خالتي "مَنْبِية"، قصة: نبيل عمر 



بانوراما أدبية: خالتي "مَنْبِية"، قصة: نبيل عمر-نقدفن كتابة القصة- فنون الكتابة- قصة قصيرة، شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، كتب، كتاب.

خالتي "مَنْبِية"



سألت جدتي في لحظة شقاوة صبيانية: 
- من أين جئتم لخالتي بإسم "مَنْبِية"؟
هشت جدتي ناحيتي بعصىا لا تفارق يدها في روحها ومجيئها: والنبي يا بني ما أعرف.



قصة: نبيل عمر


احترت دوما في تفسير اسم خالتي مَنْبِية، حتى التحقت بالمدرسة الإعدادية وتعلمت البحث في معاجم اللغة عن معاني الكلمات الغامضة، ومَنْبِية من الفعل أنْبِ، فهو مُنبٍ ، والمفعول مُنْبًي، وأَنْبيت الأذي أي دفعته بعيدا، يا الله كيف لفلاحين لم يفتحوا كتابا أن يختاروا لابنتهم إسما فصيحا صعبا!

خالتي مَنْبِية على عكس أسمها، بشوش، متفائلة، خفيفة الروح والحركة، ملامح مصرية قح، اللون الخمري على تقاطيع في غاية البساطة، العيون واسعة مكحلة دائما، والخدود موردة والطرحة السوداء على رأسها، وأنف فرعوني له كبرياء، تمشى كملكة متوجة بين أروقة قريتنا، وبالفعل كانت "حسناء الحي" إذا جاز هذا الوصف على " ريفية" من قرية كفر مناوهلة، لا يمكن أن تكتمل سعادة عروس في فرح إذا لم تحضره "مَنْبِية"، صوتها الرخيم مبهج ورقصها الفلاحي بديع، وتحفظ من الغناء الشعبي الكثير..وكنت أتسلل دوما صبيا صغيرا بين النسوة أجلس على الأرض اتابعها بشغف.

أحبت خالتي وهي في سن المراهقة "عبد الحارث" شابا عايقا من عائلة كبيرة، رفض أهله أن ينصاعوا له وأجبروه علي الزواج من فتاة من عائلة تملك "طينا ورؤوس ماشية" من قرية مناوهلة الملاصقة، وهدده أبوه بالحرمان من الأرث، أرضا ونصيبا في دار كبير مبناة على قريطين ونصف قيراط، بجوار دار العمدة وشيخ الخفر، وبعد سنتين زوجت عائلة أمي خالتى بالإكراه من شاب عنده بضعة قراريط يزرعها في "الوسية" ويسكن في نفس حارتها..

لكن قصة الحب بين خالتي وَعَبَد الحارث رفضت الخضوع للواقع والدفن حية في برج الذكريات البعيدة الشجية، وظلت تتنفس وتنبش وتتقد تحت الرماد، خالتي تفننت في "تنغيص" حياة زوجها، الذي لم يستطع أن يتفهم مشاعرها وكانت في التاسعة عشر من عمرها، وهو يكبرها بسبع سنوات، فعاملها بجليطة وغيرة مجنونة، وضربها أكثر من مرة، وحبسها ذات مرة في الدار أسبوعا وأجلس أمه على بابها حارسا، وبعدها انتهزت فرصة مؤاتية وجرت على بيت العائلة غاضبة، لتعيش مع أمها بعد وفاة أبيها، ولم يكن مر على زواجها سوى ستة أشهر، وفشلت كل محاولات إصلاح ذات البين، من شيخ الجامع على ناصية الشارع، وشيخ الخفر، وخالها محمد عبيد وكان ثريا وله شنة ورنة في الناحية، وظلّت عند أمها لأكثر من عام، وفي النهاية طُلقت منه في تحدٍ بالغ للعادات الحاكمة والتقاليد التي قد لا تراعي قيمة الإنسان بقدر ما تراعي " شكله الاجتماعي".

وبمجرد انتهاء عدتها تقدم لها عبد الحارث واتخذها زوجة ثانية، وقبلت بسعادة غامرة.. كان عبد الحارث قد انتقل للعمل في مدينة شبين الكوم القريبة، وسكن مع زوجته الأولي التي أنجبت له ولدا وبنتين في بيت كبير منفصل من بابه، أما خالتي فقد ظلت في دار أبيها مع أمها ضعيفة البصر، بعد زواج أخواتها الثلاث وانتقالهم إلى مصر المحروسة، يتردد عليها زوجها مرتين أو ثلاث في الأسبوع، وكان قد جدد لها فرش القاعة، بصندوق ملابس عمولة وكنبة اسطمبولي وتنجيد حرير في حرير.
عشت مع خالتي وجدتي في كفر مناوهلة عامين..

كانت خالتي تكبر أمي بخمس سنوات، ولأسباب سحرية خافية، كانت علاقتها بأمى وثيقة متشابكة منذ كانتا طفلتين تلعبان في الجرن القريب عن بقية اخواتهما، الولدين والبنتين..

