروائح لها قوة إقناع أقوى من قوة الكلمات أو المظاهر أو العواطف أو الإرادة. لا يمكن صد القوة الإقناعية للرائحة ، فهي تدخل إلينا مثل التنفس في رئتينا، وتشبعنا تماما، ولا يوجد علاج لذلك...وقد بدأ فن صناعة العطور في بلاد ما بين النهرين القديمة ومصر وحضارة وادي السند وربما الصين القديمة، وتم تنقيحها من قبل الرومان والعرب .
وتاريخيٱ معروف أن أول عطر حديث مصنوع من زيوت معطرة ممزوجة بمحلول الكحول ، تم صنعه عام ١٣٧٠ بأمر من الملكة إليزابيث ملكة المجر وكان معروفا في جميع أنحاء أوروبا باسم مياه المجر.
فيلم: العطر..! رائحة الحياة الحلوة التي تدفع إلى القتل، رؤية نقدية بقلم: شريف الوكيل. |
فيلم: العطر..! رائحة الحياة الحلوة التي تدفع إلى القتل.
بقلم: شريف الوكيل.
خلفية رواية وفيلم العطر الاجتماعية والسياسية:
وفي بداية نشأة الحركة البرجوازية الليبرالية؛ كانت فرنسا مستنزفة من كثرة الحروب في تلك الحقبة مما سبب تغييرات جذرية في التفكير ونشوء ميل لاستبدال الديكتاتورية بنظام أكثر ديمقراطية...وكان المجتمع البرجوازي يعلي من هيبة النبلاء المنتمين لهذا النهج وتشكل العطور الفاخرة المميزة صفة فريدة من صفات أصحاب هذه الطبقة... فالإنسان البرجوازي له رائحة، أي أنه معترف بوجوده، بينما الفقير أو اللقيط يفقد أهم خصائصه الإنسانية، حتى الصوت واللغة خصائص ناقصة لمن هم خارج الدائرة البرجوازية الليبرالية. هذه الحركة التي تتميز بالرائحة الجميلة الذكية في مقابل الروائح البشعة التي تصدر من العامة والفقراء في أحياء باريس. فالعطر وثيقة مرور ملائكية...وتطرح رواية الكاتب الألماني (باتريك سوسكيند) البعض يكتبها زوسكيند ولكن لاخلاف، العطر Perfume تساؤلات عديدة وخطيرة منها: هل رائحتي التي يتلقاها الآخرون بشكل مباشر أو غير مباشر، تحدد كيفية تصرفهم معي وسلوكهم تجاهي وهل الرائحة تؤثر في الآخرين، وفي ردات أفعالهم تجاه بعضهم البعض..؟
لا يبدو فيلم "العطر" مستحيلاً تصويره فحسب ، بل لابد أنه كان من المستحيل على باتريك سوسكيند كتابته... فكيف استطاع أن يصف اللغز الذي لايمكن وصفه للرائحة من خلال الكلمات..؟
رواية العطر:
تتضمن الرواية الشهيرة لقيطا صغيرا ملتويا تلده أمه في سوق بيع وتنظيف الأسماك واللحوم، ليقع مهملا في وسط مخلفات التنظيف من بقايا السمك وبرك العفن، مثل هذه الأسواق كانت موجودة في باريس قبل ٣٠٠ عام ، وكاد يتم التخلص منه مع القمامة، لكنه ينجو وينمو كئيبا قليل الكلام... يمتلك "جان بابتيست جرينويل"(بن ويشاو) صفتين غير عاديتين إنه يتمتع بأشد حاسة شم في العالم وليس لديه أي رائحة خاصة به...يستنشق روائح العالم بحماس من خلالها ، يلتقى مع "بالديني" (داستن هوفمان) ، صانع العطور الرئيسي ، الذي تجاوز الآن أوج عطائه ، والذي يقع متجره على جسر مزدحم من القرون الوسطى يطل على نهر السين .
