فيلم الكلمات ..the words
نقد فني
حسناء رجب
مثل " الدمية الروسية " ماترويشكا..يروى هذا الفيلم قصة داخل قصة داخل قصة أخرى ، بل ستظل الصورة تتغير ، وكلما جاءت ستارة جديدة تعترضها ستارة أخرى لا تستطيع أن تقبلها تماما كما تعرض لك ..إن الفيلم " عن طبيعة الإلهام الإبداعى ، عن النزاهة " وعن الواقعية ( التسجيل المتقن والمفصل للحقيقة ) وهو ما وجدنا صداها فى نهاية الفيلم وهى أسئلة طرحتها شابة على رواى ومؤلف الرواية الأخيرة " الكلمات " الفتاة الشابة التى تتحرى وتدقق وتتساءل وتتشكك وتعبر عن رغبة عميقة فى الفهم ، وهل هذه سيرته الذاتية ، هل حقا من الواقع ، وهل لدى الكاتب سر ، أسئلة أسئلة ..لا يجيب عليها الكاتب ..لكن لنتحدث عن الورطة التى وقع فيها " رورى " برادلي كوبر : مؤلف مكافح بجد الذى يشعر أن الكتابة تمثل أهم ما فى حياته ، وهو إحساس ممتزج بالتوتر ، أو السعادة المتوترة فى الرغبة فى التعبير عن الذات ، الرغبة فى التحدى ، الشعور بالالتزام تجاه المجتمع ، هذه الدوافع متعلقة عموما بعملية الإبداع ، كتابات " رورى " ينقصها شيء ، ينقصها الحرارة ، ينقصها مثلا - الشهوة الحادة التى لا تقل عن شهوة الجائع للطعام ، أو المتعب للنوم " أنا أسميها، شهوة الإبداع ، هذا الدافع الذى يدفع هذا الشاب للشعور بالإحباط واليأس ، هو يكتب بلا شك ، ولكن دور النشر لا تجد فى كتاباته السوق التجارى الرائج المطلوب .. وهى لعنة تلازم الكتاب فى السوق إلى يومنا هذا .. فما وجد نفسه إلا أن يشغل وظيفة فى دار نشر لتغطية نفقاته .. يقضى أجازة فى باريس " شهر عسل " مع زوجته دورا ، لتشترى له حقيبة جلدية عتيقة رائعة ، ليكتشف فيما بعد مخطوطة لرواية مدسوسة فى جيب سرى داخل الحقيبة .. ياله من حظ لا يصدق حرفيا ! يقرأها فى نفس واحد ، يرتعش مثلما ترتعش الإبرة المغناطيسية فى مكانها لأن هذه الرواية التى قرأها فى اللحظة والتو ، هى الرواية التى كان يحلم بها أن يكتبها ..رواية غير موقعه ، مخطوطة كتبت على آلة كاتبة وورق أصفر قديم .." دموع النافذة " هذا اسم الرواية ..
مشاعر رورى فى هذه اللحظة كانت عميقة متضاربة،
ودون وعى منه ، أراد أن يعيد كتابة الرواية ليشعر بملمس الكلمات ، حتى أنه كان يقارن بصمته ببصمة الكاتب ..فى سكون الليل وفى تلك الساعة ، يكون الصمت خطيرا جدا ، وربما يتيح للروح الناعمة أن تفتح كل أبوابها دون تمكين ..ويعلم كل كاتب أن لهذا الوقت جاذبيته وسحره .. فكان رورى يكتب الجملة وراء الجملة الاقتباس وراء الاقتباس ..حتى جرب شعور أن يصل إلى النهاية ..أن يضع نقطة . رواية سرعان ما حققت له النجومية الأدبية الفائقة .
إن تلك اللحظة ربما تذكرنى بسقوط آدم .. الذى قطف من ثمار شجرة المعرفة ..سرقة لم تغتفر ..
