إلى الأستاذ مصطفى بيومي وكل المحبين له، أهدي مقالة في محبته.
علي حسن: إلى الأستاذ مصطفى بيومي وكل المحبين له، أهدي مقالة في محبته. |
بقلم: علي حسن
هذه المقالة نُشرت بمجلة عالم الكتاب، ضمن الملف الذي احتفى به وبقيمته الأدبية والثقافية. داعيًا الله عز وجل أن يعجل له بالشفاء ويعود إلينا بكامل عافيته بإذن الله
المقالة بعنوان "إنسان" أتمنى أن تنال إعجابكم جميعًا.
إنسان
لم تشملنِ حيرة كما شملتني الآن؛ أمسك القلم، أكتب، أتردد، أمحو ما كتبت! أدع قلمي، أهرب بعيدًا! أغدو تائهًا يتلذذ بالتيه الذي أحاط به، محبًا يسعد بهجران اللغة له، لا لشيء إلا لإيماني بأنها لن تليق بمَن أحب، هذا الإنسان الجبار، الذي تتحير حين تلج صومعته، كيف تطرق بابًا في عالمه، وهو صاحب الأبواب الكثر!
إنسان؛ بسيط، لا حد لوضوحه، لا نهاية لعطائه، أديب عشق الكتابة، موسوعي أدمن القراءة، ناقد يزن حروفه بميزان المعادن النفيسة، جاد حد الصرامة، متواضع دون ابتذال، اعتاد السكينة، يعشق الجمال، معطاء، ربما يجور على نفسه وحقه كثيرًا!
يقرأ ويكتب في خلوته المقدسة، ناسكًا متعبدًا، لا يروم إلا الصفاء والهدوء، لا يرجو من دنياه إلا أن يظل ممسكًا بقلمه، ليكتب حتى يلقى ربه! الكتابة شغفه، عشقه الأول والأخير، لا يسعى إلى مجد أو شهرة، يحترف الصمت، ينصت باهتمام، ينصح بإخلاص، لا يريد جزاءً ولا شكورا.
إنه الأستاذ مصطفى بيومي؛ الذي كتب الله لي أن أصبح أحد تلاميذه المخلصين، وهو ينكر أن له تلاميذ!
ليس لأنه لم يكن أستاذًا لكل الذين اقتربوا منه، ينهلون من علمه وأدبه وثقافته الموسوعية، وإنما لتواضعه،
حد إنكاره أنه أستاذ، له حواريون!
ينكر أستاذيته فيقول:
"ليس لي تلاميذ أبدًا. لم أفكر يومًا في هذا، بل ليست مطروحة في مخيلتي نهائيًا، بل العكس صحيح، لو أن هناك علاقة تجمع بيني وبين شخص، يصغرني بثلاثين عامًا في المجال الثقافي، فإني أتعلم منه، التعليم المتبادل هو الأصح والأهم. إذا تفوقت على هؤلاء الشباب بالقراءة والثقافة بحكم السن، فإن هؤلاء الصغار على وعي عظيم بإيقاع الحياة، لأنهم الأصغر سنًا، والأقدر على التكيف، وهي ميزة مهمة، ربما لا نستفيد منها. إن فكرة الأستاذية في المجال الأدبي أو النقدي، غير جيدة؛ ربما تكون مقبولة في المجال الأكاديمي، حين تناقش رسالة الماجستير أو الدكتوراه مع أستاذك، فتتأثر به وبفكره، مثل شكري عياد، لويس عوض، عز الدين إسماعيل، عبد المحسن طه بدر، كل هذه الأسماء العظيمة، تستطيع بحكم وظيفتها الأكاديمية، أن تمارس الأستاذية على طلابها داخل الجامعة، لكن نجيب محفوظ مثلًا، وهو مَن هو في الأدب والرواية، هل له تلاميذ؟ الحقيقة أن نجيب محفوظ أب كبير، والحقيقة أيضًا أنه يُخَرِّج لنا أبناء كثر، لكنهم مختلفون عنه، وهذا أعظم ما فيه. الخراب العظيم حين يحب الابن والده فيقلده؛ الأستاذ يعلم تلاميذه منهجًا، أساسه هو أنك لابد أن تكون مختلفًا عني. هذه هي تجربتي مع الأستاذ نجيب محفوظ، الذي أحبه جدًا، ولكن لم أفكر لحظة واحدة في تقليده."