عبقرية إخراج فيلم العطر:
إن ذكر الجسر يستحضر العبقرية التي يستحضر بها مخرج الفيلم (توم تيكوير)، عالم القرون الوسطى من الرذائل الجسيمة والرائحة المنتشرة والشهية الفجة، يبتكر جرينويل عطورا مثالية دون عناء لكن طموحه أعمق بكثير يريد أن يستخلص جوهر الأشياء، النحاس والحجر والجمال نفسه ليستخرج عطرٱ فريدٱ لم يسبقه أحد فى صنعه، وسعيا وراء هذا المثال الأخير يصبح قاتلا شنيعا، فكان دافعه للقتل ناتج عن رغبته في امتلاك تلك الروائح النادرة القادرة على إلهام الحب... فكا يمارس الحب مع ضحاياه الجميلات بأنفه يشم شعرهن، أيديهن، أقدامهن، أكتافهن، أثداءهن، والروائح المنبثقة من أفواههن وأنوفهن، وكل عضو من أعضائهن... فكل إنسان له رائحة خاصة مميزة وفريدة إلا هو... يحاول جرنوي الاحتفاظ برائحة ضحاياه لكنه يفشل في ذلك، ولذا يسير وراء خياله الكبير أو وهمه المريض بصنع عطر الحياة الذي لا يزول، لذا فكل ضحاياه كانوا فتيات جميلات عذراوات بعمر الورد ولديهن رائحة جميلة فقط، وتطغى رائحتهن على كل ما عداها من الصفات.
تأسيس العالم المرئي في فيلم العطر:
ذات مرة أخبره معلمه بالديني أن المركز العالمي لفن العطور موجود في ضاحية جراس عاصمة العالم فى صناعة العطور ، بجنوب فرنسا ، ولذا فهو يمشي إلى هناك ، وفي هذا المكان يوجد أناس يطلق عليهم "أنوف جراس" هؤلاء القوم هم الذين تفرض أذواقهم معايير الصناعة العالمية لعطور العالم...من المفترض أنه من طبيعة مخلوقات مثل جرينويل (أعتقد) أنهم يعيشون بلا أصدقاء في الواقع ، وربما يكون لديه القليل من المحادثات...كما ستكون حياته ، كما يجب أن تكون بدائية داخلية، لايخبر أحد بما يفكر ، ولذلك يوفر المخرج تكوير الراوي (جون هيرت) لتأسيس أحداث وحقائق معينة، ومع ذلك فإن الفيلم مرئي في الأساس ، وليس منطوقا ، ويقوم بعمل رائع في تأسيس جرينويل وعالمه، لا يمكننا أبدا فهمه حقا إلا عن طريق ذلك الراوى .
تصاعد الأحداث في فيلم العطر:
يبدأ عطر "العطر" برائحة الحضيض ويظل مظلما ومكثفا، فسرقة شخص ما من رائحته أمر قاسي بما فيه الكفاية ، لكن الطريقة التي يتم بها في هذه القصة/الفيلم مروعة حقا... لا يزال من الممكن القول أن جرينويل مدفوعا بظروف حياته وطبيعة روحه، وأيضا ظروف ومكان نشئته بالطبع جعلته كما لو كان من نسل الشيطان، كما تقول الأساطير أن الشياطين تولد بدون رائحة .
إنه فيلم مظلم حقا، رغم وقع جمال اسمه ومايبعثه من البهجة، يركز على هوس كامل ووحيد لدرجة أنه يعلق كل التجارب البشرية الأخرى المنتجة لأى عطر...قد لانستطيع شمه أو تذوقه لكننا لن نتوقف عن مشاهدته ونحن في حالة رعب مسحورين... وينجح ويشاو في عدم إعطائنا أي تلميح عن شخصيته باستثناء أوجاع وحشية عميقة نمت معه... أما داستن هوفمان ذلك العجوز غريب الأطوار تحكم حياته أيضا العطور ، إذا كان ذلك أكثر إيجابية. يذكرنا هوفمان هنا مرة أخرى ، كما في فيلمه "أغرب من الخيال" فهو ممثل ذو شخصية عميقة، ورائع قادر على أن يجلب لأى قصة بالضبط ما تحتاجه من روح الدعابة والإنسانية ، ثم تركها بلباقة عند هذا الحد، حتى خروجه من الفيلم في توقيت جيد...أليست هى العالمية والإحترافية، تقريبا كل أفلامه تركت لمشاهديها انطباعا وشغف، لايكون متوفرا فى نجوم آخرين... ولكن دعونا لانخرج عن السياق .
