سيرة الصمت وبلاغته



قراءة في مجموعة ( الصمت ) لسعيد رمضان





سيرة الصمت وبلاغته، قراءة في مجموعة الصمت لسعيد رمضان. بقلم: سيد الوكيل






بقلم: سيد الوكيل




تعتبر مجموعة قصص ( الصمت ) لسعيد رمضان تجربة بكر ، ربما لا تعكس خبرة عميقة في السرد القصصي ، ومن ثم قد تجد تلك الروح التجريبية التي تبحث لنفسها عن سمات أسلوبية خاصة، ولكننا في جميع الأحوال بأجزاء مجموعة قصصية تكشف عن موهبة حقيقية ومعرفة بكل فنون السرد ، فضلا عن اجتهادات بازغة لصاحبها في الوقوف على مناطق عميقة في الشعور الذي ينبئ عن طبيعة الذات الساردة في كل لحظة، وفهمها للعالم المحيط بها، بل وتكاد تكون هذه الرغبة في الإبانة عن المشاعر الدفينة هي هدف السرد ومحركة .

ومن عنوان المجموعة ( الصمت ) يمكننا الاستدلال على هذا الطابع الدامغ لها ، ومن ثم نتوقع في كل لحظة أن نقف على حدود بلاغة مختلفة عن بلاغة الإفصاح ، إنها بلاغة الصمت .



********



في قصة لوحة الفنان تصبح ذات الفنان بتضاريسها الداخلية هي لوحته الصادقة ، هي فضاء التواصل الحقيقي ، وكأن التواصل لا يقوم إلا مع الذات ، أن تفهم ذاتك أولا تكون قد رسمت لوحتك الحقيقية وتكون ذاتك الواعية هي نقطة تواصلك الأولى مع العالم .

فنان هذه القصة موزع بين شعورين منذ البداية: الإحساس بالعجز والتهميش من ناحية ، والرغبة في التواصل من ناحية أخرى، لكن التواصل لا يتحقق غالباً بغير ثمن أكبر من الطاقة النفسية، ومن ثم يتعمق شعور العجز، نحن أمام حالة من الاغتراب، تجسدها لوحة الفنان، حيث يعانى العجز عن رسمها، وعندما ينتهي منها يكتشف أن الخطوط التي منحت له نفسها ليست سوى ملامحه هو، وهكذا فالفنان يرسم ذاته، وهو أمر يحتاج إلى معاناة، لكنه أول الطريق لفهم علاقة الذات بالآخر / العالم .


في هذه المجموعة القصصية ، تتحول الذات الساردة ـ نفسها ـ إلى موضوع للكتابة ، بما يكشف عن طابع السرد الذي يشمل المجموعة في مجملها، ومن ثم لا غرابة أن تنزع المجموعة إلى مشارف السيرة الذاتية من ناحية وأن تنغمس في كثير من لحظاتها بطابع المناجاة ، مشفوعاً بدرجات متباينة من التأمل الداخلي ، والوقوف على الأبعاد النفسية العميقة ، والإمكانات ـ القليلة ـ المتاحة في سبيل التحق ، إنها ممكنات ، تحدها ظروف الواقع المعاش ، فاليتم ، والفقر ، والصمت الإجباري ، كلها ظروف تحد من ممكنات التحقق ، في مقابل طاقة نهمة تعكس طموحاً مثيراً للدهشة ، إنه طموح الفنان الذي يود لو يحتوى العالم كله ، لو يحكم قبضته عليه ويفهمه ، بل ويعيد خلقه .

