الوجودية والمومس الفاضلة
مقال د. محمد مندور
نشر في مجلة البوليس 7 ديسمبر 1958
الوجودية والمومس الفاضلة، مقال د. محمد مندور في مجلة البوليس 7 ديسمبر 1958 |
بقلم: محمد مندور
لقد كان تمثيل فرقتنا القومية لمسرحية المومس الفاضلة للكاتب الفرنسي جان بول سارتر امتحانا عسيرا للمستوى الثقافي السائد في وسطنا المسرحي وذلك لأن هذه المسرحية لا يمكن أن يتضح هدفها إلا لمن درس فلسفة مؤلفها وهي الفلسفة الوجودية التي ما فتئ سارتر يعرفها ويؤيد مبادئها في صور الأدب المختلفة من القصة إلى المسرحية إلى المقال الثقافي إلى سيناريو السينما بل ويعرض في مؤلفاته الأدبية المتتابعة تطور مفاهيم تلك الفلسفة في نفسه.
فالمسرحية التي ترجمت بعنوان المومس الفاضلة تقوم على ثلاثة مبادئ أو قيم او أعمدة، أولها البغاء، وثانيها اتجاه فكري وسلوكي معين في المومس بطلة المسرحية، وثالثها تمييز عنصري آثم منتشر عند الجنس الأبيض في أمريكا، وبين هذه القيم الثلاث من السهل أن يتردد القارئ ويعجز عن تحديد هدف المؤلف تحديدا واضحا ما لم يستعن بفلسفة المؤلف الوجودية، وهذا هو ما كنا نرجو أن يقوم به المخرج الذي يقع عليه عبء الفهم وتبين الهدف وإبرازه للمشاهدين، هذا هو ما أخفق فيه المخرج فقدم المسرحية في صورة مهتزة ضائعة الهدف الذي لو استطاع المخرج أن يتبين في دقة لركز عليه الضوء والاهتمام، وحمل الممثلين على إبرازه بالإشارة الدالة ونغمة الصوت المعبرة، ولا ترك الظلال كما كل ما يمكن أن يحمي هذا الهدف أو يعوق وضوحه وبروزه، ولعل المخرج قد اختلطت به السبل، وتنكرت المعالم نتيجة للخطأ البدائي الذي وقع فيه المترجم، إذ ترجم اسم المسرحية نفسها بعبارة المومس الفاضلة، مع ما بين هذين اللفظين من تناقض جذري، فالمومس لا يستطيع أن يصفها أحد بالفضيلة.
والكلمة الفرنسية التي ترجمت بفاضلة كان يجب أن تترجم بكلمة الحفية أي التي تحتفي بالغير، وعندئذ كان يتبقى على المخرج أن يحدد هذا الغير الذي احتفت به هذه المومس في المسرحية، وهو عندئذ سيحتار ويضطرب في تحديد هذا الغير ما لم يسترشد بفلسفة المؤلف الوجودية وذلك لان المسرحية يمكن أن تفسر أحداثها على أن حفاوة المومس أو احترامها إنما كان للجنس البشري كله، بدليل أنها رفضت في أول الأمر أن تشهد زورا بأن زنجيين قد قاموا باغتصابها وهي راكبة معهما في عربة قطار، وابدا لم تقبل الرشوة من البيض في مقابل شهادة الزور التي طلبت منها، كما أن من المؤكد أن تكون حفاوتها أو احترامها لجنسها الأبيض بالمثل والمعتقدات السائدة بدليل أنها قبلت في نهاية المسرحية أن تشهد زورا بعد أن أخذ السيناتور توماس يقنعها بمعتقدات جنسها الأبيض ويستشير فيها شفقتها على بعض أفراد هذا الجنس وبخاصة على أم ذلك الشاب الأبيض الذي قتل احد الزنجيين ظلما بدعوى الدفاع عن الفتاة ضد محاولة مزعومة لاغتصابها بواسطه الزنجيين الذين لم يجرما في شيء وانما أراد الرجل الأبيض أن يتخلص منهما ليخلوا بالفتاة في عربة القطار أو لمجرد احتقاره للجنس الأسود كله واستهتاره بحياته.
