صورةٌ حديثةٌ لبريهان
قصة من مجموعة قصصية "الأميرة والرجل من العامة"
دار النسيم للنشر والتوزيع 2020
صورةٌ حديثةٌ لبريهان،قصة من مجموعة قصصية "الأميرة والرجل من العامة" |
محمد إبراهيم طه
في اتصالها الأول قالت إنها بريهان؛ من طرف "ملاك منسي"؛ وفي اتصالها الذي لم أرد عليه ولم أكن أعرف أنه الأخير قالت بصوت حزين ومحبط: "بريهان". بريهان فقط، كتوقيع صوتي في نهاية رسالة مسجلة. الصوت الأول الذي لم أكن قد انتبهت بعد إلى أنه ينطوي على ثقة ورقّة وثبات جعلني أرد بآلية: أفندم؟، "أفندم" مقتضبة ورسمية كأنها من "خدمة العملاء"، "أفندم" لا تلائم مرونة الاسم، ولا حروف "ملاك منسي" الممدودة إلى أقصاها، "أفندم" تقول بلا مواربة: اختصري، حتى أنها صمتت للحظة، وعرضت معتذرة أن تتصل في وقت آخر لو أن الوقت غير مناسب، فقلت بإيقاع أهدأ: "لا.. أبدا.. اتفضلي"، وكنت قد تذكرت في فترة الصمت أنني قابلت الشخص الذي هي من طرفه صدفة فأوصلته إلى مكان قريب. منظره وهو يفتح الباب ويعرفني بنفسه ويجلس بجواري يشير إلى أصول شامية، مفرداته فصيحة ومنتظمة ومتسلسلة، ولاح لي وهي تعتذر أنني سمعت من قبل مثل هذه النبرة التي تنطوي دائما على اعتذار مسبق عن إضاعة وقتك، وأن "بريهان" اسم مكتمل، كأنه جملة مفيدة، حتى قبل أن تخبرني أنه يعني "الأميرة الملاك" بالفارسية، وكنت قد لاحظت من قبل أن "ملاك منسي" اسم مكتف بذاته، كأنه على صلة بالكتابة أو النضال السياسي، أو كأنني قرأت اسمه في ندوة ثقافية، وحين سألته عن طبيعة عمله، ذكر مجالا بعيدا، فقلت: "غريبة.. مع إن الاسم وحده يليق بواضع قواميس أو روائي، فهز رأسه بالنفي قائلا إن "بريهان" هي التي لها في هذا المجال. بريهان فحسب، كأنني أعرف بشكل مسبق من تكون، وطلب رقمي ما لم يكن في الأمر تطفلا، فأمليته له دفعة واحدة، وبينما هو في منتصفه فوجئ باقتراب بوابة 12، فأشار إليها قائلا "أشكرك" مركزا على الحروف، ومعبرا عن امتنانه بهذا اللقاء القصير جدا ورفع يديه بالتحية مشيرا إلى أننا سنلتقي لابد، أو على الأقل سنتواصل، ولم يكن قد أتم تسجيل الرقم، فشككت في الأمر خاصة حين بالغ في الضغط على حروف كلمة أشكرك، وأشار بالسبابة إلى الهاتف، وبالفعل لم يحدث أن اتصل.
مع تليفون بريهان لاح لي مشهد ملاك كاملا، وحز في نفسي أنني أسأتُ الظن به، سألتها عنه، فقالت: "الحمد لله .. أحسن دلوقت" ففهمت أنها ربما تتحدث عن وعكة أصابته، وحدث صمت، اعتذرتْ بعده أنها عرفت من ملاك أنني صديقه وأنني كاتب، قلت: "مش قوي!"، فاستسمحتني ـ إن لم أكن مشغولا ـ أن تسمعني مقطعا من قصيدة، فقلت " بكل سرور"، قلتها بأريحية، لأنني كنت أريد أن أتعرف على مستواها، كما كنت أريد أن أعرف المزيد عن ذلك الرجل الذي لمحته يسير في طريق طويلة دون أن يتلفت كل فترة إلى سيارة آتية، ولما توقفتُ إلى جواره، قال وهو يبتسم بأدب إنه لا يريد أن يعطلني. أومأتُ إليه، فامتدت يده إلى مقبض الباب، وكشفت ملامحه عن سن أكبر مما توقعت خاصة حين شكرني وهو يغلق الباب معتذرا عن أنه تسبب في عطلتي، ولما سألته إلى أين؟، قال بهدوء: "أي مكان قريب"، وهو الموضع الذي أخذنا الكلام فلم ينتبه إلى اقترابه إلا وهو يسجل رقم هاتفي.
