كتاب المنسيين

قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) للقاص هاني منسي



كتاب المنسيين، قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) هاني منسي
عاطف عبد العزيز يكتب: سنكسار كتاب المنسيين، قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) لهاني منسي




عاطف عبد العزيز


للوهلة الأولى أصابني شيء من الدهشة، حين اخترت الدخول إلى هذا العمل، عبر قراءة قصة (سنكسار)، التي أخذت المجموعة عنوانها، وكما هي العادة، كنت أتوقع أنها ستكون -دون ريب- القصة المركزية، أو بعبارة أخرى، البوابة الأعرض التي شاء الكاتب أن يشير إلينا نحوها، ومناط الدهشة هنا، هي أنني لم أجد ما يصل مضمون القصة بعنوانها، فالقصة تُحكى لنا بضمير الأنا على لسان راهب يرسله الدير رفقة زميل له إلى السوق، كي يبتاعا حاجات الدير، و في الوقت ذاته، يبيعا بعضًا من منتجاته، يقع الراهب الزميل في الخطيئة، حين تتملكة الشهوة تجاه امرأة كانت تشتري منه قلادة، فنراه يبكي ندمًا وهو يعترف أمام صاحبه طلبًا للتطهر، غير أنه وعلى غير المتوقع، ينتهى الأمر بانتصار الخطيئة، ذلك حين سوف نتفاجأ بتزايد أعداد القلائد المبيعة للسيدات-فيما بعد- وتتنوع ألوانها وأشكالها، ما سوف يعني -بشكل رمزي- انتصارًا لإرادة الحياة لدى الراهبين على صلاة الموتى التي جرت عليهما، والتي كانت عتبتهما الأولى في عالم الرهبنة والتنسك.  
 
خدعنا إذن منسي الذي شاء أن ينتصر من طرف خفي للأرض على السماء، تحت مظلة من عنوانه السماوي هذا، هنا لنا أن نتساءل، ترى هل كان يعنيها هاني منسي حقًا، عندما اختار (سنكسار) عنوانًا لمجموعته؟!، هل كان في مقام السخرية من المقدسات التي يستهلكها العامة من الناس؟! أم كان يقصد إلى أن تلك الحكايات التي أوردها، لم تكن في حقيقتها سوى تتبع لسير القديسين المنسيين المشائين في السكك، أعني أولئك الذين آثروا أن يتخلوا عن الجلابيب السوداء والقلنسوات المطهرة، ليختبؤوا في إهاب المهمشين وأسمالهم؟!، بعبارة أخرى، هل نحن أمام سنكسار البسطاء الذين نسيهم (السنكسار)؟!

تتنوع قصص المجموعة وتتباين طرائق السرد بها، على نحو يجعلها تبدو -في الظاهر- كما لو كانت تضرب في اتجاهات شتى، في ما تتفق من ناحية أخرى، على باطن فلسفي واحد، ينتصر لمجتمع ينتمي إلى تلك الكائنات التي تعيش على الأطراف من كل شيء، الكائنات التي لا تلحظها العين، ربما من فرط حضورها.

بوسعنا أن نُجمِّع لوحة القديس الأرضي الذي نثر الكاتب شظاياها في هذه المجموعة لنرى ملامحه، التي سوف تشبه -على الأغلب- وجوه الفيوم، تلك التي ربما جاءت لوحة غلاف الكتاب استلهامًا لها.


كتاب المنسيين، قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) هاني منسي
عاطف عبد العزيز يكتب: سنكسار كتاب المنسيين، قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) لهاني منسي


الملمح الأول لأبطال القصص على مدار المجموعة كان دون شك هو الفقر، فكلهم ينتمون إلى بيئة ريفية فقيرة، يعانون شظف العيش وفقدان الأمل، رغم حصول أغلبهم على قسط من التعليم، لكنه لم يكن ليؤمِّن لهم حياة كريمة، نحن أمام كائنات تتوق إلى الانعتاق من أسر واقع خانق، وتبحث عن أفق فيما وراء القرية، وفيما وراء البحر، إلى حد المخاطرة بالحياة ذاتها، إنهم كائنات لم تعش الطفولة أو الصبا، بل اضطرت إلى الاغتراب والعمل الشاق في سن مبكرة، حتى حينما يكتب لهم الانتقال إلى المدينة، سوف نراهم يأتون حاملين مأساتهم فوق أكتافهم، كي يعيشوا منبوذين على هامشها. 