لماذا حقق فيلم ورواية العطر هذا النجاح؟
لماذا أحب هذه القصة/الفيلم، لا أعرف على وجه التحديد، ولا أستطيع أن أشرح لماذا قرأت الكتاب أكثر من مرة، وشاهدت الفيلم مرارٱ ، وأوصيت بعض المقربين بمثل مافعلت...قد لايكون هناك شيئا ممتع فيهما باستثناء الطريقة التي تغامر بها بلا خوف في طريق مسدود محدود ومخيف ومغري ، وتجد هناك حلاً ساميا ومرعبا. لقد تطلب الأمر خيالا لتحضيره ، وشجاعة لتصويره ، وفكر في تمثيله ، ويتطلب ذلك من الجمهور فضولا شجاعا حول خصوصية الهوس.
يمكن اعتبار قصة الفيلم رواية متعددة الأنواع من حيث أنها لا تتناسب بدقة مع فئة واحدة ، ولكنها بدلاً من ذلك تجمع بين عناصر الغموض والعبثية ، مع الواقعية السحرية والرعب ربما بشكل بارز ، حيث
يأخذنا الفيلم للتصديق بأن الكثير من سلوكنا وأحكامنا على الآخرين إنما يتحدد بفعل الرائحة، وهذا سلوك غير منطقي ربما، ومتحيز إلى تحديد القيمة الوجودية للأخرين برائحتهم العطرة أو المنفرة. إنه فيلم يشبه قصيدة غزل معطرة، فالرائحة هي إحساس لا يمكن للسينما إنتاجه، لكن نجح الفيلم في نقل معنى الرائحة والعطر وميزتهما.
الخطاب في رواية العطر:
ويخاطب كاتب الرواية العديد من المحفزات الاجتماعية المتغيرة للعصر في تصوير صعود جان بابتيست جرينويل من يتيم إلى صانع عطور ماهر، كما يستخدم سوسكيند الواقعية السحرية في العطور لإثارة نقاط حول عبثية الحالة البشرية ولإثارة أسئلة حول طبيعة الخير والشر ومدى قدرتنا على معرفة شخص آخر حقا...وقد استطاع المخرج على الرغم من صعوبة القصة وتحويلها إلى فيلم، أن يصل إلى إخراج تحفة فنية رائعة صعبة للغاية، هذا وتمكن الفيلم من اخذ المخرج الى اتجاهات غامضة...بالرغم من أن أكثر عنصر ساحر في الفيلم هو السعي للكمال الذي تطلبه النفس البشرية عن طريق القتل، كأداة بشعة للوصول الى الغاية المنشودة .
ورغم أنه موضوع مقلق وصعب عندما تستخدم الصورة للانطلاق بهذه الفكرة فقد استطاع مخرج الفيلم أن يبرهن أنه من المخرجين القلائل في ابراز الصور الفكرية البشعة...خصوصا تلك التي تظهر البطل في الظلام قبل أن يشرع في تنفيذ خطته مباشرة، فقد تمكن هذا الشاب من تقديم شخصية البطل المطابقة لوصف سوسكيند
من تعبيرات الوجه الجامدة طوال الوقت، ومن خلال حركات الأعين فقط، واستطاع ان يقدم لنا بشكل مؤثر شخصية القاتل البشع وشجعنا على فهمه، كما انه نجح في تعريفنا لما هو محفوظ في النفس البشرية من بدائية ووحشية و بشاعة، بإسلوب يستحق عليه صاحبه الثناء...إضافة إلى المشاهد التي تظهر عملية استخلاص العطر منذ البداية وحتى هبوطه في القنينة الصغيرة التي ستضاف إلى مجموعة الإكسير السحري لتكوين العطر ذو الأريج المخملي والأبدي، وربما تكون مشاهد عبقرية الإخراج ليست بالكثيرة، لكن تلك هي أبرزها بكل تأكيد...