المقطع الذي سمعته كان أقرب إلى القصة منه إلى القصيدة، فاقترحتٌ أن تزودني بنماذج أخرى على "الواتس" على أن أخبرها برأيي كاملا بعد أسبوع، فشكرتني بشدة، لكن الهاتف رن في نفس الليلة، وحين تعرفت إلى الصوت بادرتها بالقول إن "الحاجة وصلت.. شكرا"، فأوشكت المكالمة أن تنتهي قبل أن تبدأ، لولا أنها شكرتني وقالت إنها كانت تريد التأكد فقط من أنها وصلت، وأكملت معتذرة إنها تعرف أن موعدنا بعد أسبوع، لكنها فرحة لأنها تتحدث إلى روائي له كتب وحاصل على جوائز، فعرفت أنها دخلتْ على محرك جوجول، فقطعتُ استرسالها وأجملتُ لها رأيي بإيجاز قائلا إن ما أرسلتْهُ واعدٌ؛ قصص قصيرة مكتملة الأركان، لا ينقصها سوى بعض الرتوش، وأعطيتُ أمثلة، فتهدج صوتها من الفرح وسألتني بإلحاح: "يعني مسيبش الكتابة؟" قلت: "هل قلت ذلك؟" فاعتذرت عن ارتباكها لأن كاتبا نصحها بالابتعاد عن الكتابة والبقاء في الرسم، وفنانا تشكيليا نصحها بالإقلاع عن التصوير والبقاء في الكتابة، ففهمتُ أن البورتريهات المرفقة مع النصوص لها، فأخبرتها أن كلامي واضح، خاصة لو اعتنت بالتفاصيل الصغيرة، فبدت ممتنة، ومتعجلة، تتزاحم الكلمات على شفتيها كأنما لتقول أكبر قدر من الكلام في أضيق وقت، فتناثرت في خطابها الفصيح والمرتب تعبيرات أجنبية لا تشي باستعراض بقدر ما تشير إلى طبقة اجتماعية ومستوى معين من التعليم، سألتُها إن كانت تعمل، فقالت: مهندسة، فأثنيت على المستوى الناضج الذي يعد بتقدم مذهل لا سيما مع وجود هذه الخلفية الفنية، وأشرت إلى أدباء يمكن أن تُحمِّل كتبهم من الشبكة العنكبوتية، وندوات أدبية للتردد عليها في وسط البلد اختصارا للطريق، وحين لمحتْ في نبرتي رغبة في الإنهاء، عبَّرتْ مجددا عن أسفها أنها عطلتني، ووعدت بالشروع فورا في تنفيذ ما أوصيت به، إلى أن نتناقش في الموعد الذي حددتُهُ، ولم نتطرق في مكالمة امتدت لخمس وأربعين دقيقة إلى رجل كان سائرا للأمام في طريق طويلة، تمرق بجواره السيارات المسرعة دون أن ينتظر أيا منها، الرجل الذي لاح لي أنه غير قابل للمرض، وزنه لا يتجاوز الخمسين كيلو، رشيق، ذاكرته حادة، أسنانه بيضاء ومكتملة، يؤكد على أننا سنتواصل دون أن أعرف من أين يأتي بهذه الثقة رجل في الخامسة والسبعين ضبطتُ نفسي مفتونا بشخصه، خاصة عنايته بتلميع الحذاء والجورب النظيف.