شعر بالطبع بتأنيب الذات والضمير وشعر أيضا بروعة وجمال الرواية وكاد يوشك أن يتكلم وهو يتلعثم لكن زوجته أوقفته بأنها شعرت فى كتابته هذه بأنها أخيرا دبت فيها الروح .. لم يقل شيئا فقد انتهى وقت الكلام . الرواية التى نسبها لنفسه عن قصة جندى من الحرب العالمية الثانية يقع فى حب إمرأة فرنسية فتن بها ..فتحدث لهما مأساة تقلب موازين هذا الحب، روايته التى كانت عن الحرب والسعادة والموت ..كتبها هذا الجندى فى اسبوعين مصحوبة بالانتباه والتيقظ الشديدين .. كل شيء حى حاضر فى ذهنه . لتضيع الرواية التى اعتبرها مشروع عمره وربما صلحه هو وحبيته الفرنسية على المأساة التى تعرضا سويا لها وهى موت طفلتهما ..
رجل عجوز يظهر فى حياة المؤلف المحتال ، لنقل محتال مؤقتا .. وهو " جيريمى آيرونز" الفنان الذى يقوم بالأدوار الصعبه ..يراقب نجاح رورى من مسافة قريبة ويجلس على مقعد فى سنترال بارك بجانبه ، يطلب منه قلما ليوقع له على روايته ، ويتهكم على رورى أنه لا يحمل قلما وهو الكاتب العبقرى .. ( ومن يومها يا أصدقائى ومنذ زمن وأنا أحمل فى حقيبتى قلما واثنين ) !! يشعر رورى بالخجل بعد مواجهة الرجل العجوز صاحب الرواية ورفضه أخذ حقه منه ماديا أو معنويا.. كان يريد أن يعترف للجميع بالقصة الحقيقية وأنه محتال سارق ، اعترف لصاحب دار النشر واعترف لحبيبته .. كما أن صاحب الرواية رفض منه كل الخيارات قائلا وهى " ثيمة الفيلم " نحن جميعا نتخذ خيارات صعبة فى الحياة والجزء الأصعب هو العيش مع هذه الخيارات " أى أن خياره سيتبعه فى كل مكان ، وها هو لديه الآن لديه قصة جديدة ليكتبها ..
الرجل العجوز وما توحى كلماته : أنه أختار روايته وفقد حبيبته الفرنسية ، اختار الكلمات وتأثيرها عليه وخسر حب حياته .. وماذا لو رجع به الزمن ؟!
يأتى الجزء الأخير..والرواية الأخيرة لكاتب كبير مشهور ( كلاى هاموند ) يتطلع إليه القراء المعجبين فى انبهار ، يتلو عليهم صفحات من كتابه الجديد فى حفل كبير وتتعلق الرواية بمؤلف مكافح " رورى " والرجل العجوز " جيريمى " وهكذا يقص علينا الروايتين ..
تتساءل شابة فضوليه ذكية فى بدايات الطريق
..إن كانت هذه سيرته الذاتية ؟! ، إن كان هو هذا الشاب الطموح المحتال الذى اشتهر بعد ذلك؟! ..فإنها تستشعر أن رواية " الكلمات " هى رواية حقيقية وليست من محض خيال المؤلف .. لكن المؤلف لا يجيب ، الفيلم لا يجيب عن هذا السؤال ..لأنه فى الحقيقة ثمة خيطا رفيعا بين الواقع والخيال ، وكل كاتب يعلم أن الرواية مهما كانت ليست استبصارا للواقع ..والخيال قد لا يكون فى الأحداث نفسها أو الوقائع أو الشخصيات ولكن فى طريقة التعبير وفى اللغة ..إن اللغة أداة الكاتب وهى التى تضفى الخيال ..لذلك فى ظنى أن الفيلم سمى ب " الكلمات " ..
سؤال يطرح نفسه ..هل رورى كان يستحق هذه النجومية؟! هل كانت كتابة الرواية الأخيرة ومؤلفها وراويها يلمح أنها سيرته الذاتيه وبالتالى يتطهر من الذنب ..وهل يديه حينما لمست الكلمات الدافئة ، أخرجت المبدع من عشه ومسحت التراب عنه .. فلقد أصبح كاتبا مشهورا بالفعل ودبت فى رواياته الحياة ..
ومن منا لا يعرف أحدا طغت عليه تلك الأحاسيس ونبذته دور النشر فى البداية وحبسها فى صدره ، ونجح واشتهر بعد ذلك ، ولاكته الألسن أنه محتال ؟ أنا أعرف مبدع ..
إرسال تعليق