في قصة كرسي الاعتراف، يأتينا صوت البطل/ قديسنا الأرضي، الذي فقد الفتاة الوحيدة التي أحبها لضيق ذات اليد باحثًا عمن يمكن أن ينصت له، ليقول في فقرة دالة: 
دار أمامي شريط حياة أبي ومعاناته، لحظة مات فقيرًا في مستشفى حكومي، وتركني وأمي نقتات من المعاش، الله يرحمه، كان يبذل ما في وسعه ليجعلني أميرًا، عندما طلبت منه دراجة كبقية أولاد الجيران اشترى لي دراجة مستعملة، لكنها كانت أقوى وأجمل من دراجاتهم، كما كانت لدى أمي القدرة على شراء الملابس المستعملة وتحويلها إلى ملابس جديدة.

الملفت في هذه القصة أن كرسي الاعتراف الذي يسعى إليه بطل القصة لم يكن متاحًا حين أصر الرجل الستيني على الجلوس إلى يسار البطل، فما كان من بطلنا إلا أن أقام داخله كرسيًا للاعتراف، إذ انقسم خطابه فجأة إلى اثنين، أحدهما كان صوت الذات الساردة الساعية إلى الاعتراف والتطهر، أما الآخر فكان صوتًا تحتانيًا يكشف لتلك الذات زيف الحياة التي عاشتها، والتوهمات التي أوصلتها إلى كرسي الاعتراف، جاء ذلك عبر تدخلات ساخرة وناجزة، استخدم الكاتب فيها اللغة الدارجة باعتبارها -من وجهة نظره- لغة السليقة والضمير، والتي سوف نراها تقف في مواجهة الفصحى، بوصفها اللغة العمومية للسرد، دعونا نتأمل بعض هذه التدخلات التي أشرنا إليها، والتي أكسبت النص حيوية ولمعانًا ضافيين، يقول منسي:
تعرفت على طالبة في السنة الأولى من الجامعة، ونمت بيننا (إيه نمت دي، خليها نشأت .. أخف شوية).

هل بان لنا هنا على نحو جلي ما ذهبنا إليه من نزوع الصوت الاعترافي إلى التخفف من الفصاحة، على أية حال دعونا نتأمل المزيد من هذه التدخلات:
كنا نجلس بالساعات أسبوعيًا في دراسة واستذكار الدروس الصعبة بالنسبة لها (إيه ده ، واضح إنها كانت بتستغلني مش بتحبني!!)
لم يشغلني بعد قصة الحب هذه أنها أصبحت معيدة في الجامعة، وتقدم صديق لخطبتها، ووافق عليه أهلها رغمًا عنها (مش متأكد من رغمًا عنها دي، لكن خليها رغمًا مؤثرة أكتر)


كتاب المنسيين، قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) هاني منسي
عاطف عبد العزيز يكتب: سنكسار كتاب المنسيين، قراءة في المجموعة القصصية (سنكسار) لهاني منسي


كثيرًا ما جلسنا على هذه المقاعد نتبادل الكراسي، نهامس الماضي، نداعب المستقبل، نحتفي باللحظة (بس أغلب الكلام كان عن دراستها والنقاط اللي مش فاهماها)
رغم أنها اعتبرت خاتم الفضة -هدية عيد ميلادها الأخير- بمثابة شبكتها (مش فاكر كانت لابسة الخاتم في الفترة الأخيرة ولا لأ) 
 