وللترجيح بين هذين الاحتمالين وإبراز احداهما في الإخراج والتمثيل كان المخرج يستطيع أن يرجع إلى الفلسفة الوجودية ليعلم أن أهم تعاليم هذه الفلسفة هو الدعوة إلى نبذ الأفكار والمعتقدات وأنواع التعصبات المترسبة عن الماضي أو المنبعثة عن إشاعات المجتمع دون أن تستند إلى تقدير الفرد وحريته وإيمانه بما يخدم وجوده المفهوم فهما صحيحا وينتمي هذا الوجود ويطوره حتى يحقق الإنسان بواسطة وجوده ذاته وخلال هذا الوجود ما كانت تسميه الفلسفة الكلاسيكية بماهية الإنسان أي الإنسان المثالي ومن المؤكد أنه لو أدرك المخرج هذا الفهم المستقيم لتأكد لديه أن حفاوة المومس إنما كانت بالجنس البشري كله حفاوة تدعوها إلى التنكر للتعصب العنصري ورفض الأخذ به والخضوع له وبالتالي رفض شهادة الزور ضد الزنجيين بريئين ولمصلحة رجل أبيض آثم مجرم وعندئذ كان باستطاعة المخرج أن يوجه الممثلة نحو إيضاح هذا الهدف بحركة او إشارة أو نبرة صوت توحي بأنها لم تقبل أن توقع على شهادة الزور إلا مكرهة وكأنها مسلوبة الإرادة نتيجة للضغط الاجتماعي الخانق الذي احسته منصبا عليها من الجنس الأبيض الذي يحيطها من كل جانب والذي تنتمي إليه وبذلك كان المخرج يستطيع هو والممثلة التي نهضت بالدور أن يقيا الجمهور شر تلك البلية التي جعلتهم يخرجون من المسرحية وهم مشمئزون من مشاهدتها.
الوجودية والمومس الفاضلة، مقال د. محمد مندور في مجلة البوليس 7 ديسمبر 1958 |
مؤلف المومس الفاضلة
وأما أن المؤلف قد اختار مومسا كبطلة لمسرحيته فإنه لم يفعل ذلك قط ليستثير المشاهدين برؤية مومس أو ليوحي لهم بمتعة حسية رخيصة آثمة، فالفيلسوف سارتر أكرم على نفسه وعلى فلسفته العميقة من مثل هذا الانحطاط وهو أبعد ما يكون عن أن يعرض حياة الدعارة على المسرح أو أن ينسب الفضيلة للمومسات وانما اختار مومسا كبطلة لمسرحيته لغرضين، أراد أن يعمق بهما حملته الإنسانية الخيرة على التعصب العنصري وهذان الغرضان هما أن يوضح أن تهمه الاغتصاب أو الشروع فيه التي نسبها الرجل الأبيض للزنجيين لم تكن موجهة لغناء فاضلة بل لمومس لا تعتبر مغازلتها حتى من زنجي شروعا او محاوله للاغتصاب.