ويمكن اعتبار العنوان ( الصمت ) عتبة أولى لدخول هذا العمل ، سواء كان العنوان عفويا أو مقصودا لذاته ، ليدل على شخص المؤلف وتجربته مع الصمت والعجز عن التعبير المباشر والإفصاح عن ذاته ، بما يفرض لغة داخلية مونولوجية تتوسل ببلاغة الصمت ، ومع لحظات من السرد المتتابع ـ هنا ـ نرى أن الصمت الذي ننشده للتعبير عن حالات من الصفاء والتأمل والهدوء النفسي ، يصبح ضجيجا موحشا ومؤرقا للذات الساردة ، فحين يكون الصمت قرين العجز عن التواصل ، يكون البديل هو درجة اعمق من محاورة الذات وفهمها .

إن العالم الصامت هو عالم راكد ، يمضى على وتيرة واحدة ، وهكذا يمكن أن يفقد الإنسان إحساسه بالحياة بهديرها وصخبها ولو لم يكن الإنسان قادرا على تجاوز صمته فأنه بالتأكيد سوف يستسلم لعزلته ، ومن ثم يمكن ملاحظة الطابع النضالي للذات الساردة ، وهى تسعى للخروج من عزلتها وتنشد التواصل ، غير أن الخروج محاطا بالمعاناة والإحساس بالقلق وربما الخوف ، بما يستتبع فيضاً من الهواجس ، وطرح الأسئلة على الذات ..إلى أي درجة يمكن للأخر أن يفهم لغة الصمت ؟؟

يقول في قصة لوحة الفنان :


( كانت هذه حياته كل يوم على نفس الوتيرة يعيش ، فمن أين جاءت الكآبة التي تغلفه؟ ) ، سنرى أن مصدر الكآبة هو هاجس القلق الذي يصاحب لحظات الرغبة فى الخروج ، ومجاوزة الألفة الراكدة ، بإفصاح عن موقف مغاير للذات ، وسنرى أن محاولات الخروج هي نوع من مجاهدة الذات وربما مواجهتها بعنف ضروري ليهز مواتها ويخرجها من صمتها .

( لا يجد سوى خطوط منفصلة وجزئيات متباعدة بعنف ودون حيوية ، تستعصي على أي تجميع ، ولا تخلق أي مجال للاتصال ، كأنه يبحث في فراغ أبدى وحيد حائر عن أشياء يعلم بغموض إنها موجودة ولكنه لا يعرفها .. )

أن معاني الصمت تتعدد في المجموعة ، فالصمت قد يكون نوعا من الاحتجاج ، كما يكون تعبيراً عن الرضا كما هو شائع في الموروث الشعب أو نوعا من الاستبصار والتأمل كما نجد في المعنى الصوفي ، أن للصمت بلاغة يمكن أن تكون اقدر تعبيرا عن الكلام ، فالصمت ـ دائماً ـُ ما يذكر مقرونا بالحكمة والتأمل ، وهو بذلك يسبق الكلام ، وهو الأصل في الإبانة ، فما الكلام إلا صوت الصمت، ولكي يكون الكلام بليغاً فإن الإنسان يحتاج إلى التأمل العميق والتفكير البليغ ، وهكذا يكون الصمت ـ لا الكلام ـ هو مناط البلاغة والبيان ، وفى هذا يقول أبو هلال العسكري صاحب الصناعتين : " واعلم بأن البلاغة هي إهداء المعني إلي القلب في أحسن صورة من اللفظ " ويقول الشاعر القديم:

و اعلم بأن من السكوت إبانة و من التكلم ما يكون خبالا


ولعل حضور الصمت قاسما مشتركا في قصص المجموعة يوفر لها قدرا من الوحدة الشعورية، بحيث نشعر في كثير من اللحظات أننا أمام سيرة الصمت .

فبطل قصة لوحة الفنان يحدثنا عن مولدة بالإسكندرية ثم عن اغترابه ، ثم يعود إليها بعد أن يكون فقد علاقته بها ، فتبدوا عالما لا ينتمي إليه ولا يعرفه ، وهكذا تكون فترة الاغتراب هي زمن مستقطع من خبرات الذات ، وكأنها مساحة صامته من الزمن ، قطعت العلاقة بين ماضيه وحاضره ، فالصمت هنا يتجلى في معنى الاغتراب ، ويصبح له دلالة مكانية وزمنية .