صورةٌ حديثةٌ لبريهان،قصة من مجموعة قصصية "الأميرة والرجل من العامة" |
لا أذكر أنني طلبتُها، هي التي تتصل دائما، وحين أرسلتْ مع النص صورة لها بصحبة ابنتها، علقتُ على النَّص، وتركتُ الصورة حتى سألتني إن كنت رأيتها، فأجبتُ بأن البنت أقرب إلى قطة صغيرة منها إلى طفلة، بريئة كقطعة من خير خالص لا شية فيها، وأحجمت عن الكلام عن الأم التي كانت مكتملة الأنوثة وهي تحيط الطفلة بابتسامة وجلة وذراعين نحيفتين لا تتناسبان مع صدرها الكبير، ودرجة من الخجل تدفعها لعدم التحديق في الكاميرا، البلوزة تميل إلى الفوشيا، خفيفة، بكم لا يصل إلى معصم تشير سبابته إلى الكاميرا، والبنطلون جينز على حذاء رياضي غالبا وردي، والشعر حول الرقبة أسود، ونظرتها إلى الكاميرا من تحت لتحت، إما للشمس الساطعة، أو لخجلها من أنوثة مفرطة حاولت التخفيف من بذخها بالانحناء أكثر مما يجب على الطفلة والإيعاز إليها بأن ترفع عينيها نحو الكاميرا، كانت في الصورة تتجاوز الثلاثين بقليل، وهو العمر الذي قدَّرتُه تقريبا من عام التخرج الذي سألتها عنه، كما يتناسب عمر الطفلة الصغيرة مع زيجة قصيرة فاشلة، ثم نصحتها بكتابة قصة عن امرأة وطفلة تعيشان وحيدتين بلا رجل على ألا تهمل المفارقة بين وعي الطفلة ووعي الأم فقالت إنها ليس لديها بنات، كما أنها لم ترزق بطفل، سألتها متشككا: "والطفلة؟"، فضحكت وقالت: "هذه أنا.. عندما كنت في الرابعة" فاعتراني ذهول لأنني لم أنتبه إلى أن الصورة قديمة نسبيا، حتى بعد أن كتبت القصة كما رأيتها، وامتد النص إلى تسعة نصوص من وحي ملاحظاتي، غطت قصتها من الزواج إلى الانفصال، فيما كنت أسعى إلى معرفة أين يكمن الخطأ في العلاقة بين صيدلي بشركة استثمارية، ومهندسة نظيفة وجميلة لكي تنتهي بالانفصال، وتمنيت لو ترسل صورة حديثة للأم التي في الصورة، لكنني فهمت أنها ماتت بعد التقاط الصورة بعام، وأنها آخر صورة جمعتهما.
"اليوم اكتملت القصة.. بريهان" في اتصالها الأخير كان هاتفي خارج الخدمة، والرسالة الصوتية مختزلة، لا يمكن فهم جوهرها، ولم يكن بوسعي أن أسأل ـ والرسالة صوتية ـ إن كانت تعني أنها تعرضت لمكروه، أم أنها أنجزت قصتها الأخيرة؟ انقطاعها عن الاتصال جعلني أظن أول الأمر أنها لعبة، التظاهر بالغياب لجذب الانتباه، لكنني بعد أسبوع من التحديق في شاشة الهاتف، بادرتُ بالاتصال، فوجدته مغلق بشكل دائم، ولا يوجد على حساب "الواتس" رسائل حديثة، فانتابني الفزع، وأعدت الاستماع إلى نص الرسالة عشرات المرات، وكان صوتها يأتي في كل مرة حزينا ومقبضا ومختصرا لا يتناسب مع فرح كاتبة بالانتهاء من قصة حتى ولو كانت المتممة لمجموعة، إذ يخيل إليّ أنها تدمع، أعيد الاستماع فأجد صوتا كأنه نشيج وأنفاس خارجة من صدر مضغوط، خاصة مع التوقيع الصوتي المختزل، تلك المجموعة التي كنت أريد أن تضع لها عنوانا "صورة حديثة لبريهان" فيما يوشك الجنون أن يصيبني كلما جال بخاطري أن مكروها أصابها هكذا دون أن أتوقع حتى حدوثه.