ولقد يحدث ان تتأتى المومس البيضاء على الزنجي كما اوحت إلينا مومس هذه المسرحية، ولكن هذا لا ينفي احتمال قبولها لكل من يدفع الثمن مما يقطع بجسامة الجرم الذي ارتكبه الرجل الأبيض، ويزيد من احتمال كذبه، وأما الغرض الثاني، ربما كان الأهم، فهو أن يحملنا سارتر على الاعتماد بأن النفور من جريمة التعصب قد ينبعث حتى من ضمير مومس، بينما نراه متأصلا عند الساده البيض ورجال الحكم والأمن كالسيناتور توماس وابنه القاتل ورجال البوليس أي رجال أمن الدولة، ومن المؤكد انه لو استقاما فهم المخرج والممثلين لأغراض المؤلف وأهدافه على هذا النحو المستقيم لعملوا على إخفاء حرفه البغاء وأحداثها المثيرة للاشمئزاز، والاكتفاء بإشارات خفية لنفهم أن البطلة مومس، وعندئذ لم يكن هناك داع مثلا لان نرى رجلا يخرج من غرفة الحمام وهو يشد سرواله، كما أنه لم يكن هناك داع لكثير من حركات البغاء البذيئة التي قامت بها البطلة، بل وكان من الواجب أن يطهر النص من بعض العبارات التي قد يجدها الجمهور الباريسي عادية مألوفة، بينما يشمئز منها جمهورنا الشرقي، وما أظنني في حاجة إلى أن أورد هنا مثلا أو أمثلة لتلك العبارات النابية التي كان من الأفضل أن تحذف دون أن يخل ذلك بالمسرحية في شيء، وبخاصة إذا ذكرنا أن الرجل الأبيض الذي قضي الليلة مع المومس لم يقضها معها رغبة في الدعارة لذاتها، بل كوسيلة لحبك مؤامرة مع البوليس لإرغامها على شهادة الزور ضد الزنجيين ولمصلحة المجرم الأبيض الذي قتل ظلما أحد الزنجيين.
وهكذا نخرج من هذه الدراسة للمسرحية ولطريقة فهم مخرجها وممثليها إلى أن المسرحية لم تبرز أهدافها الحقيقية، ابرازا يضفي على الجوانب الأخرى المساعدة التي لم تكن هدفا للمؤلف كجانب البغاء وبذلك أخشى أن تساعد هذه المسرحية التي اسيء عرضها على انتشار الفكرة العامية المخطئة عن الوجودية فيظن العوام واشباههم أن الوجودية تدعو إلى الانحلال أو تؤيده، بينما تدعو أولا وقبل كل شيء إلى تحرير البشر من كثير من الخرافات والتعصبات التي تراكمت عليهم من الماضي أو من انحرافات المجتمع وسوء فهمه لجوهر الإنسانية ووجوب تحكيم العقل والاستقلال بالرأي بل والالتزام به وتحمل المسؤولية في كل تصرفات سلوكنا وعندئذ يستطيع البشر أن يحققوا فعلا المثل الأعلى للإنسان المتحرر العاقل الملتزم المدرك لمسؤوليته في حياة اذاء نفسه واذاء المجتمع الذي يرتبط به وجوده، من الممكن ان ينمو ويسمو أو يتحلل وينحط في ظلاله وأما أن دعوه الوجودية إلى التحرر من رواسب المعتقدات والتقاليد البالية قد أدت أو يمكن أن تؤدي إلى أنواع من الانحلال عند الأميين وأشباه الأميين الذين يعتقدون أن التحرر معناه التحلل والفوضى وإطلاق العنان لشهوات النفس الحيوانية، فهذا انحلال وتخبط وليست الوجودية كفلسفة مسؤولة عنه، ولقد راينا الديانات السماوية نفسها تصبح شرا مستعيرا على البشر وتراق بسببها الدماء عندما أسيء فهمها من الجهلة أو المغرضين، ذوي المطامع والشهوات الذين لا يتوانوا عن استغلال المقدسات ذاتها في سبيل تحقيق أطماعهم وشهوات نفوسهم الوضيعة.
الوجودية والمومس الفاضلة، مقال د. محمد مندور في مجلة البوليس 7 ديسمبر 1958 |
وها نحن على العكس من ذلك نرى أن دعوه الوجودية إلى التحرر من كافة أنواع التعصب، المقصود أن تستخدم في هذه المسرحية لمحاربة أبشع نوع من أنواع هذا التعصب، وهو التعصب العنصري المستفحل اليوم وسط شعب يظن أنه من رواد الحضارة الحديثة، كالشعب الأمريكي فضلا عن بعض شعوب الدرجة الثانية مثل الشعر الأبيض، في جنوب أفريقيا الذي لا يزال يصر على التعصب والتمييز العنصري، رغم ثورة الضمير العالمي ضده ومطالبة هيئه الأمم أكثر من مرة بضرورة الإقلاع عنه في التشريع وفي سلوك الحياة العادية على السواء.
إرسال تعليق