في موقف أخر قد يكون للصمت معنى الموت ومن ثم تصبح الحياة – في المقابل – هي موسيقى ، وحيث الموسيقى صوت الوجود الخالص، وتصبح الإرادة الإنسانية في مقاومة الموت 0 الصمت ، هي مزيد من الإنصات لصوت الوجود .



يقول في قصة لوحة الفنان :


( عندما غاص تدريجيا في أعماق الصمت، ظل واقفا منبهرا داخل العدم الذي يسحقه ، اختنق فأنسحب بضعف إلى الشرفة ، استند إلى جدارها متأملا الفجر وهو يطل بإيقاع موسيقى لا ينقطع ، أغمض عينيه منصتا بشغف لهمس الهواء، وهو يلامس بحنو أسطح الأشياء ، تنفس بعمق عندما وصلت لأنفه رائحة ورود دافئة في أحضان النسمات . )


المقطع السابق هو ختام قصة "لوحة الفنان " وهو يمثل نبوءة الخروج من الأزمة التي عاشها الفنان ، فللمرة الأولى نجد في القصة بعض معاني الأمل ، ولنلاحظ كيف لعبت الحواس دورا مدهشا في إنقاذ الذات الساردة من صمتها أو موتها ، لنلاحظ كيف استخدم الكاتب مفردات تدل على معاني تحريك الحواس في سياق كرنفالي ، فالإنصات للموسيقى ولمس أسطح الأشياء وشم رائحة الورد الدافئ ، كل هذا محاوله لتحريك الحواس ، لتصل إلى أعلى درجات اليقظة لتنفض صمتها وموتها . إذ الصمت هنا ، ليس إعاقة للتواصل مع الوجود ، بل يتحول إلى درجة من الإنصات العميق له ، فإذا بموسيقى الوجود ،هي درجات من همس الهواء ولمس أسطح الأشياء ، ودفء الورود الهاجعة في أحضان النسمات ..من الممكن ملاحظة ـ في المقتطع السابق ـ حركية وحضور الهمس عبر صوت السين الذي يتردد بتنويعات دلالية ، تصنع مفارقة بين موقفين متناقضين للذات ( الانسحاق والانسحاب ثم التساند حتى معانقة الوجود ولمسه )



إن اللغة عند سعيد رمضان تدهشنا وهى تتلمس لنفسها مساراً بين بلاغات الصمت ، فهو يصف لحظة طلوع الفجر بقوله : " يطل بإيقاع موسيقى لا ينقطع "، أما مشهد طلوع الفجر في بلاغة الكلام ، يأتي على نحو مألوف وشائع ليصف لون الشفق وامتداد الأفق وما فيه من درجات لونية وتشكيلية ، وكأن الذي يصف طلوع الفجر، يصف لوحة صامتة ، في حين نجد سعيد رمضان يجعل هذه اللوحة تصدح بالموسيقى وتهمس بالجمال ، فكأن علامة طلوع الفجر ، هي الإيقاع / الصوت ، وليس اللون كما ألفنا في البلاغة الدارجة ، هل هذا التعبير جاء مصادفة ؟ ، أم إنها اختلاسات اللغة التي تعبر عن طبيعة الذات الساردة ، لتعين سمتها الأسلوبي . وتنبئ عن اللاوعي .؟



أما قصة " الصمت "، التي أخذت المجموعة اسمها ، فنجد فيها موقفاً جديداً للذات الساردة ، ولكنه غير منبت الصلة عن موقفها في قصة " لوحة الفنان " بل هو مكمل له ، والحقيقة ، أن كل قصة من قصص هذه المجموعة ، هي حركة تتجاور مع حركات أخر لتخلق هارمونيا النص ، ويمكن ملاحظة أن الذات الساردة في هذه القصة تسعى لاستعادة سيرة الصمت الأول فنحن – هنا – أمام ذاكرة غابت عنها الأصوات ، ومن ثم تعود إلى تأمل تاريخها الشخصي للبحث عن لحظات مسموعة مازالت تصدح بالداخل .


