كتاب في المعركة
كتاب في المعركة: أبطال الطيران في معركة رمضان |
منير عتيبة
نشرت هذا المقال بمجلة عالم الكتاب عدد يناير2020م، وأعتقد أنه لا يزال صالحًا للقراءة. رحم الله اللواء علي زيكو الذي شرفت بلقائه في بيته قبل أيام قليلة من وفاته. في الصور الأديب طارق الدياسطي الذي عرفني بالكتاب والكاتب. والدكتور عثمان زيكو ابن اللواء الراحل.
كتاب في المعركة
في منتصف ثمانينات القرن الماضي كنت طالبًا بمدرسة جمال عبد الناصر الثانوية العسكرية بمنطقة فيكتوريا بالإسكندرية، وكان مقررًا علينا حصة (تربية عسكرية) أسبوعية، كان الضابط المسؤول عن فصلي برتبة عقيد تقريبًا، وكان ممن شاركوا في حرب أكتوبر سنة 1973م، وممن أصيبوا في هذه الحرب، كانت الحصة في حوش المدرسة، في أقل من نصف وقتها نؤدي بعض التمرينات الرياضية الأساسية، ثم نجلس في نصف دائرة على الأرض حول الضابط الذي نسيت اسمه مع الأسف، يحدثنا بصوت هاديء وشديد الحماس، ومعلومات ترقى ليقين من رأي وسمع وعاش بنفسه، ليغرس فينا حب الوطن، وتضحيات أبناء هذا الوطن من أجله، الجملة التي لم أحفظها كما قالها برغم أنه كان حريصًا على ترديدها في كل حصة بيقين مطلق، لكني لا أنسي معناها، هي: (فليفعل الساسة ما يشاؤون، وليقل السادات ما يريد عن السلام وآخر الحروب وكل هذا الكلام، لكن عقيدتنا كضباط وجنود أن لنا عدوًا واحدًا، كان وسيظل، ولابد أننا سنحاربه مرة أخرى وربما مرات، هو إسرائيل). المعني نفسه قاله قبل ذلك بنحو خمسة عشر عامًا وبالتحديد في ديسمبر سنة 1973م، العميد طيار وقتها (علي زيكو) في كتابه (أبطال الطيران في معركة رمضان)، حيث قال في صفحة 149:
(لقد انطفأت صور العدو التي حاولوا فرضها على العالم ولسنوات، وقسرا لتصديقها وكانت تصلنا نسخ منها ونتأملها، ونعرف أصلها وفصلها. ولم نصدقها، ولم (تنطل) علينا وحاليا مازال الأبطال يعملون ويعملون.. وكأنهم ما زالوا ينتظرون معركة رمضان وكأنهم مازالوا في لهفة ما قبل معركة رمضان لمعركة رمضان.. إعداد واستعداد.. عمل في هدوء وصمت وبلا كلل أو تعب. إنهم جميعا في انتظار الشرارة الثانية.. في أى لحظة.. فورا.. بعد ساعة.. بعد يوم.. في أى وقت). الشرارة هي كلمة السر التي أطلقها الرئيس محمد أنور السادات لبدء المعركة.
لا أدري إن كان هذا أول كتاب نشر عن حرب أكتوبر في مصر أم لا، فقد نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعته الأولى سنة1974، والنسخة التي وصلتني كانت من طبعته الثانية الصادرة سنة1976، وقد انتهي الكاتب من كتابته في ديسمبر1973 أى بعد شهرين تقريبًا من اندلاع المعركة في السادس من أكتوبر من العام نفسه، وكأنه كان يحارب ويسجل في ذات الوقت.
وربما لأنه يعلم أنني سأحبه كان هذا الكتاب حريصًا على أن أقرأه، فوصلتني نسخته من مؤلفه اللواء طيار علي زيكو أعطاه الله الصحة عن طريق ابنه الدكتور عثمان والأديب الشاب طارق الدياسطي، وهي أمانة غالية جدًا لأنها النسخة الأخيرة لدى المؤلف، علي أن أقرأها ثم أعيدها إليه.
تشعر وأنت تقرأ الكتاب بأنك في قلب المعركة حقًا، فالكتاب مسطور بأسلوب أدبي راقٍ، ودقة وأمانة علمية شديدة، وحس أمني عالٍ، ووطنية متفجرة، وإيمان بالله لا يتزعزع.
قدَم للكتاب المشير أحمد إسماعيل علي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وقتها، والذي يؤكد في كلمته على إيمانه بقدرة رجاله، وأهمية العمل والتخطيط لدخول المعركة وكسبها، ويؤكد المعني الذي بدأت به مقالي هذا (..كما يكشف في الوقت نفسه عن عمق استعدادهم لمزيد من العمل الجاد في ثقة كاملة بأنفسهم وفي قدراتهم على إتمام مهامهم بنفس العزم والشجاعة حتي نستكمل انتصاراتنا)ص12.