هذا هو فكر الأستاذ؛ الملتزم دائمًا بالإنسان، والمهموم بقيمته وإعلاء شأنه، لم يكن يومًا ملتزمًا بنظرية سياسية، أو قضية دينية، أو مذهب أخلاقي، أو شعارات، إن التزامه الوحيد ككاتب هو التزامه بالإنسان، ويؤمن أشد الإيمان بأن الإنسان مخلوق عظيم، في قوته وضعفه، جدير بالتعاطف أيًا كان وضعه.
تكمن عظمة الإنسان في هذا المزيج الفذ، خليط القوة والضعف، فلا يوجد بشر معقمون، ماكينة ألمانية تمشي على قدمين دون خطأ أو عيب، فإذا أردت هذه النوعية من البشر، فأنت تسطح الشخصية الإنسانية!
هذا الأديب العاشق للكتابة، هو في الحقيقة عاشق للتطهر؛ يرى الأزمات التي يحياها تفجر مجالًا للكتابة الجيدة، هذه الكتابات "الجيدة" تُعد نوعًا من العلاجات زهيدة الثمن. اندماج الكاتب في عمل أدبي جديد، هو نوع من التطهر، يحدث بالاندماج والكتابة. ربما هذه الكتابة لن تأتي بالمال والشهرة، لكنها تحدث إشباعًا لا مثيل له، يجعل الكاتب متوافقًا مع الحياة، قادرًا على المواصلة. التطهر الحادث بالكتابة، هو حائط صد ضد الأمراض النفسية، ونعمة عظيمة منحها الله لعدد قليل جدًا من الناس، هم الكتاب الحقيقيون، أما هؤلاء الذين لا يكتبون ولا يقرأون، هم مشغولون دائمًا بما يتعرضون له من أزمات، وشعور بالضعف وعدم القدرة على الصمود، على التأثير، على الاستيعاب والتحقق والاستمتاع بالحياة.
يرى راهب الفكر والأدب أن السلوى الوحيدة في الكتابة، هي أنها سوف تعيش بعد رحيله -أطال الله عمره- وفعل الكتابة في حد ذاته متعة عظيمة، أيضًا فعل مراجعة الكتابة متعة أخرى، وفعل النشر وما يترتب عليه آخر المتع وأهونها، لكن الإنجاز الحقيقي هو فعل الكتابة ذاته، لهذا نتحرر عند الكتابة، وننطلق دون خوف أو قيد.
تعددت كتابات الأستاذ مصطفى بيومي؛ أكثر من مئة كتاب، اثنتا عشرة رواية منشورة منها "أحلام سرية"، "لعبة الحب"، "أكاذيب صغيرة"، "يوم" وله سبع روايات غير منشورة، أهمها على الإطلاق رواية "يوميات يوسف عباس" وهي رواية أجيال، كان لي شرف قراءتها كمخطوطة، وأعتقد أنها أعظم ما كتب راهب الفكر الأستاذ مصطفى بيومي.
أربعون كتابًا منشورًا في النقد الأدبي، وسبع دراسات غير منشورة، وعن رواد الاستثمار له سلسلة قيمة بلغت عشر مؤلفات تناول فيها شخصيات وطنية مؤثرة، مثل أحمد عبود باشا، فاطمة اليوسف، آسيا داغر، سمعان صيدناوي وغيرهم. كذلك كتب عن الفن والسينما خمس مؤلفات منها "عباقرة الظل"، "في حب زكي رستم". هذا إلى جانب عشرات المؤلفات التي يتناول فيها معاجم شخصيات كبار الأدباء في مصر والعالم العربي، كذلك "النبش في الذاكرة" وهو كتاب شبه سيرة ذاتية.
