الظاهر والمضمر في مجموعة قصص "من أحوال المحبين" للكاتب أحمد حلمي 


هاني منسي يكتب: الظاهر والمضمر في قصص "من أحوال المحبين" للكاتب أحمد حلمي
هاني منسي يكتب: الظاهر والمضمر في قصص "من أحوال المحبين" للكاتب أحمد حلمي



هاني منسي

في المجموعة القصصية "من أحوال المحبين" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب سلسلة كتابات جديد جاء العنوان موفق جدًا، فالحال، اصطلاحًا، هو ما عليه الإنسان من أمور مُتَغَيِّرة حِسِّية أو معنويَّة وهكذا جاءت "أحوال المحبين"، وسبقها بحرف الجر "من" لتكون جزء من كل لم يقله، أو جانب من أحوال مرتبكة مشوشة مأزومة -في الغالب- من أحوال المحبين، لذا نجد اهتمام الكاتب بالحال في القصص، فمثلا، يبدأ قصة "مجنون الشمس" كالتالي " ملطخًا بالشحم، …، منحنيًا بجوار السيارة … غارقًا في عرق من جاز، ...، منكفئًا على موتور ألماني"، وينهي قصة صلصلة بـ"تمضي منسحبًا مع التيار" وفي وجبة الجحيم نجد جملة "جلس إليها مبتسما" وينهي نص الجنون بـ"فأمضي هادئًا محتقرًا العالم".

يبدأ أحمد حلمي مجموعته بإهداء "إلى كل الأصدقاء الذين ظهروا كأبطال أو ضيوف شرف أو أشباح …"، ثم يفاجئنا بعبارة "في هذا العمل" إذن فالإهداء هنا ليس لأصدقاء حقيقيين، ثم يفاجئنا مرة أخرى أن العمل هو ثمرة تفاعل حيواتهم مع حياته، فمن الإهداء صدّر الكاتب أبطاله بطريقة مربكة، وفي العمل لا تستطيع أن تفصل الواقع عن التخييل، ولا تستطيع أن تجزم هل البطل يعاني الحنين للعلاقات الماضية أم هي أحلام يقظة كان يتمنى أن يعيشها، وفي جو عام يسوده التشويش والرمادية منذ الإهداء، كما أن هناك سرد دائري في العمل، هناك إهداء دائري أيضًا، فنجد في نهاية الكتاب شكر خاص موجه لأشخاص حقيقيين، مقربين للكاتب ومعروفين لأغلب الوسط الثقافي، أما القارئ خارج الوسط الثقافي سيرى هناك سيمترية دائرية في الإهداء والشكر، يؤطر بهم الكاتب أبطاله أو يضعهم -بعض من أحوال المحبين- بين قوسين كبيرين.

 يعقب الإهداء نصًا يحمل عنوان "مفتتح" يتصدر المجموعة بلغة صوفية شاعرية، بدأ بالعنعنة " حدثنا أستاذنا عن شيخنا عن مولانا الفضل بن إدريس النيسابوري" فيجد القارئ نفسه أمام شيخ صوفي ينصح مريده عندما يمر الناس في حياته "....لا تعطيهم غير نظرة واحدة، تتدرج بين الود والامتعاض، لا حسب حالهم بل حسب حالك أنت .... " ويأمره أن يكتب في كتابه أن الأصل هو العدم، والوجود استثناء، ويدور الأبطال، بل يدور البطل، في القصص في دوائر زمنية ليعود إلى النقطة صفر، في أغلب الأحيان سلبيًا ومعذبًا، منتظرًا دائمًا، وأي نقطة بداية جديدة تؤدي إلى اللاشيء.

نجد الكاتب، في نهاية قصة عناق أول يضع نفسه كنقطة في الزمن، ويتكلم بلسان "الآن"، وهي نقطة العدم في الفيزياء، ليس لها وحدة قياس كالماضي والمستقبل ويقول "الآن: أضع كل هذا في صدر الذاكرة، كمعيار لكل العناقات القادمة."، فهو في منطقة الآن يربط العناق الأول (الماضي) بكل العناقات القادمة (المستقبل)، فيُظهر الإنسان الصوفي، يشعر بالاستغناء والاستكبار واللامبالاة، ويضمر حقيقة الإنسان المعذب، والمنكسر والمكتئب، والذي يتجلى بإنسانيته عندما يعترف بما يعتريه من سلبيات، فالحبيبات يرحلن، ويأخذن من روحه حين يمضين، ويتركنه وحيدا.