فبعد إن يسود العالم الصمت ، يصبح كل شيء في الوراء ، أو الماضي كما لاحظنا في قصة " لوحة الفنان" ، حين قطعت مساحة الصمت زمن الشخصية وجعلت كل شيء في الماضي، في حين يظل الحاضر مجرد اغتراب ووحشة لا ينتمي إليه .


وفى قصة الصمت تستدعى الذات السرد عبر واقع ذاكراتي يمضى بعيدا إلى لحظات الطفولة ، بحثا عن شخصيات لصيقة بها ، الأم، الأب، أصدقاء الشارع ، مباريات تنس الطاولة ، أفلام الأبيض والأسود ، إن العالم في الذاكرة مازال محتشدا بالصخب ، حيث تصبح الذاكرة هي خزانه يستمد منها طاقة الحياة بعد أن فقد الطفل السمع إثر مرض ألم به .

ويعبر سعيد رمضان عن هذه اللحظة بتعبير غاية في الدقة والطزاجة ، يقوله على لسان الطفل :" أصبح كل ش كنفق ليس فيه أي صوت ، مجرد الصمت والسكون الذي لا ينتهي )



والقصة تحتشد بومضات لأمكنه تأتى من الذاكرة، فمن قبل الصمت تأتى صور لصالات السينما والشوارع والأندية، حيث كل مكان منها علامة على زمن الصخب الذي مضى ، أما الأماكن فهي تظهر بعد الصمت كأنفاق صامته ، أو مخابئ خاصة سرية ، فبعد الصمت استطاع أن ( يبنى لنفسه مخبأ خاصا بداخله تماما أصبح وجوده كقوقعة )



نلاحظ إن القوقعة حتى بعد انتزاعها من البحر ، تحتفظ في داخلها بوشوشة هدير الموج ، وهكذا تصبح القوقعة مكانا معادلا للصمت وقادرا في نفس الوقت على الاحتفاظ بحيوان ما قبل الصمت أي ما قبل انتزاعها من البحر .



إن القواقع والأماكن السرية التي يصطنعها الطفل الصامت لنفسه تصبح أمكنه رمزية،وداله على الذات في حالة تشكلها الأول بحسب باشلار في إشاراته إلى جماليات المكان وهى كما نرى- جميعها – أماكن صامته ، تتيح للذات فرصة الكلام عن نفسها وتصبح خبرات الجسد والحواس كما رأينا من قبل هي نافذة الذات على العالم الخارجي ، فالطفل في قصة الصمت يتخذ من شجرة مكانا عليا ومخبأ لذاته ، متوحدا مع الطبيعة الصامتة ، أن الصمت ينتج حواراً من نوع آخر مع مظاهر الوجود الصامت ، إنها المناجاة التي تشف بالنفس إلى درجات من العمق الصوفي .



عندما يسقط الطفل من فوق الشجرة ، يظل الإحساس بالألم هو خبرته الجسدية الخاصة التي يتذكرها بوضوح ، لأن الخبرات الخاصة لا يمكن نقلها إلى الآخرين بالكلام ، فنحن حينما نشعر بالألم نصرخ ، وصراخنا هذا قد يعنى للآخرين أننا نتألم ، لكنهم لا يستطيعون معرفة الكيفية التي نتألم بها ، وهكذا يصبح الألم الصامت صورة من صور الاغتراب والاستعلاء على المحنة والرغبة في تجاوز الصمت كمظهر للعجز والضعف ، بل يصبح الصمت في حالات الألم نوعا من انتصار الإرادة والاستعلاء .