ومن خلال كل التقلبات التي حدثت بالقصة، برهن الكاتب أنه ذو خبرة واسعة في خبايا النفس البشرية، وكيف لصاحب الهدف الذي لا يحيد عنه يتصرف عندما يجد معوقات تحقيق هذا الهدف تتزايد يوما بعد يوم. بجانب أن الكاتب هنا لم يشعرنا أبدا بأن فكرته قائمة على قوة خارقة وخيالية، بل جعلنا نوقن أن بطله صاحب هبة حقيقية، بل ويزيد شغفنا كل دقيقة مع محاولاته المستميتة للوصول لهدفه مهما حدث، من خلال نزعة تجريدية لتحقيق الكمال والشغف وهي التي تسيطر على الموقف بطغيان وغرور شديدين، فالغرور المرضي حالة تصيب الإنسان عندما يفقد إحساسه بالواقع... المغرور يفكر بنفسه فقط، ويفكر بالكيفية التي ينظر بها الآخرون إليه...فبطلنا غير قادر على التكيف الاجتماعي ولا يتقبل الواقع ولديه طموحات وأحلام تفوق قدراته، مما خلق شرخا بين إمكانياته وطموحاته... لذا فقد متعة الحياة، فأصبح أناني لا يفكر سوى بنفسه، ولا يفكر سوى بنظرة الآخرين إليه، لذا يريد أن يركع العالم بأكمله تحت قدميه. لشعوره بعدم الإنتماء لهذا العالم...ليزداد هذا الشعور حتى أصبح لايشعر بانتمائه للجنس البشري ككل...علاوة على لفظ المجتمع له، وإعتباره تافهٱ ونكرة خلق لديه الرغبة لاحتلال العالم... إنه شخص مصاب باضطراب الشخصية المرضي وتسيره رغباته وليس حاجاته...إنه يسعى للقفز فوق الحالة الإنسانية عبر تركيب عطر جديد ليس له مثيل. كان يسعى للوصول إلى المثالية... إلى الكمال الكلي، أن يصبح إلها، لذلك صار يبحث عن مبتغى جميع البشر (الخلود) .
بداية ونهاية فيلم العطر:
فقد بدأ الفيلم بولادته وإنتهي بانتحاره، وكان الانتحار هو الفعل الإنساني الوحيد الذي استطاع جرنوي فعله... وحين أكلوه كان ذلك أول فعل بدافع الحب يقومون به. التهامه من قبل المشردين والمنبوذين هو أول شعور بالحب، (كما كان هذا المشهد كفيل بأن يجعل المشاهدين للفيلم يشعرون أنهم يستنشقون أريج العطر الذى نثره جرنوى في الهواء) .
فيلم العطر، ملحمة فنية متميزة:
ملحمة فنية مميزة تستحق الدراسة, إضافة إلى الفهم العميق و التبصر لجنون العقل، عندما يصبح قاتلا محترفا استجابة لغرائزه الهستيرية . يتميز الفيلم بالأحداث الكئيبة و الغامضة، ويركز على الهوس و الهواجس الشخصية ،لكنه عبارة عن قصة رائعة عن رائحة النفس البشرية، ومحاولة الإنسان تغطيتها بأخلاق زائفة وقداسة واستقامة...كل ذلك يرمز إليه بالعطر المثالي. الفيلم نفسه رائع لأسباب عديدة بما في ذلك كيفية استخدام المخرج للعري دون أي ارتباط مع الفساد وكيف تم تصوير القتل الوحشي بأقل قدر من الدماء... كان أمرٱ مزعجا ولكن يتم تنفيذه بشكل جميل مع التمثيل البسيط والسرد الذي ساعد في الإستيعاب الكامل للفكرة، حيث يصعب ترجمة بعض أبعاد الرواية إلى صور... ولعبت الموسيقى المصاحبة للفيلم ببساطة وثقة دورٱ مؤثرٱ ، لإبراز الحالة الشعورية بالكمال المطلق مع كل مشهد، خصوصا تلك المشاهد التي يستمتع فيها بطل الفيلم بعمله بشكل كبير جدا .
فيلم العطر ورواية العطر:
فيلم " perfume " قصة حياة قاتل ،مأخوذ عن رواية بنفس الاسم صدرت سنة ١٩٨٥، وقدمها للسينما عام ٢٠٠٦ المخرج"توم تيكوير " و الذي شارك في كتابة السيناريو أيضاً ... وقد استطاع تيكوير اخراج تحفة فنية سواء من حيث التصوير أو الموسيقى التي شارك أيضا ً في تصميمها، وبقدرته الفائقة استطاع اخراج أقبح الصور و أقذرها بشكل جمالي خلاب ،هذا بالإضافة لقدرته على توظيف كل الممثلين ببراعة فائقة، ورشح الفيلم لستة عشر جائزة ، حصد منها خمسة عشر بالفعل .
إرسال تعليق