يبدو أن الكاتب قرر أن يعمل بنصيحة جون برين في كتابه " كتابة الرواية" : "لا تفزع حتى من أشد الذكريات إيلامًا، أفرغها أمامك وعندئذ ينتهي فزعك" فقرر أحمد حلمي أن يحرر ذهنه - ذهن أبطاله - من كل الصناديق المقفلة والأبواب المغلقة، وفتح صندوق ذكرياتهم، يستدعيها، لا بجوهرها، فربما لا نعلم سبب المعاناة بالضبط، لكنه يعرض النتائج أو الآثار الجانبية، ولا نعرف الزمان في النصوص، فنجده يذكر الزمن الصغير مثل قبيل الفجر، الغروب، المساء، لكن لا تعرف في أي يوم أو سنة، ولا نعرف المكان العام فنجده يذكر مكان خاص الكوخ، المقهى، .. إلخ، يصلح في أي بلد، لا يذكر اسم البطل أو وظيفته، أو ملامحه الشخصية، إنما يستدعي الحالة النفسية التي عانى منها في الماضي، وسببت له الآلام، أو بعضا منها، يستدعي ذكريات أبطاله هنا والآن -العدم- بنوع من التسامح الصوفي، ففي نهاية قصة الأستاذة " الآن وأنا استعيدها من الذاكرة فلا أجد منها إلا نظرات انبهار وتقدير،" ويركز في العلاقات على نظرة الآخر له، وكيف تراه وتشعر به، فيظهر الإنسان الذي يدّعى اللامبالاة والغرور، يضمر إنسانا مراع لشعور الآخرين ويعمل ألف حساب لنظرة الآخر له، حيث يقول في قصة وعد واحد "....وأبكي من روعة إحساسها نحوي في هذه اللحظة".

 ويقول في نص قراءة الطالع على لسان البطلة وباللغة الإنجليزية المترجمة بالعربية في الهامش"الحزن أول طريق الشفاء، فلا تقلق." قد يكون ما هو مؤلم من الذكريات أكثرها فائدة للكتابة، كما أنه لم يعد يسبب له نفس الألم السابق، وهو في قرارة نفسه لا يستطيع أن يتوقف عن ذلك البوح الذاتي، ربما كنوع من الشفاء، يستدعي الألم كشريط سينمائي يعرضه، ويضع نفسه في مقاعد مع المتفرجين، يشاهد هو نفسه مع القارئ، يختار ما يعرض من ذاكرته، يترك مساحة كبيرة للقارئ لملئ الفراغات، يشارك القارئ بشكل أساسي في النص فالغموض يفتح مجالات التأويل والرموز تحمل دلالات مختلفة عند القراء.

الجملة عند أحمد حلمي تضمر أكثر مما تصرح، لكن ربما الاختزال المجحف أحيانا يضع القارئ العادي أمام حل معضلة أو لغز وليس قصة قصيرة، اللغة منضبطة مختزلة ماكرة، يجد القارئ نفسه منغمسا معه في السرد، ومشاركا للأحداث، ومتخيلا للفراغات الموجودة، حسب خبراته، فمثلا في قصة طوال الليلة الماضية " وأجيب إجابتي المحفوظة، ....فتشرق الشمس قبل موعدها بساعات" الكاتب بذكاء لم يذكر تلك الإجابة وترك القارئ يستنتجها أو يكملها حسب ذائقته، المهم أن تؤدي إلي نفس النتيجة ألا وهي أن تشرق الشمس قبل موعدها.

عدم اليقين ملمح عام في أغلب القصص، حيلة فنية استخدمها الكاتب بوعي منه لتناسب الذكريات المشوشة، ويصاحبها سماوات رمادية في مخيلته، فمثلا في قصة تبدأ بعنوان -لا يقين فيه- وهو "الدرجات الخمس أو الست" يقول الكاتب "لعله لسبب آخر، لا أذكره الآن، ..."لدقيقة أو يزيد"، "لا أذكر المناسبة التي دفعتني في ذلك اليوم لانتظارها، هل .... أم كان يومي الأول....أم كانت مناسبة ثالثة".

 التكثيف الشديد هو ملمح عام في قصص المجموعة، بعض القصص كانت عبارة عن فقرتين فقط، فمثلا في قصة "روح مغبرة في صندوق" يبدأ القصة بسؤال "لماذا فتحت الصندوق؟" وينهيها بسؤال "أغلقت الصندوق؟"، وفي نص الجنون بدأت الفقرة الأولى"سألتني: ..." وانتهت القصة بالفقرة الثانية "أجبت:...."، في قصة دون خط رجعة قسمها الكاتب إلى ثمانية مقاطع مرقمة، كل مقطع سطرين أو ثلاثة، يبدأ المقطع الأول "تقدم إليها في غير سرعة.." وانتهي المقطع الأخير "رحل مستعدا لسنوات من الضياع، متسلحا بسيل من الذكريات والتذكارات...ودون خط رجعة" وهنا يظهر مرة أخرى البطل مستعدا ومتسلحا، وتعني الإيجابية، لكنها تضمر الانسحاب والسلبية لدى الكاتب الإنساني.