ولم تكن خالتي مَنْبِية تنجب، بالرغم من المحاولات السرية التي بذلتها بعيدا عن عّم عبد الحارث، فهو لم يسع إلى الإنجاب منها، مكتفيا بالولد والبنتين من زوجته الأولى..فصبت علىَّ كل حنان أمومتها الدفينة، كما لو كنت أبنها البكر، تستجيب لطلباتي حتى لو كان لبن العصفور..

وحين طلب أبي أن اعود إلى بيتنا في شبرا، وكفي دلعا في الأرياف بعيدا عنه وعن أمي وأخوتي، بكت وراحت "تسترجيه" دون جدوى..

خالتي مَنْبِية هي التي اشترت أول مكتب أذاكر عليه بدلا من "الطبلية"، وهي التي أدخلت الكهرباء إلى شقتنا بعد أن نمت على المكتب وكادت لمبة الجاز أن تحرقني والمكان..لم تدخل بيتنا في أي مرة دون "زوادة" فيها ما لذ وطاب من خير الأرياف: بط وأوز وأرز معمر وسمن بلدي وعيش مرحرح وجبنة قديمة معتقة.
لكن كان نفسها دوما أن "تخلف" من عبد الحارث، حتى انتقل عبد الحارث من شبين إلى مقر الشركة بالقاهرة، وسكن مع زوجته الاولى في شارع القضاعي بالقرب من "مطار المنوفية" الذي يعمل فيه..
وقال لخالتي:

- العمر يمضي والسفر من مصر إلى كفر مناوهلة مرتين ثلاثة في الأسبوع صعب، تعالي "عيشى" معنا في شبرا.
سألته: 
- وهل أم العيال تقبل؟
أجاب:
- سوف أقنعها..
وفعلا قبلت أم العيال، فقد بدأت صحتها تعتل ولم تعد قادرة على خدمة أولادها "المدلعين" جدا، وقالت لهم: 
- خادمة في البيت..

لم يمض على وجود مَنْبِية في شقة القضاعي ثلاث سنوات، إلا وحملت وكانت قاربت على الواحد والاربعين سنة أو أزيد قليلا، وأنجبت أول أولادها " صبري" صبيا في جمال البدر، والاسم له دلالة من حياتها، وبعد ثلاث أعوام أنجبت سوسن..فكانت رأسها برأس الزوجة الأولى..

في تلك الفترة لم يكن طلعت أكبر أبناء عبد الحارث قد بلغ الثلاثين، فلم يعد وحيد أبويه، وطلبه الجيش للتجنيد..
كان مهندسا بالمصانع الحربية، شابا عصريا أنيقا يلبس على أحدث موضة، وعاش طفولته منعما، يهوى قراءة مجلة الكواكب الفنية ويحتفظ بأعدادها من منتصف الخمسينيات في مجلدات، كنت استعيرها منه في نهاية الستينيات، فيظل يلاحقني حتى أردها.
 ولم يرد طلعت أن يجند بالجيش، وكان المجندون وقتها يقضون سنوات قبل أن ترد مصر على هزيمتها في يونيو ١٩٦٧، وقهر إسرائيل في أكتوبر ١٩٧٣، فكر في حل أناني جدا، إذ اقنع أمه بالطلاق من ابيه، ليكون هو عائلها الوحيد، فيحصل على شهادة إعفاء موقت سنتين ثلاثة، تتحول إلى إعفاء نهائي بعد بلوغه الثلاثين، ثم يعيدها ابوه إلى عصمته.

وافقت الأم لكنها لم تعد مرة ثانية إلى عصمة عّم عبد الحارث، وعاشت خالتي مَنْبِية في شقة القضاعي "سيدة بيتها" ومعها الزوجة الأولى المطلقة في غرفة مستقلة، ضيفة عزيزة مكرمة لكن لا صوت لها ولا رأي..وحين اقترب عّم عبد الحارث من سن المعاش، انتقل ليعيش في قريته، في بيت العائلة الكبير المبني على قريطين ونصف القيراط، لكن مطلقته رفضت وعادت الى بيت أهلها في مناوهلة..

سألت عّم عبد الحارث:
- لماذا لم ترجع أم طلعت إلى عصمتك؟
رد ضاحكا:
- ما صدقت خلصت منها، كفرتني وكفرت خالتك.. وكان من المستحيل أن أطلقها لولا طلبها. 
عاشت خالتي مع عبد الحارث سنوات في كفرمناوهلة وولديها، ودخل صبري سن المراهقة، حين مرض عبد الحارث واُحتجز في مستشفي شبين العام، وحين زرته وجدت عيني خالتي حمراوين يطق منهما الدم، وارتمت في أحضاني باكية:
- الدكاترة قالوا خلاص.
ولم أرها مبتسمة حتى لحقت به بعد عامين.




Post a Comment

أحدث أقدم