الجاموسة تطلب..

 الجاموسة تطلب.. قصة: محمد إبراهيم طه، من مجموعة قصصية امرأة أسفل الشرفة  نشرت في عام 2012 عن سلسلة كتابات جديدة، الهيئة العامة للكتاب، ونشر عن دار النسيم للنشر والتوزيع في الأعمال الكاملة


قصة قصيرة
قصص: مدمد إبراهيم طه

قصة: محمد إبراهيم طه

كان الأمر مربكا والجاموسة تزعق وتتلوى في كل اتجاه معرضة عن عيدان الذرة الخضراء، وأنا أحاول أن أسكتها بأي شكل، فتتطلَّع في ذهول نحو المارة والبهائم الأخرى، وتدور في مربطها حول الوتد حتى كادت تخنق نفسها. وكان المارة يتوقفون ويدلون بتعليقات لم أكن أفهمها، حتى قال الحاج عبد الحق في تعجب: "الجاموسة طلبت يا ابني.. ساكتين عليها ليه؟" لم أفهم ماذا تطلب الجاموسة، لكنني فهمت أن الأمر خطير وعليَّ أن أعود بها، وطوال الطريق وهي تزعق وتتلفت وتهرول خلفي، والنسوة ينظرن لبعضهن ويبتسمن. عندما سمعتها أمي، وضعت الطرحة على رأسها وأخذتها إلى الداخل، وأمرتني أن أذهب في الحال إلى عمي جودة أبو متولي، وأن أقول له إن جاموستنا طلبت.

كم كان الأمر مربكا ومُشِينا وقد علمتُ ماذا تطلب الجاموسة،  وكان الرجل جالسا بين مجموعة من الرجال حين سألني: انت ابن مين؟" أجبته فقال:

ـ ربنا يسهل .. هاتها قبل المغرب!"

لسبب غامض، لا أدري إذا كان العيب أم الغيرة، منعتُ أمي من المجيء معي رغم أنني لم أكن متأكدا من قدرتي على السيطرة على الجاموسة. خيرتها بين أن أذهب أنا أو تذهب هي، فبحلقت عيناها، ونزلت على رغبتي، وخلعت الجلباب الأسود وناولتني الجنيه، وقالت: الجنيه الباقي يوم الأحد، عندما تبيع كيلة ذرة، ثم قالت في رضوخ وهي تحل الطرحة:

ـ ابقى خد بالك والنبي!

كنت أعلم أنها تخشى ألا يطلع العجل جيدا، أو لا يتمكن جودة من أداء واجبه بالمساعدة في عملية التنطيط، فينطر العجل في الخارج قبل الوصول، أو يخرج مبكرا وما زالت مياهه تنزل. وكنت أريد أن أنأى بها عن هذه التفاصيل المخجلة.

أوقفتُ الجاموسة أمام داره وناديت، فخرج ممتعضا من مجيئي وحدي، ولما أعطيته الجنيه، أمرني أن أنادي على عبد الغني الترزي أو أخيه زمبلك، ثم دخل مرة أخرى وخرج بالعجل من خلفه ضخما، رأسه كبيرة وأكتافه عالية، يبلغ حجم الجاموسة مرة ونصف. كنت ممسكا بحبل الجاموسة الخائفة، فازداد امتعاضه ونادى عليهما، لكن أحدا لم يرد. كان يشيح في وجه العجل الذي يشب بقوائمه لأعلى كأنه يريد أن يهجم، وحين شعرتْ به الجاموسة، تواضعت ومالت برأسها نحو الأرض، وبدت كأنها خائفة، فخمش بيده ظهرها، وتلفت على أحد المارة، فلم يجد، فأمرني بأن أقف أمامها، وأُقَصِّر لها الحبل، وأهرش رقبتها بثنية الحبل حتى لا تتحرك فتنكسر هي أو ينكسر العجل، وحين بدا أنه يشك في قدرتي كصبي على الوقوف في وجه الجاموسة، تلفت مرة أخرى بعينيه الضيقتين إلى بعيد، ونادى بصوت عال وأشار بذراعه القصيرة: " غنام...يا غنام..إيدك معانا"

جاء غنام بطوله الفارع وسند بيديه كتفها، وسأل:

ـ جاموسة مين دي يا جودة؟

بلغ الخجل ذروته، واحمر وجهي فجأة حين جاءت سيرة أمي في مثل هذا الموقف، ودارت الدنيا بي وأنا أمسك بالحبل قرب أذنيها، وقال غنام وهو يضحك:

ـ خلليك واقف في وشها عشان تتوحم عليك!