نحن نستطيع اكتشاف الكثير من الأفكار التي تراود الإنسان "مصطفى بيومي" في أغلب أعماله الروائية، فهو ككاتب متواجد في شخوصه، تجد بصمته الشخصية سواء في الأعمال المباشرة مثل "ناس من المنيا"
و" إنسان" أو في الأعمال ذات الطابع المختلف مثل "لذة القتل" و"أما بعد".
مصطفى بيومي الإنسان له ثوابت تصنع له السعادة والبهجة؛ ربما أستطيع تحديدها لاقترابي منه ومحبتي له، يبدأ يومه بالاستماع إلى الشيخ محمد رفعت، الذي يعشق صوته ومدرسته في التلاوة القرآنية، كما أنه يفضل برد الشتاء عن حر الصيف، يحب البرد لسبب جوهري، كشف عنه في عدد من رواياته: "إن عظمة الشتاء تكمن في أنه يدفعك إلى البحث عن الدفء، كي تقاوم البرد، فهو لا يحب البرد في ذاته، ولكنه يحب مقاومة البرد! رؤية فلسفية تكمن في أن هذه المقاومة لا تتم إلا من خلال الآخر، الألفة، التواجد مع الأحبة، الأصدقاء، تناول كتاب، فكرة تضيء عقلك وروحك، هي فلسفة البحث عن الدفء الإنساني العابر للدفء المناخي، لأن المقاومة الحقيقية للبرد تكمن في "دفء العلاقات الإنسانية الراقية" لهذا ينتابه شعور بالحسرة، حين يوشك الشتاء على الرحيل، يغضبه الصيف عندما يغادر موقعه مبكرًا ويباغت الشتاء في عقر داره، لقد تغير المناخ كثيرًا، وتحولت شهور كانت تمتاز بالبرودة إلى شهور خاضعة لسطوة الصيف مثل فبراير ومارس.
من الثوابت أيضًا عند الإنسان "مصطفى بيومي" عشقه منذ طفولته لنادي الزمالك، لم يفته مباراة لفريقه المفضل إلا لظروف قهرية جدًا، وبصورة استثنائية نادرة الحدوث، تلك أحد ثوابته التي تصنع له بهجته وسعادته، كما يعشق الأستاذ أغنية "يمامة بيضا" للراحل العظيم داوود حسني، لهذه االأغنية مكانة عظيمة في قلبه، جعلته يرددها داخل رواياته وعلى صفحته على الفيسبوك، مما جعل الكثيرين من متابعيه يسألون عن سر هذه الأغنية.
يقول الأستاذ: "يمامة بيضا هي أكثر أغنية أحببتها في حياتي، استمع إليها منذ الصغر من فرقة الموسيقى العربية للدكتورة رتيبة الحفني، وأحببت معها أغنية "على خده يا ناس ١٠٠ وردة" و "يا عشرة الماضي الجميل" ثم صارت هذه الأغنية هي الأحب والأقرب إلى قلبي، لأن داوود حسني المصري اليهودي وضع فيها كل عصير الشجن الممكن تخيله، سواء بصوت الموسيقى العربية، أو منيرة المهدية، أو حتى بصوت الشيخ زكريا أحمد، في جميع الحالات، سوف تستشعر في هذه الأغنية عمقًا عظيمًا يتجاوز الظاهر السطحي، وتلمس تعبيرًا فذًا عن الضعف الإنساني بكل تجلياته ودوافعه، لهذا ودون قصد، تحولت هذه الأغنية التي تسكنني إلى "لازمة" تفرض وجودها في كل رواية أكتبها، ليس لشيء سوى أنها تعبر عن الفقد الجميل، فكل جميل ليس ضروريًا أن يكتمل، بل إن جماله يكمن أحيانًا في نقصانه! لهذا فإن هذه الأغنية من ثوابت حياتي، كما أن البرد وعشقي لنادي الزمالك من الثوابت، ربما تبدو هذه الأشياء غامضة عند البعض، لكن لكل إنسان غوامض ومكنونات، لا يعلم سرها، ومع هذا تعلمت أن الذي يحب الصيف جدير بالاحترام، والذي يكره الشتاء جدير بالاحترام، فلماذا أفرض عليه حب الشتاء، داوود حسني، نادي الزمالك؟ لديَّ قناعاتي، لكني تعودت على احترام قناعات الغير بالقدر ذاته."
