بائعة الأزهار التى تعرف الحقيقة
أسامة علام
قصة قصيرة: بائعة الأزهار التى تعرف الحقيقة. أسامة علام |
قصة قصيرة
ورغم السنين الطوال التى لم أرى فيها ايزابيل. ورغم وزنها الذى زاد أكثر من ثلاثين كيلو جرام لم يكن من الممكن ابدا الخطأ فى معرفتها. كنت أقف من ساعة فى طابور يتحرك بسرعة السلحفاة للدخول الى برج ايفيل فى ليلة سبت بجو باريسى رائع. وفجأة وقع نظرى على ايزابيل تتحرك ببطئ بين السائحين حاملة ورود شبه ذايلة. تبيع الوردة بيورو واحد. وعلى وجهها ابتسامة حزينة تكمل المشهد الاسطورى لعودة ايزابيل فى حياتى.
تقابلت عيوننا. أعتقد أنها تعرفت على أيضا. فكرت فى الذهاب اليها وتقديم نفسى لها. لكنى ادركت أن ظهورى الآن سيكون مؤلما جدا. لسيدة كانت أيقونة الجمال والرقة والطاقة يوما ما. فقررت أن أتابعها من على بعد متعجبا مما تفعله بنا الحياة.
دقائق واختفت ايزابيل من المكان. لا أعرف لماذا جعلنى اختفاتئها أشعر بالتوتر فجأة. وكأننى فقدت شيئا هاما ونادرا. وبدون تفكير خرجت من الطابور الذى حبست نفسى فيه لساعة. وبدأت فى الجرى باحثا عن ايزابيل دى جردان. لم تكن بعدت كثيرا بسبب حركتها البطيئة بفعل وزنها الزائد وطريقتها فى التأمل أثناء المشى.
حافظت على مسافة مناسبة بيننا تسمح لى بتتبعها دون أن تدرك وجودى. ومن شارع الى شارع كانت ايزابيل تمشى تغنى وتصفر لنفسها ألحان فرنسية بصوت رائق وفرح. وأمام أحد فاترينات الملابس الباريسية الغالية جدا وقفت. كانت تنظر لانعكاس صورتها فى الفاترينة الزجاجية وتبتسم ابتسامة فرح حقيقية تختلف تماما عن ابتسامتها الحزينة وهى تبيع الورود للسائحين. ألقت بما تبقى فى يدها من ورود شبه ذابلة فى صندوق القمامة الأقرب. وعادت للوقوف أمام الفاترينة. وبحركة مسرحية أمسكت بيديها طرفى فستانها البسيط وحيت نفسها. وبعد ضحكة مجلجلة أرسلت لصورتها قبلة فى الهواء.
أكملت ايزابيل تسكعها فى الليل الباريسى ذو الطقس الرائع. وأكملت انا تتبعى لايزابيل التى جعلتنى فى حالة كاملة من الدهشة. وأمام محل كبير للزهور ذهبت الى الصندوق الكبير المتروك فى الخارج والذى يتم ارسال الأزهار الشبه ذابلة اليه انتظارا الى عربة القمامة فى الغد. اختارت أفضل مافيه من أزهار. نسقتها فى باقة بديعة. وبدلا من أن تكمل طريقها وقفت قليلا. فوقفت أنا أيضا على البعد.
دقائق وكانت ايزابيل دى جردان تقف أمامى مباشرة.
أسامة على ما أتذكر. اسمك أسامة. قابلتك من سنوات طويلة فى مونتريال. سعيدة بأننى أراك مجددا فى مدينتى الجديدة. ما رأيك أن تقبل هديتى البسيطة وتعزمنى على العشاء فى مطعم صغير أكله ممتاز وغير مكلف. لا تنزعج لأن الورود أتية من صندوق الأزهار التالفة. الفرنسيون الأغنياء حمقى جدا ولا يشترون الا الأزهار المقطوفة فى الصباح. شعب مدلل للغاية هؤلاء الفرنسين.
على طاولة العشاء كانت ايزابيل تأكل بشهية رائعة ولا تكف عن الضحك. بينما أنا لا أتوقف عن الكلام عن نفسى. أحكى لها عن رحلة نجاحى فى كندا. عن الأيام الصعبة الشاقة التى دفعتها كثمن مستحق. عن أحلامى التى تحتاج الى أيام أكثر شقاءا وتعبا كى تتحقق. وعندما انتهيت من كلامى كانت قد انهت ايزابيل وجبتها كاملة وبدأت فى لعق أصابعها. فذكرتنى بسيدة قريبة جدا من قلبى فى بلادى. كانت تلعق أصابعها بعد الأكل كعلامة كاملة من الرضا.
صمتت ايزابيل وصمت. كانت تعرف أنه دورها لتحكى لى حكايتها وما حدث لها خلال عشر سنوات جعلتها امرأة أخرى. وبعد صمت طال مدت قدميها فرأيت حذائها البسيط القديم. وتكلمت أخيرا.
أتعرف يا أسامة. أنت كما قيمتك أول مرة رأيتك فيها. شخص طيب وطموح وغبى قليلا. لقد كنت أحصل على الكثير من الأموال فى مونتريال. كنت نحيفة وأتمتع بصحة ممتازة. أزور طبيبى كل عدة شهور كى أعيش كأيقونة من الجمال. لكنى كنت حزينة جدا. كنت أعذب روحى كشخص يتعمد البعد عن السعادة. الآن أنا أكل كثيرا، أمشى كثيرا، أغنى، أنام فى حجرة صغيرة جدا. لكنى سعيدة.
تستطيع بالطبع أن تكمل حياتك بالطريقة التى تعجبك. لكن فى اللحظة التى ستغمض فيها عيونك للمرة الأخيرة ستكتشف أنك ربما لم تعرف معنى الحياة.
وقفت ايزابيل دى جاردان أمامى بجسدها الضخم وابتسمت لى قائلة: سعيدة بأننى رأيتك رغم أنك ذكرتنى بأيام لا أحبها. سأخذ باقة الأزهار. شخص مثلك سيلقيها فى أول صندوق قمامة. لأنه لا يستطيع فهم أن الحياة لا تستحق كل هذا العناء. شكرا على العشاء. ومن فضلك لا تتبعنى مجددا.
أسامة علام
نيوجيرسى
22 مايو 2021
إرسال تعليق