التوجه الفكرى للمبدع وعلاقته بمعالجة الرواية
أحمد محروس
عندما ندرس رواية مثل رواية ( روبنسون كروزو) الصادرة سنة 1719 للمؤلف ( دانيال ديفو) .. نجد ان المؤلف ( دانيال ديفو) كان رجلا تاجرا انجليزيا ثريا الف أكثر من 300 كتاب استقى معظم أحداثها من رحلاته التى قضى بها عمره وهو يجوب أرجاء واراضى الإمبراطورية البريطانية .. لذلك نجد أن أحداث الرواية تنطق بتقديس وتمجيد ( المذهب الراسمالى) وذلك لأن التاجر ( دانيال ديفو) هنا انعكست مهنته ( التجارية) على أدبه الروائى ..
فيحكى فى روايته قصة شاب مهاجر خرج ليركب سفينة تجارية وهو ابن ( 18 عام) بحثا عن الرزق ورغما عن اراجة والده .. فيهاجم القراصنة مركبه ( والقراصنة جزء من الحياة التجارية فى القرن الثامن عشر وكانوا كثيرا ما يهددون سفن الأسطول البريطانى ويدمرونها ويسرقون ما فيها ) ..
فاذ بهؤلاء القراصنة يقتلون كل من كان على المركب بإستثناء ( روبنسون كروز) الذى ينجو ليعيش وحيدا متوحدا على جزيرة ( مهجورة) لمدة 28 سنة يؤسس خلالها تجارة مزدهرة مع المركز الراسمالى ( لندن) مرة أخرى من خلال قطع أشجار الجزيرة وسرقة اخشابها وارسالها للبيع فى ( لندن) للتدفئة فى موسم الشتاء .. ثم يجد شخصا ( متوحشا) من اهالى الجزيرة في علمه الحضارة والمدنية ويعود به إلى ( لندن) عبدا له !!
أحمد محروس يكتب: التوجه الفكرى للمبدع وعلاقته بمعالجة الرواية |
الرواية تنطق ( بالراسمالية) فى أبشع صورها .. راسمالية للقرن الثامن عشر .. وذلك من ثلاث زوايا :
الزاوية الأولى :
ان (الرأسمالية) اساسا وجدت لتقوم على سرقة ( الثروات الطبيعية) لشعوب ( المستعمرات) الهمج البدائيين المتوحشين غير المتحضرين .. وهذه هى الرأسمالية كما عرفها وباركها ( ادم سميث) بعد ذلك فى كتابه الشهير ( ثروة الامم) الصادر فى 1776..
الزاوية الثانية :
( العبودية) وتجارة الرقيق فى القرن الثامن عشر لا يجد الكاتب ( دانيال ديفو) اى لضاضة فى استعراضها وتمجيدها باعتبارها هى الأسلوب الأمثل لتمدين وتحضير الوحوش البدائيين الهمج الذى يعيشون فى ( المستعمرات)... وهى تطبيق مباشر ل ( عبء الرجل الأبيض The White Man burden ) كما صوره الشاعر الإنجليزى ( لورد كيلرن) فى قصيدته الشهيرة باعتبار ( العرق الأبيض) هو العرق المقدس الذى يملك العلم والحضارة والمدنية الحديثة وعليه عبء نقل هذه الحضارة والمدنية إلى باقى شعوب الأرض !!
الزاوية الثالثة :
زاوية التوحد والتعاسة التى خلقتها ( المدنية الحديثة) .. فلم تعد هناك قصور ولا عشيقات ولا مغان ولا راقصات كالتى كانت موجودة فى القصور الفرنسية ( قبل الثورة الفرنسية) ..
فالحياة الرأسمالية الحديثة - المبنية على الصناعة والالات - حولت الناس إلى أفراد منعزلين متوحدين يعانون من التعاسة ..
من البيت إلى المصنع ومن المصنع إلى البيت مرة اخرى .. الله والسعادة الوحيدة المسموح له بها هى ( متعة الزواج) فقط لإنتاج المزيد من العمال مرة أخرى لتدور عجلة ( الرأسمالية) وتصب مزيدا من الأموال فى جيوب السادة الرأسماليين ...