قفز العجل، فتحركت الجاموسة إلى الأمام ومالت برأسها وكادت تسقط، فصرخ جودة:

ـ إنتوا رجالة ولا نسوان.. العجل هينكسر!

وأعاد تثبيتي بعنف أمامها مرة أخرى، وقصَّر الحبل حتى رقبتها، وعقده على أذنها كسرة وتد، حتى يسهل التحكم فيها، وثبَّتَ كتفي تحت رقبتها، وطلب من غنام الذي كان يضحك كطفل أن يمسك ذيلها ويسترجل. 

قفز العجل مرة ثانية، فضحك غنام وأوشكت ركبتيها الأماميتين أن تنثنيا تحت وطأته، وانتقل الحمل إلى كتفي، وعندما أمسك جودة بإحليل العجل وأدخله، دخل غنام في نوبة ضحك لم تنقطع حتى نزل العجل. 

توقفتُ أمام السبيل، ورششتُ ظهرها بكوزين من الماء، فسارت خلفي في هدوء واسترخاء، ولا دليل على عودتها من عند جودة أبو متولي إلا التؤدة في المسير، ونظرة الارتياح في عينيها، ونقاط المياه المتسرسبة من ظهرها، والتي بدا أن أمي استقللتها حين أطلت برأسها من الباب، فخرجت بحلة ممتلئة ودلقتها على ظهرها. تركت الحبل في زهق وقلت:

ـ دقيقة وكانت هتخش الدار.. لازم في الشارع!

لم تكن أمي تعلم مصدر خجلي الحقيقي، لكنها شعرت بضيقي من هذا الأمر على نحو خاص، فربطتْها ولفت حولها، وطلبت أن أكتب تاريخ اليوم على الحائط، وظلت على مدار يومين تضع لها الأكل، وتعاملها برقة على أمل أن تعلق النطفة، ويأتي الجساس بعد شهرين، لكنها أعادت النعير في نهاية اليوم التالي، فتوترت أمي وأمرتني أن أذهب مرة ثانية لجودة أبو متولي. قلت له: "الجاموسة لسة بتنعر" فسألني من خلف الباب: إنت ابن مين؟ أجبته، فقال بامتعاض: 

ـ "هاتها الصبح .. يكون العجل على شوق"

 في شقشقة النهار أيقظتني أمي، لأعيد نفس الكرة، حيث أخرج جودة العجل الذي ظل يشم في ذيلها ويستنشق، لكنه لم يتقدم. مرتان، ثم سحبه جودة إلى الزريبة، وقال:

ـ نفسه مسدودة.. هاتها له المغرب!

أعرف التوتر الذي تعانيه أمي في هذا الأوان، فهي تخشى أن تلف هذه السنة أيضا ولا تحمل الجاموسة، فهي تربيها وتؤكلها انتظارا لهذه اللحظة التي تطلب فيها، فتجني من ورائها بعض اللبن، وعجلا صغيرا، يروح ثمنه للحاج عبد الحق في إيجار الأرض. استلفتْ جنيها من خالتي مكة، وهمست قبل المغرب بساعة في أذني:

ـ خدها في السكتة دي.. المغرب هيدن والجنيه اللي باقي أهه!

سألتها لماذا تحمل بهائم البلدة بلا فضائح، بينما جاموستنا التي يعرف الجميع قصتها. قالت وهي تربت كتفي: " معلهش .. معزة الغلبان في أول المراح دائما، اللي رايح يخبطها واللي جاي يخبطها" ثم كشفت رأسها ودعت أن يبيض الله وجهنا هذه المرة، ثم دعت للحاج عبد الحق الذي عرف بخيبة الجاموسة السنة الماضية فتغاضى عن تأخير الإيجار، وحلفتني برحمة أبي أن آخذ بالي، وأن أغمرها بالمياه، فقلت: حاضر، ومضيت. أثناء العودة في غبشة المغرب، برزت أمي من خلف السبيل ملفوفة بالسواد وعلى رأسها حلة ماء، أراقتها على ظهر الجاموسة ثم سارت في صمت حتى حاذتني فهمست دون أن تنظر:

ـ "معلهش يا حبيبي.. عارفة إنك بتنكسف"

شهران من التاريخ المسجل على الحائط مرا قبل أن يشمر عامر كمه ويضع يده في الجاموسة. تأخرت اليد في الداخل، وحين أخرجها، صبت أمي المياه على يديه، وهي تنظر إلى تقاطيع وجهه في قلق، وأكدت عليَّ أن أجري بسرعة وأشتري له حاجة ساقعة أول ما يقول مبروك. كنت واقفا في تحفز، بينما يدها ترتعش بالكوب الألومونيوم، وهي تستنطق ملامح الرجل الذي جفف كفيه في ذيل جلبابه، ثم خرج من الباب بسرعة:

ـ ما فيش نصيب يا حاجة!

لم أذهب لأحضر الحاجة الساقعة، فقد لطمتْ خديها بعنف لطمات سريعة ومتتالية، وسقطت الطرحة عن رأسها وهي تعفر الجاموسة بالتراب، وتضربها بجنون دون صوت حتى همدت فخرج صوتها إلى السقف معاتبا في ذهول: 

ـ ليه كده يا رب بس.. أجيب أكل سنة كمان منين!

هطلت دموعها وعلا صوتها، فتجاوز الدار حين صوتت فجأة وشقت طوق جلبابها:

ـ "أودي وشي فين من الحاج عبد الحق؟"

 لابد أن عامر كان يعلم ما سيحدث حين ألقى كلمته مسرعا ثم خرج، فهو لا ينتظر أجرا عندما تطلع البهيمة فاضية، بينما يطلب، قبل أن يخرج يده من البهيمة العشر، أن يرص له صاحبها كرسيين معسل مع الشاي. 

ارتفع صوات أمي حتى جلب الجارات، فهدأنها، وطلبن منها أن توحد الله، ولا تخرج عن الملة، فعصبت رأسها وظلت مغمومة طول اليوم، وفي المساء عادت إلى الجاموسة فوضعت لها التبن والردة، وأكرمتها في الأكل لعلها تطلب مرة أخرى، وظللنا نتسمع دون جدوى لليال عديدة.

لجاموستنا الراقدة في مربطها معزة قديمة، منذ كانت عجلة صغيرة ابنة سنة ونصف، وكنتُ في ثالثة أول عندما زعقت مرتين، فأخذتها أمي إلى جودة أبو متولي الذي رفض أن يخرج العجل، بحجة أنها صغيرة. حلفت له أمي أنها طول الليل تزعق، واستشهدت بي، فهززت رأسي، ولم أكن سمعتها سوى مرة واحدة. كانت قصيرة، منخفضة مقارنة بالبهائم التي نراها في الشوارع والغيطان. فقال لها:" عجلتك طرية يا هنية، وممكن العجل يكسرها" لكنها ظلت تحايله حتى أخرج العجل، وحدث ما توقعته أمي، فبعد شهرين جاء عامر ووضع يده ثم أخرجها، وقال:

ـ الحلاوة!

زغردت أمي، وعملت له كوب ماء بسكر، وشرب الشاي ووضعت في يده خمسة عشر قرشا، فردها ولم يتنازل عن الربع جنيه. وضعت يدها على رأسي، وهي تبتسم في استعطاف:

ـ سيبت البريزة لليتيم ده.. "

كيف اختلطت الدموع بالفرح في عينيها فجأة، وكيف ترك الرجل في كفي ورقة بخمسة قروش، وهو يغادر وينظر بإعجاب إلى الطفلة الصغيرة التي صارت أما.