مصطفى بيومي الإنسان؛ مرهف الحس، له مفرداته التي يحبها، وتحققه اليومي يكون بين القراءة، الكتابة، مشاهدة الأفلام الجيدة، سماع الأغاني، الشيخ رفعت، استرخاء وتأمل.
يقول: "هذا هو اختياري، ربما يختلف عن الآخرين، ويختلف بشدة، لكن ذلك لا يعني أنني الوحيد على صواب، هذا هو المأزق الذي نواجهه، فليس ما أقوم به هو الصحيح بلا شك، وما يقوم به غيري هو الخطأ بلا شك، بل إن كلٌ منا يرى متعته في كل ما يقوم به، وإلا ما قام به. المأزق الذي نواجهه جميعًا هو إما أن تكون مثلي تمامًا وألا فأنت على الطريق الخطأ، هذه هي الكارثة بعينها!".
هذا الأديب المصري العملاق، الذي يُعد أعظم مَن كتب عن الأستاذ نجيب محفوظ وأدبه، قدم لنا أعمالًا نقدية، اعتمد عليها كل الدارسين لأدب نجيب محفوظ، ولا تستقيم رسالة دكتوراه عن صاحب نوبل، إلا إذا اتخذت دراسات الأستاذ "مصطفى بيومي" نبراسًا لها ومرشدًا، هذا العملاق الذي كتب عن العشرات من الأدباء، بل المئات كان في غاية السعادة عندما كتب عنه الشاعر "فؤاد حداد" والناقد "رجاء النقاش" وغيرهما، وكيف تناولا أدبه وقلمه بالإشادة دون سابق معرفة أو علاقات شخصية.
يقول في سعادة بالغة: " أول مَن لفت الأنظار إلى كتاباتي هو الشاعر الكبير "فؤاد حداد" حين أرسلت إليه عام ١٩٧٦ قصيدة بعنوان "ترنيمات شاعر حزين" كنت طالبًا في الفرقة الثانية بكلية الإعلام، نشرها الشاعر الكبير بعد أسبوع واحد في بابه الثابت "قال الشاعر" في مجلة صباح الخير. فوجئت بأن قصيدتي احتلت نصف صفحة، بينما أشاد فؤاد حداد بالقصيدة في صفحة ونصف، قائلًا إني شاعر تفوق على الشعراء الكبار. أما الأستاذ "رجاء النقاش" فقد كتب عني مقالتين، الأولى في الأهرام (مارس ٢٠٠٠) بعنوان "مَن يعرف مصطفى بيومي" والثانية بعنوان "مصطفى بيومي" في مجلة "أدب ونقد" عام ٢٠٠٦.
كما كتب الأستاذ علاء الديب عني في "صباح الخير" وعن روايتي "لعبة الحب" في جريدة القاهرة، والأستاذ سعد هجرس في جريدة الجمهورية، والأستاذ أحمد بهجت في عموده "صندوق الدنيا" بجريدة الأهرام تكلم عن كتاب "عصير الشخصية المصرية". لقد كان التواصل معهم عبر رسائل البريد فقط!"
لهذا السبب يحترف الكتابة عن مبدعين لا يعرفهم، لا يرتبط معهم بعلاقات صداقة، يكتب فقط لأنهم مجيدون، مبدعون حقيقيون.
علي حسن
كل الشكر والتقدير لكم أخي وصديقي العزيز أستاذ هاني
ردحذفإرسال تعليق