قفلة دومينو
قصة قصيرة
علي حسن
قفلة دومينو، قصة قصيرة، علي حسن |
الوحدة؛ إزهاق للروح، يتجدد مع عقارب الساعة! ليس لي سواه، هو القادر على إحياء ما مات فيَّ. توجهت إليه مباشرة، وجدته جالسًا على كرسيٍّ من الخيزران، ينتف شعر صدره، عادته القديمة، يتغلب بها على عزلتِه وسأمه!
قمصانه ذات الألوان المبهجة، لا يثبت أزرارها العلوية، ترى من خلالها، سلسلة فضية ومفتاح الحياة، شعر صدره الأبيض، فالنَّته الچيل، أطفأ بياضها الناصع، عبث أنامله وجلوسه الدائم خارج المحل.
من دكانه؛ يتابع النساء الجميلات، يبدي إعجابه بثيابهن، رشاقتهن، جمال عيونهن، بشرتهن الحليب!
ثناؤه الساحر يسعدهن، كهولته المتزنة تشعرهن بالأمان، بعضهن يشعرن بالخجل عندما يفرط في المديح والغزل.
وقفت بين يديه، لفت انتباهي تَغيُر نشاط المحل، صار مركزًا لصيانة المحمول! اختفى المكتب، التلفاز الصغير الذي يعمل ببطارية سيارة، أين التليفون الأسود العتيق، ذو القرص، المتصل مباشرة بالبيت؟
تغير كل شيء، يافطة المحل الخشبية، أصبحت شاشة إليكترونية!
مقعد جديد؛ جلستُ مضطربًا، غابت عني الكلمات، سألني: "مالك؟ خير؟".
أجبت بسؤالٍ: "إيه رأيك نطلع إسكندرية دلوقت؟"
نهض ممسكًا يدي؛ توجه نحو سيارتي، فتح الباب، قائلًا في هدوء: "سوق". استدار متجهًا إلى الناحية الأخرى.
وضعت مفتاح السيارة، مترددًا أدرت المحرك، كان قد جلس، أنزل زجاج نافذته، مد يده -كعادته- خارج السيارة، نظر إليَّ محفزًا: "دوس.. اتوكل على الله"
سألته متعجبًا: "طب نقفل المحل؟"
رد: "لو غبت ألف حد ح ينَزِّل الباب الصاج"
انطلقنا نحو الإسكندرية؛ الطريق الزراعي هادئ على غير عادته، سيارات النقل تسير على الجانب الأيمن، دخلنا شارع "٤٥" من الطريق الدولي، طلب الذهاب مباشرة إلى "بير مسعود"، اتفاق في الرغبات مذهل! ترجلنا إلى البئر، أخرج من جيبه عدة جنيهات، وضع نصفها تقريبًا في يدي، تمنى لكل فرد من العائلة أمنية سعيدة، مع كل أمنية، يلقي في جوف البئر جنيهًا فضيًا!
قلدته؛ أؤمن أن دعواته، أشد إخلاصًا والأقرب قبولًا!
مشينا قليلًا؛ توقفنا عند ناصية شارع "خالد بن الوليد"، يحب تناول "الكشري" عند هذا المحل الشهير، حين يفرغ من الطعام، يخرج قاصدًا دكان الآيس كريم المجاور، طلبتُ اثنين أيس كريم "فانيليا ومستكة" ثم تابعنا المسير. كان صامتًا؛ وجوده كافٍ، يبعث في قلبي السعادة، يشعرني أن والدي لم يمُتْ، صديق نادر الوفاء، يفهم نـظرات عينيَّ، يكبرني بعشرين عامًا، لكنه يفوقني شبابًا وإقبالًا على الحياة!
عدنا إلى السيارة، انطلقنا إلى دكان، يقدم مشروب "الخروب" الذي يفضله.
فعلت كما كان يفعل دائمًا؛ أفرغتُ كل قنينات المياه الموجودة في السيارة، حملتها إلى "سامي" صاحب المحل، ليصُبَّ داخلها الخروب البارد.
قبل أن تتحرك السيارة، كان قد شرب زجاجة كاملة، مسح فمه بكف يده قائلًا: "خروب سامي" مفيش أحلى منه!".
سعادته تبهجني؛ فتشت في ذاكرتي، عن الأشياء التي ترضيه، يحرصُ عند عودته من الإسكندرية، على شراء "الهريسة والبسبوسة".
رجعت إلى الكورنيش، دون استئذانه؛ لم أعتده مستسلمًا هكذا! ينصت إلى أغنية "الربيع" في نشوة، منذ بدأت رحلتنا، صوت "فريد الأطرش" يملأ قلبينا شجنًا صافيًا، تقاسيمه على العود، جعلته يداعب النسيم بيده، تناغَمَ مع الألحان كأنه مايسترو موهوب!
بعد طول صمت؛ أشار إلى فتاة تتهادى أمام الفتارين: "البنت دي حلوة، وهي عارفه إنها حلوة، الكعب العالي مديها أنوثة زيادة!"
منحته ابتسامة صافية؛ استشعر الحياء الذي لونها، فمحاه قائلًا: "الله جميل يحب الجمال".
وضعت علب "البسبوسة والهريسة" على الكنبة الخلفية، أغلقت السيارة، مشينا سويًا، شابكًا ساعدي في ذراعه، حتى بلغنا المقهى الذي يدمن زيارته، كلما حضر إلى الإسكندرية.
على مائدته المفضلة، سحبت له مقعدًا مريحًا، استقبل عليه نسيم البحر، نسائمه عطرة ومنعشة هذا المساء!
طلبت من النادل إحضار "الدومينو" مع قهوتي السادة، طلبت مشروب "السَكَالانسْ" له، مزيج من "القهوة والشاي" يشربه عندما يشعر بالنعاس، كما يفعل سائقو الشاحنات أثناء أسفارهم الطويلة ليلًا.
جاء النادل؛ قدم الأشربة، وعلبة "الدومينو" على المنضدة.
أفرغت "الدومينو" على الطاولة، فسمعته يقول: "اقلبْ الورق واستعد تنغلب عشرة".
فاز مرتين؛ لم يبق في "العشرة" غير دورة واحدة، قلت له:
- كفاية كده عليك.. استعد للهزيمة!
- وريني ح تغِلبْ إزاي؟ أنا كمان نفسي أفَرحَك!
- فرحان.. طول ما أنت معايا.
- طب العب؛ ما تاكُلشْ بعقلي حلاوة.
- اسحب..
- اسحب إنت..
- كده قَفَلتْ دومينو!
- قوم حاسب ع المشاريب!
كأن النادل سَمِعه؛ جاء يهمس بكلمات لم أفهم فحواها!
الآن؛ تغمر جسدي قشعريرة لذيذة، مهزوم تدغدغني نشوة الانتصار! عبير البحر يبعث الروح في الذكريات، كم تمنيتُ هذا اللقاء منذ سنوات!
كرر النادل: حضرتك تشرب حاجة تاني؟
سألته: حسابك كام؟
- واحد قهوة بعشرة جني.
لم أصدقه؛ رمقتهُ بوجه قاتم، أعدت عليه السؤال في ريبة: "حسابنا كله كام؟"
أخذ يلتقطُ قطع الدومينو، يضعها في الصندوق، مرددًا دون اكتراثٍ:
واحد.. قهوة.. بـعشرة.. جِني.. شرفتنا يا باشا.
إرسال تعليق