إن لحظات الألم ، تختبر طزاجة حواسنا , وتقيم حوارا حسيا بيننا وبين أجسادنا ، غير إن التواصل مع الذات عن طريق الإحساس بألم الجسد يتجاوز ذلك إلى الإحساس إلى ألم النفس أيضاً ، ولعل هذا الاستغراق في الألم كبديل للصمت ودرجة من درجات التواصل مع الذات يسيطر على مجمل النصوص ، حتى انه يأخذ بعدا ميلودرامي في قصة مثل :" لحظة من الضياع " على نحو ما يجسده عنوان النص الذي يحكى معاناة صبى ٌيدفع به إلى عالم الرجال مرغما ، عندما تموت الأم ويدمن الأب المخدرات حد الإنهاك والضياع ويضطر الصبي بوصفه الأخ الأكبر إلى العمل

أن هذه الصورة للصبي الذي يعيش حياة الرجال ، وينتزع من عالمة عالم أحلام اليقظة والخيالات اللعوب ليعيش واقعا لا ينتمي إليه، هذه الصورة قد نجدها مرة أخرى على نحو أكثر فداحة في قصة : " دفء الليل " ، غير إنها قصة غنية بالدلالات والإشارات بما يعنى أنها تجسد حالة من النضج الفني والجمالي لا يقلل من قيمتها سوى هذا الطابع الميلودرامي .



سنلتقي في قصة ( دفء الليل ) بنفس صبى لحظة الضياع وسيتأكد عندئذ الطابع السير ذاتي للمجموعة ، بحيث يحق لنا أن نطلق عليها سيرة الصمت ، بما يحمله العنوان من مفارقة واضحة ، حيث تستدعى السيرة معاني الحكى والكلام .



فالصبي في القصتين يتحول مباشرة من حال الطفولة إلى حال الكبار ، عندما يضطر إلى أن ينزل للعمل ويعيش عوالم الكبار، ويتحمل مسؤولياتهم ، حتى أن طفل لحظة من الضياع يعول أباه المدمن الذي يعامله بقسوة مفرطة ، وهنا ينبغي الإشارة إلى صورة الأب في قصص هذه المجموعة ، فهو أما غائب غيابا جسديا كما وجدنا في قصة الصمت أو غيابا مجازيا كما في لحظة من الضياع حيث يجعله الإدمان في حالة غياب مستمر أما في قصة ( في دفء الليل ) فالأب يظهر من خلال الإشارة إليه ، لكننا لا نسمعه ولا نراه داخل النص فهو حضور شبحي طيفي غير متحقق .



في حين تتولى الأم في كل نصوص المجموعة دور الشريك المتعاطف مع الصبي في محنته بل وتظهر الأم بوصفها الوجه الوحيد القادر على إقامة حوار مع الصبي بل ومداواة جروحه ولملمه هزائمه .. أن للأمومة حضور قوى في النصوص بينما نجد غيابا كليا للأب .


والأم البلهاء في قصة " دفء الليل" تشارك الصبي بطوله النص ويضعها البله في حالة من العجز وعدم القدرة على التواصل مع المجتمع والضعف فيما تحتفظ بحرارة مشاعرها تجاه طفلتها .

ولعل الغياب يمثل صورة من صور الصمت أيضا ، والغياب في هاتين القصتين ( لحظة من الضياع – في دفء الليل ) يجاوز صورة الأب إلى صور الصبي نفسه ، فثمة زمن مخصوم من حياة الصبي ، زمن لم يعشه ، عندما يجد نفسه وقد انتقل من عالم الطفولة إلى عالم الرجولة من غير أن يعيش عالمه كصبي.

أن الصبي في القصتين يحضر كمجرد إشارة إلى العمر، غير إنها لا تتجسد في الفعل والممارسة وكأن وجود الصبي هو وجود احتمالي غير متحقق .