كانت المرة الأولى التي تقتني أمي عجلة صغيرة، اشترتها من مصاريف خارجة أبي بعد وفاته، وظلت تطعمها حتى كبرت، واشترت لها البرسيم وعيدان الذرة بالقصبة، لكنها قررت بعد أن أخذت مني الخمسة قروش أن تستأجر ثلاثة قراريط شتوي من الحاج عبد الحق، يرويها ضمن ما يروي غيطه، أكلا لعجلة صغيرة وجميلة يكبر الحمل في بطنها الصغير، وصلت إلى ربع فدان نيلي بعد أن ولدت العجلة، ثم صار الإيجار سنويا. نزرعه أنا وهي، بمعزل عن الحاج عبد الحق، وكانت تقول إنني رجل، وأنني أكبر بسرعة، وفي أواخر الشهر العاشر من الحمل، كانت تقوم من جانبي مرتين في الليلة، لتطل عليها في الزريبة، حتى إذا اقتربت ليلة الولادة، لا تنام مطلقا. تلاحظ هبوط الضرع وكبر الحلمات، فتفرش الزريبة أسفلها بالتراب الجاف. تسهر بجواري وسمعها ينصرف نحو المربط، يلتقط أي حركات غريبة، حتى إذا أطل العجل برأسه وحافريه الأماميتين بجوار أذنيه، شدته بخيشة من رأسه وأظلافه والجاموسة تتألم وتلف في نصف دائرة، وبعد أن يخرج العجل ذو الجبهة البيضاء، تربط سرته، وتدش بصلة وتشممها له، ثم تضعه راقدا أمام أمه، لتلحس المخاط عن جسده حتى ينزل الخلاص. بعد قليل يتنبه العجل الصغير، ويتطلع قبل أن يقف على قوائمه الأربع، وأمه تلحس في جلده، فيعود إلى رجليها الخلفيتين كأعمى يتحسس ضرعها، فيما تفتح له ساقيها، وتساعده أمي بتوجيه فمه الصغير إلى حلمتي ضرعها الخلفيتين، ليبدأ النطح بقسوة في الضرع السمين الهابط.

تعجبت كيف عرفت أمي مواعيد الري، وعدد نقلات السباخ المطلوبة لربع فدان برسيم، وكم يكفي من التقاوي ومن الكيماوي، وكيف علمتها الدوران في الساقية وجر المحراث، فقالت ببساطة: " اللي يسأل ما يتوهش" 

عصبت أمي رأسها، وسألت ياسين أبو حصوة عما تفعله لجاموسة فوتت العشر سنتين، قال لها بيعيها، فقلت نصبر، لكنها فوتت أيضا هذه المرة. استشارت عامر الجساس في الأسبوع التالي، فقال بصراحة:

ـ بيعيها في سوق اللحم!

اشترت أمي بالأجل إردب ردة ونصف قنطار تبن، وقررت أن تعلفها، وكنا نتعشم من وراء ذلك أن تزعق الجاموسة وتطلب، لكنها لم تفعل.

في المرة الأولى التي خرجنا بها إلى السوق، كانت أول مرة تسير فيها في اتجاه غير اتجاه الحقل. ظلت تنظر إلينا وتتعثر، وأمي تكتم بكاءها من خلفي وتكلمها:

ـ أعمل لك إيه.. يا حبيبتي.. قوليلي!

وبعد أن عبرنا كوبري الدبة، أشرت إلى الدموع في عيون الجاموسة التي لم يسحبها أحد غيري، ولم يحلبها أحد إلا أمي، فقالت:"إيه رأيك؟". قلت: "نرجع" فشعرنا بأن ثقلا عن قلبينا قد أزيح.

في السوق التالي لم نستطع أيضا مواصلة السير، وعند مقابر المسلمين توقفنا نحن الثلاثة، وعدنا في صمت، وأرسلتني إلى ياسين أبو حصوة التاجر ليأخذها من الدار. تساهلت معه في البيع حتى لا تطيل فترة المساومة، ومسحت دموعها وقالت:"عشان خاطري.. متبيعهاش لجزارين البلد"، فأشار نحو عينيه وأومأ برأسه، وحين سحبها خلفه ظلت تتلفت، وعند العتبة زعقت وبصت إلينا، فانطلقت أمي في صوات مفجع.  في اليوم التالي أرسلتني أمي لأتقصى أمرها، فوجدتها مربوطة تحدق في ذهول، والحبل قصير.  صباح الخميس كانت جاموستنا معلقة في أربع محلات للجزارة، كل ربع في سبية، فقالت أمي:"إخص عليك يا ياسين!" وفيما أكلت البلدة جميعا من لحمها، لم تدخل اللحمة بيتنا، لا هذا اليوم ولا بعده.

Post a Comment

أحدث أقدم