مرة بعد أخرى، يطلع علينا قديس هاني منسي البائس داخل إهابات شخصيات عديدة على مدى المجموعة بعضها بلا أسماء، والآخر يحمل أسماء، مثل مدحت صحب قصة (Only me)، وكذلك سيد حلمي، وممدوح، وكذلك أسامة كمال، الشاب المكافح بطل قصة (تذكرة غياب)، فها هو أسامة يفتش أمامنا عن الخلود بطريقته، ذلك حين نراه يوقع بالحرفين الأولين من اسمه على الخرسانة قبل تصلدها (o.k)، وكأننا أمام مسيح جديد يحمل صليبه، ويحرص على ترك آثاره ووصاياه لنا على طريق الآلام، الطريق الذي بقي محفوفًا بالأعمال المهنية الشاقة في مجال البناء، يذهب أسامة بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا على ظهر مركب صغير مرشح للغرق، تطول غيبة الابن المهاجر فتطول محنة العائلة وتتعمق تحت وطأة مطالبة المعلم قطب بدفع مديونية الابن الغائب، تنتهي القصة بمشهد مأساوي نرى فيه والد أسامة وولده أمير وهما يقفان داخل مخزن الملابس المستعملة بالجمعية الخيرية، يصف الكاتب هذا المشهد على النحو الآتي:

لم يتبق الكثير في المخزن لكن لحسن الحظ وجد العم كمال ما يناسب ذراعيه القصيرتين نسبيًا، يبدو أنها الملابس الوحيدة المتبقية حيث لم تصادف أجسادًا مناسبة، كما وجد الابن ملابس تناسبه أيضًا حاملة تطريز (o.k) على الجانب الأيسر، 
مات إذن الابن الغائب، كي تكتمل سيرته كما ينبغي أن تكون داخل سنكسار هاني منسي، تمامًا مثل أي مسيح شاء قدره أن يحمل خطايا لا تخصه.

لم يكونا وحدهما -الفقر والعوز- الملمحين الرئيسين لقديس منسي، بل علينا أن نضيف إليهما الهامشية، ثمة تهميش واضح يلاحق أبطال المجموعة على المستويات كافة، فعلى المستوى الجغرافي، هم دائمًا مهاجرون إلى مدن وأمكنة لا تكترث لهم، فنراهم يسكنون أطرافها في تلك الأحياء العشوائية التي تعج بالأحلام المستحيلة.

يلاحق التهميش أبطالنا حتى في المنتديات الأدبية، مثلما يحدث مع الكاتب المغمور سيد حلمي الذي ينكسر خاطره تحت مطرقة عضو اتحاد الكتاب، حينما سيهينه ذات مساء في إحدى الندوات قائلًا:
إنت مين وفين كتبك مين سيد حلمي ده ما دام ما نشرتش حاجة يبقى محدش يعرفك
يأخذ التهميش شكلًا آخر في قصة (لا مؤاخذة)، أجل يأخذ شكل عنصريًا، ذلك حين يلعب اختلاف الدين دوره في تكريس عزلة الأقليات وتهميشها، فنرى مستر سمير المعلم النابه الذي لن تشفع له نباهته وإخلاصه المهني، في قبوله قبولًا حسنًا داخل الجماعة، إذ حالت مسيحيته دون اكتساب ثقة أهالي تلميذاته المسلمات.

وعندما نتأمل ردات أفعال قديسي سنكسارنا هذا، سوف لن نجد ما ينبغى أن نتوقع أو ما ينبغي أن نكون، لا أثر هناك لكراهية أو إبغاضة، لا أثر لحقد طبقي، ثمة سلام مبذول بلا حساب، ثمة استسلام للأقدار، ليس هناك سوى الاحتجاج الصامت الذي يأخذ شكل الغياب عبر سفرة يغلب عليها الهلاك، كما في قصتي (تذكرة غياب) و(أم غايب)، أو يأخذ شكل إغلاق الباب دون العالم الخارجي بعدوانيته كما في قصة (أرق)، أو شكل الصرخة الصامتة كما في قصة (شاهد على قبر فارغ) التي أتتنا سطورها خالية من الكلمات، كي تقول لنا كل ما يجب أن يقال.

تبقى لنا كلمة أخيرة لهاني منسي، فما من شك في حاجته -في قابل الأيام وإلى جوار موهبته- إلى ذهنية أكثر تركيبًا، من أجل حماية تجربته مخافة انتقالها من خانة البساطة الآسرة -التى وفرتها له طزاجة العمل الأول- إلى خانة التبسيط المخل التي هي مقتل الإبداع، وها نحن في انتظار كتابه الجديد. 

القاهرة في يونيو 2023            

Post a Comment

أحدث أقدم