صحيح أن قصة دفء الليل مغرقة في طابع ميلو درامى رأيناه في أجواء الرومانسية مع مجمل قصص المجموعة ، إلا إنها كما أشرنا ، تمثل من الناحية الفنية حالة قصوى من النضج الفني داخل هذه المجموعة ، حيث العناية بالتفاصيل الدقيقة وحضور قوى للأمكنة عبر لغة سردية تسعى إلى التشكيل والتجسيد ولا تستسلم لآليات التعبيرات المجازية .



( سار معها حتى وصلا إلى حي عشوائي ، تكثر به الأكشاك المصنوعة من الصاج وخشب الصناديق ، انتشرت أكوام القمامة على جانبيه ، بينما طفح الصرف الصحي واختلط بماء المطر ، ليشكل بركا خضراء معتمة ، تضيف إليها النساء لونا أخر بماء الغسيل ، بينما الأطفال يلعبون فيها ويقذفونها بالحجارة .. )

أن عناصر التصوير البصري مكتملة في هذا الوصف الذي لا يخلوا من دلالات تجسد واقعا يائسا وحيوات مهمشة من غير مباشرة أو تصريح .



وفى مناطق أخرى من السرد في هذه القصة المأساوية ، نجد مستويات من التعبير والتواصل الإنساني بين الصبي والمرأة / الأم البلهاء ، أن كل منهما يحتوى مساحة صامته في داخله تعيقه عن التواصل ، فمساحة الصبا مخصومة من حياة الصبي ومساحة الوعي مخصومة من حياة المرأة البلهاء ، لكن هذه المساحات المعيقة لا يمكنها أن تمنع تواصلا يقوم بينهما عبر الإشارات والإيماءات والأصوات غير المكتملة التي تنطقها المرأة البلهاء والتلامسات الجسدية التي تتم بينهما لتبث الدفء لهما في الليل البارد والصامت .ولنتأمل هذه التعبيرات التي تشير إلى نوع من التواصل الحسي ،يستعيض به السارد عن الكلام .



1-هز كتفيه رافضا رغم جوعه

2-جذبته المرأة من كمه

3- أشارت له وهى تميل برأسها وتتهته بكلمات غير مفهومة

4-راقبها الصبي صامتا وهو واقف بجوار الباب ، تقدمت المرأة إليه وهى تبتسم

5-عندما رأته نظرت إليه بابتسامة بلهاء وأشرق وجهها الداكن ، رد عليها بهزات صامته من رأسه .

6- قذف إليها ببضع ثمرات فجمعتهن وهى تنظر إليه بابتسامتها البلهاء



والشاهد الأخير انتهى إلى نوع من التواصل الحميم بين الصبي والمرأة البلهاء ، بمجرد إن القي إليها ببعض الثمار مغافلا التاجر الذي يعمل عنده ، وبهذا تقترب البلهاء منه وتدخله إلى عالمها ، ويصبحان معا في عالم واحد يتبادلان فيه الأدوار ويساند كل منهما الأخر ويكتمل به

فالمرأة على الرغم من سنها الكبير إلا إنها تعيش وتتصرف مثل طفلة أى إنها لا تعيش سنها الحقيقي ، والصبي يعيش ويتصرف مثل رجل كبير فهو أيضا لا يعيش سنه الحقيقي ، ومن ثم يجد نفسه مسئولا عن البلهاء التي دهستها سيارة وماتت ، ومن بعد يصبح مسئولا عن طفلتها .

أن صور التداخل في هذه المجموعة كثيرة قادرة على تخطى حواجز الصمت ، فنحن إزاء كتابة طازجة عفويه تحتفي بالمعاني الحسية وترصد الواقع في تشوهاته ، ولكنها رغم كل ما فيها من فوضى وقسوة ووحشية تنضح بكثير من المعاني والدلالات الحية المتوزعة بين الألم والنبل وتصور طاقة من الشعور الحي والسرد المتدفق المفعم بالتفاصيل المؤثرة .











Post a Comment

أحدث أقدم