لا أذكر على وجه التحديد متى اختفت من ردودي كلمة "أفندم؟" التي تبتر المكالمة قبل أن تبدأ، ولا متى تلاشى ضجري من اتصالاتها المتكررة، ولا متى صرت أنتظر بشغف أن يضيء اسمها شاشة الهاتف؟ ربما منذ تحسنت في الكتابة بشكل مذهل وغلبت على قصصها مسحة من الأسى الشفيف، وأوشكت أن تنجز مجموعة قصصية يغلب على أجوائها الشعور بالوحدة، والاستئناس بصوت رجل عبر التليفون حتى لو وصل فارق السن بينهما إلى عشرين عاما، وهو ما دفعني إلى عدم التورط في أي وعد، وإبقاء العلاقة في إطار لا تغادره؛ الإدلاء بالرأي على المستوى الفني، والنصائح التي قد تمتد بحكم السن والخبرة إلى الحياة بوجه عام، مع التأكيد في كل مرة على أنها غير ملزمة، ولها حرية الاختيار في النهاية، خاصة بعد أن صارت مكالماتها معتادة، وشبه يومية، وكلامها منتظما، وتحسنت في الكتابة، وتغلب "الفوشيا" على باقي الألوان في لوحاتها، ولم تعد تتعثر ومن ثم لا تعتذر في بداية المكالمة، بل تدخل في الموضوع وتخبر عن أشياء وتفصيلات صغيرة في أحاديث تطرقت إلى كل شيء، حتى النكتة صارت مادة لها موضعها في مكالماتنا اليومية، حتى عرفتها من الداخل، وحين سألتني في قصتها الأخيرة هل يكون مقبولا ـ والمدينة التي يعيش فيها البطلان واحدة ـ أن يلتقيا في مكان عام، مول أو متجر أو مقهى ثم يرتطما دون أن يعرف أحدهما أنه ارتطم بالآخر؟ فقلت على مستوى الواقع يمكن، لكن على المستوى الفني، يجب أن يشعر كل منهما فيما يشبه الحدس أنهما ارتطما بالآخر، والأفضل أن يشعر أحدهما أنه سيرتطم بالآخر عما قريب.
متى اهتديت إلى هذه الفكرة واكتشفت أنه من العبث أن يخبرني ملاك ابن الخامسة والسبعين من تكون بريهان مهما انتظرته في الطريق الطويلة قبيل الغروب بحذاء نظيف وقميص نصف كم على بنطلون صوف، وحزام محكم، لأن الرجل المسن في قصة "البوابة الأخيرة" والذي كان في مقام جدها لأم، دخل إلى "رعاية الحالات الحرجة" ثم خرج منها بكل بساطة، لكن على ظهره؟ متى اهتديت إلى الفكرة وتليفونها مغلق دائما، فصرت أتجول في نادي المدينة، وأتفقد المولات والمطاعم والكافيهات محدقا في وجوه نساء تجاوزن الثلاثين بقليل، وحيدات، بشعور ناعمة جدا لا تحتاج إلى وقت لتسريحها، بيض لا يضعن كريمات مفتحة للبشرة، يفضلن القهوة ولا يأتي الشاي على بالهن إلا مرة واحدة كل عام، يفرغن في خمس دقائق من أي وجبة حتى لو كانت رئيسية، تغلب الفوشيا على ملابسهن القطنية مقاس "L" ، قد وقد لا تتدلى صلبان ذهبية على صدورهن الكبيرة نسبيا، على بناطيل جينز محكمة على أحذية جلدية مقاس 37، أو38 في الأحذية الرياضية، غارقات في التأمل والرصد بعد أن ملن إلى السرد وانصرفن عن كتابة ما كن يعتقدن أنه شعر، أبحث بدأب عنهن، وأفتعل الارتطام بهن لعل واحدة تنتبه في نفس الوقت، ثم تلتفت فيتواكب اعتذارنا في نفس اللحظة التي يكتشف فيها كل منا أنه يقف وجها لوجه أمام الآخر.
إرسال تعليق