كتاب في المعركة، منير عتيبة |
كما قدم له أيضًا الفريق طيار محمد حسني مبارك نائب وزير الحربية و قائد القوات الجوية وقتها والذي يقول:(فترة طويلة في صراعنا مع العدو الإسرائيلي منذ عام 1948، وكانت ظروف الجولات السابقة متشابكة ومتباينة، إلا أن طابعها كلها كان يتسم بتآمر الاستعمار مع الصهيونية العالمية على وطننا العربي كله وعلى مصر بالذات... وإسرائيل في الواقع دولة قامت على فرض السلام الإسرائيلي بالقوة العسكرية... في أى مرحلة من مراحل الصراع لم تدخل إسرائيل وحدها أى معركة، بل كانت دائما إما طرفا مع دول أخرى في طواطؤ سافر أو مدعمة بمرتزقة ومحترفى تقتيل من دول استعمارية أخرى)ص13، ويقول في صفحة 59:(لقد تصدت مصر على مر العصور لأطماع الغزاة، ودحرتهم واحدا إثر الآخر وستكون مصر نواة التجمع العربي لدحر الغزوة الصهيونية- نوفمبر1972). فماذا فعلت السياسة بهذا الرجل وكيف انتهى بأن يكون من أهم أصدقاء إسرائيل في المنطقة؟!
يتناول الكتاب الاستعدادات التي قامت بها القوات الجوية لدخول المعركة، وعمليات الخداع الاستراتيجي التي نفذتها لتوهم العدو بأنها لن تحارب، مثل إشاعة أن قائد القوات الجوية وكبار قواده سيزرون ليبيا يوم السادس من أكتوبر، ومثل التحضير لزيارة للأميرة مرجريت الإنجليزية لمصر في ذلك التوقيت.
ويلتقط الكاتب إشارة ذكية فيقول:"من المصادفات أن كان السادس من أكتوبر1956 والأيام التالية له حافلا بأعمال واجتماعات لتدبير العدوان الثلاثي على مصر من جانب العدو، ومن المصادفات أيضًا أن السادس من أكتوبر عامي 1956، 1973 كان يوافق سبت... أحداثًا جرت في الظلام وأخرى تمت فى النور. الأولى كانت لتدبير العدوان.. والثانية كانت في سبيل الحرية"ص143. ثم يعقد مقارنة بين الأحداث التي جرت منذ سبت1956 وسبت1973 والأيام التالية لهما.
ثم يفرد الكاتب معظم صفحات كتابه لعرض صور من البطولة النادرة والفدائية التي شاهدها بنفسه أو وثقها من أبطالها، وهي صور لو اطلع عليها صناع السينما لما احتاجوا لخيال سقيم ولا نقل من أفلام عالمية عندما يريدون صنع فيلم عظيم عن حرب أكتوبر1973، لكنه بحس أمني عالٍ لم يذكر أسماء هؤلاء الأبطال، ولا بعض المعلومات التي قد يستفيد بها العدو، ستجد الطيار الذي يقضي على طائرة فانتوم وهو يقود طائرة هليوكوبتر ويعود سالما، والطيار الذي يحارب مع سربه ويعود إلى دشمته برغم أن كل العدادات لديه لم تعد تعمل، وبرغم أنه كان لا يري أمامه، بسبب قذيفة طالت كابينة القيادة، لكنه كان يسير بحسه العالي بجوار قائد سربه، وستجد من يركب عربة جيب ويدخل في قنبلة ويروح شهيدا، حتى لا تصيب القنبلة الطيار والطائرة عند نزولهما إلى مطارهما، ومن فعل الفعل نفسه لكنه قفز قبل أمتار من تفجير السيارة في القنبلة، ستجد من يركبون محرك طائرة في ليلة واحدة حتى أن القائد يضاحكهم قائلًا:"أنا قبل الحرب بأسبوعين احتاج تغيير محرك عربتي الفولكس إلى ثلاثة أيام". لكنهم فعلوا المستحيل، وانطلقت الطائرة لتحارب، صور من التنظيم والتخطيط تقابلها، وصور من البطولة والفدائية وإلهام اللحظة، وكلها تجعلك تحب وطنك أكثر، وتؤمن بالله أكثر وأكثر.
كتاب في المعركة، منير عتيبة |
الكتاب به عدد كبير الصور المهمة والخرائط والرسوم، وبه أيضًا بيانات المعركة في الفترة من 6 أكتوبر حتى 24 أكتوبر1973، والتي يقدم لها الكاتب بقوله:(تلك البيانات التى اتبعت مبدأ الصدق وذكر الحقائق المجردة والتى تمثل سجلا مختصرا لسير المعارك). وقراءة متأنية لهذه البيانات تؤكد ما ذكره الكاتب، وتعطي صورة واضحة عن خطوط سير المعارك، وتقدم الجيش المصري فيها يومًا بعد آخر، وما كبده للعدو من خسائر فادحة، وما دفعه من ثمن مقابل تحرير أرض غالية يجب ألا ننسى ما دُفع ثمنًا لها من دماء أبناء الوطن.
هذا كتاب لابد أن تعاد طباعته مرات ومرات، وأن يوزع بالمدارس الإعداداية والثانوية، لقيمته التوثيقية، ولحسه الوطني والإيماني العالي اللذين نحتاج بشدة لغرسهما في نفوس الأجيال الجديدة.
إرسال تعليق