وهو ما عبر عنه العبقري ( تشارلي شابلن) في فيلمه الشهير ( العصور الحديثة) حيث تخيل ان البشر أصبحوا مجرد ( الات) مثل الالات التى فى المصنع تنام فى وقت معين وتقوم فى وقت معين وتأكل فى وقت معين وهكذا !!
أحمد محروس يكتب: التوجه الفكرى للمبدع وعلاقته بمعالجة الرواية |
فلما أتى اثنان من مفكرى اليسار وهما ( المخرج العبقرى / صلاح ابو سيف والمؤلف والمفكر والعبقري الراحل / لينين الرملي) أرادوا إعادة معالجة نفس أحداث الرواية لإنتاج فيلم ( البداية) سنة 1986 ..
هنا انقلب كل شىء راسا على عقب .. الفيلم يحكى عن قصة رأسمالي كان يطير على طائرة فى رحلة تجارية ( جميل راتب) وسقطت الطائرة له فى جزيرة نائية مهجورة وسقط معه كل طاقم الطائرة وجميع الركاب ( وهم احمد زكى الطيار الذى كان يقود الطائرة ويسرا وصفية العمرى وغيرهم) .. واكتشف الرأسمالي انه لا يوجد على أراضي ( الجزيرة) سوى النخيل ..
فقرر ان يجعل من التمر ان يكون هو ( العملة أو النقود) المتداولة على الجزيرة .. وحول كل ركاب الطائرة إلى ( عمال) عنده يجمعون له محصول التمر ( الذى هو ليس أكثر من ثروة طبيعية ليس الرأسمالي أي فضل فى اكتشافها أو تطويرها مثل الأخشاب بالجزيرة التى
كان يسرقها روبنسون كروز ) .. يعطى (تمرا) للعمال بالكاد يسد رمقهم وجوعهم على اساس انه ( المرتب) الذى يكفيهم بالكاد .. وأصبح هو صاحب أكبر ( محصول من التمر) على الجزيرة فأصبح هو ( قوة الاحتكار الرئيسية) فى الجزيرة .. ثم أصبح يخطط لاجراء انتخابات ( ديمقراطية) بالحزيرة يحصل بها على ( الشرعية الدستورية) بحيث يصبح هو ( الحاكم القانوني للجزيرة الذى من حقه إصدار ما يشاء من ( قوانين) فى البلاد .. وهكذا نرى البصمات ( اليسارية) واضحة تماما فى فيلم ( البداية) المأخوذ تقريبا - بذات الملامح - من رواية ( روبنسون كروز) .. وذلك من زاويتين :
الزاوية الأولى :
ان ( احتكار) السلع والخدمات فى اى دولة هو القوة الرئيسية الحاكمة .. وما البرلمانات والانتخابات والديمقراطية الا مجرد أغطية ( قانونية وسياسية) صنعت خصيصا لتكرس ( القوة الاقتصادية الاحتكارية) فى البلاد التى تحتكر السلع والخدمات ..
الزاوية الثانية :
اما الزاوية الثانية فهو ان تجمع ( الأفراد والشعوب) مع بعضها يخلق قوة مضادة لقوة ( الاحتكاريين الراسماليين) فى البلاد .. وهو ما حدث فى كثير من الدول الرأسمالية بما فيها ( أمريكا) فيما يعرف ( النقابات واتحادات العمال) .. فهذه النقابات والاتحادات هى القوة المعادلة لقوة الرأسمالية الاحتكارية بالبلاد .. وهى تعكس ( حالة) مضادة للحالة التى يريدك ( الراسماليون المحتكرون) عليها... حالة الشخص التوحد الضعيف - الذى لا حول له ولا قوة - يعيش ( عبدا) للمصنع وأصحاب المصنع حتى فى منزله ..
وهى الصورة ( المزرية القاتمة) التى رسمها العبقرى ( تشارلى شابلن) فى فيلم ( الأزمنة الحديثة) .. فتجد فيلم ( البداية) يرسم صورة مختلفة هى صورة ( اتحاد للعمال فى الجزيرة يدافع عن مصالحهم المشتركة) فى مواجهة الراسمالى المحتكر ( جميل راتب) !! ..
وهكذا نجد أن نفس ( العمل الروائى) قد تختلف الرؤى والتوجهات التى يتم تقديمها من خلاله باختلاف ( التوجهات الفكرية) لمؤلف العمل ..
أحمد محروس
إرسال تعليق