قصة المجرم قصة مشبعة، يبدأ بسؤال مخاطبا القارئ "هل أنا مجرم؟" ويستخدم كسر الإيهام "سوف أحكي لك في عجالة....لعلك في النهاية تستطيع إجابة السؤال الذي بدأنا به"، يشرك القارئ معه "بدأنا به" وليس بدأت به، لخلق جو من الحميمية مع القارئ، والانغماس في معاناته، ونجده يستنطق القارئ، ويرد عنه " (أنت حيوااااان)، أعلم أنك تقولها في سرك. نعم، أوافقك الرأي تماما،...." وبهذا وضع المتلقي - أو يجعل المتلقي يضعه- في خانة الصديق المقرب.

في قصة الوجود الجديد يلخص دورة حياة المعذب في دورة الزمن "فيصبح إحساس الدوامة هو المسيطر. دوائر لا نهائية بلا مركز معلوم. تخرج من إحداها؛ لتسلمك إلى أخراها.... وتستمر حتى دورة الأحداث الجديدة؛ لتعود مرة أخرى كما..." وتنتهي القصة بثلاث نقاط ليكملها القارئ بأريحية شديدة ومحتومة هذه المرة، ليفسر دورة العذاب الذي ذكرها في المفتتح وكررها في بعض القصص.

هناك قصص ممتدة في أكثر من نص فمثلا القصة الأخيرة "سيجارة للرجل العجوز"، تسبق القصة الأولى "مفتتح"، هنا سرد دائري، والبطل هو نفسه الشيخ والمريد في نفس الوقت، يتحدث بـمونولوج، ربما يدور داخل عقل البطل نفسه، كما أن هناك ارتباط بين القصص على سبيل المثال قصة "لوحة بيضاء ومنتظر" وقصة "طوال الليلة الماضية".

كما أن هناك ارتباط وثيق بين حاستي (الشم والتذوق) والذاكرة، يظهر في أغلب القصص، في عبارات مثل "رائحة البطاطا والعسل"، "أمتص رحيق الوجبة"، "تشبه خليطا من رائحتي المانجو والخوخ"، "المطعمة بنباتات الليل المسكرة"، "لأنهل من رحيقك ورحيقها"، "مع رائحة الفواكه الاستوائية"، "كوب القهوة... يغريني برائحته وتأثيره" ، "تسبقها رائحة الفشار المخلوطة بالفانيليا" ، "أنتظر رائحة ألوانك المنبعثة من البالتة"، فهو يحتفي بالرائحة في نصوصه، ويشكو من ندرتها فمثلا في قصة ليلة مقمرة أخرى يقول "كيف أذكرهن وقد كن جميعا بلا رائحة"

في التنسيق الداخلي للكتاب نجد استخدام جيد لعلامات الترقيم، واستخدام فونت غامق في أول كلمة من كل نص جاء مناسبا لاحتفاء الأبطال بالبدايات، كما استخدام فونت مختلف لسرد الحلم في قصة "طيف هارب"، وترك مساحات فارغة قبل بداية القصة، ربما فتح مجال للقارئ لاستدعاء القصة السابقة، واستيعابها، أو الرجوع إليها مرة أخرى، قبل الدخول للقصة التالية، ولالتقاط الأنفاس بعد التكثيف الموجود في القصص، لم يعجبني كتابة العنوان في صفحة مستقلة، بعيدا عن النص، ربما يضع القارئ في نوع من التحدي لتخمين ما القادم، لكنه مربك، أرى أن يكون العنوان مع النص ليعطي ترابط الفكرة بشكل أفضل.

لاحظت أنه لا يوجد رجل آخر غير البطل في الكون، لا يوجد منافس، الكون من حوله مبهم مغيم، كهوف غابات، وصحاري، والمنازل كهوف أكواخ، لا توجد مظاهر الحياة الأسرية بالمعنى الذي نعرفه أب وأم وأخوة وأخوات، ولا تفاصيل حياتية مثل العمل والسكن والشوارع والمواصلات والطعام والشراب، هذا التجريد والتهميش المتعمد من الكاتب ليوصل فكرة العدم هو الأصل والوجود هو الاستثناء وأن الإنسان الحديث لم يعد مركز العالم.


Post a Comment

أحدث أقدم