قصة قصيرة

سعاد



قصة قصيرة: سعاد، بقلم سمير الفيل

 

    سمير الفيل 


رأيتها عندما كانت تزور خالها ، النجار الحشاش ، الذي يلاصق باب شقته باب بيتنا الذي انتقلنا إليه حديثا ، حوالي متر ونصف بين البابين ، وجير متساقط ، وخنافس سوداء تتسحب بهدوء ونحن لا نعيرها التفاتا ، وكلب. 

الكلب ، هو مربط الفرس في الحدوتة ، فقد كان عم عبده ، وشهرته الحشاش ، يربي كلبا راح يتضخم في حجمه حتى صار بعلو مهر صغير . رغم ضيق زوجته منه ، كان يعاندها ، فيجلب له قطع كبيرة من عظم يخلو من اللحم ، يسلقها له ، ويضعها في تلك المسافة التي تتساقط أمامها طبقات الجير بفعل الرطوبة، فمدينتنا متحيزة للبرد ، وقد اعتادت على الرطوبة ، وصار أغلب نسائها يسعلن في الليل بفعل نوبات البرد وحساسية الصدر ، أما الرجال فكثير منهم يعرف المزاج ، ورغم صلاتهم وصيامهم وحجهم البيت العتيق لمن استطاع إليه سبيلا ، فهم لا يرون في الحشيش أي خروج عن الفطرة السليمة. 

يقولون في مجالسهم أن " شارب الكأس في جهنم ، وشارب الدخان في الجنة " ، وهو قول مغلوط ، ومردود عليه ، من شيوخ عتاة ، لكن الأمور تسير هكذا في شارعنا، والشوارع المجاورة .

 يأتي الجاويش فيتفقد الحارة ، ويلقي تحية المساء على الجالسين يتناقلون الجوزة رافعين أكفا متثاقلة: " مساء الخير .. يا دفعة " .
تستمر كركرة الماء في الجوزة التي هي بالأصل ثمرة جوز هند قادمة من اندونيسيا ، تم تفريغها مما بداخلها ويفيد ماء الثمرة في علاج المثانة وأمراض الكلى ، وصارت لها وظيفة يعرفها المساطيل وأصحاب المزاج العالي .

كنت أحمل كتاب الجبر ، والقي نظرة قبل الطلوع على " الشخشيخة " للمذاكرة ، حينما وجدت كلب الجيران يقعى أمام بيت عم عبده مباشرة . تريثت قبل الصعود ، في نفس اللحظة التي استمعت فيها لصوت كعب حريمي يطرق بلاطات السلم .

 فجأة وجدتها أمامي ، بدت مذعورة ومتهيبة ، فتغلبت على خوفي ، وقلبي يدق بعنف ، محاولا إخفاء رعبي ، قلت وصوتي يكاد يطلع من حلقي بصعوبة : " ما تخافيش ، هو شكله وحش ، بس قلبه طيب".

نظرت نحوي مستنكرة ما تفوهت به ، وهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى : " ممكن ، يا اسمك أيه .. تبعده عني ؟ " 
بتوسل تحسست شعره الأسود الكثيف المرقط ببقع شهباء وجعلت جسدي حاجزا بينه وبينها :" هات إيدك ، ما تخافيش ".
مدت يدها المرتجفة ثم سحبتها بسرعة وهي تطل في عيني : " طيب ، بس أبعده ، خده فوق ، يا دوب سلمتين ، علشان أدخل بيت خالي ".

قلت متفهما المأزق :" خالك ..عم عبده؟ ".
 هزت رأسها إيجابا ، وكما رأيت الخال يمسد شعره ، ويضع له قطع العظم ، حاولت تقليده . رجوتها أن تبقى دقيقة ، دخلت بيتنا ، وكانت أمي تكمل طبخها في حجرة المطبخ الضيقة : " ممكن آخد شوية شوربة ، أصلي جعان قوي".
جأرت بصوتها :" مسروع على أيه ؟ إياك تاخد نايب اللحمة".
 توسلت إليها بنبرة أقرب للاسترحام : " ممكن حتة عضمة ؟" .
رمقتني بنظرة متحيرة :" بسرعة ، أغرف وما تضايقنيش . إيدي مش فاضية".
 ما كدت أسمع جملتها الأخيرة حتى أسرعت بإمساك الملعقة وتقليب الحساء حتى عثرت على بغيتي . أخذت قطعة العظم في طبق به حساء قليل ، وخرجت متسللا خارج الشقة بعد أن واربت الباب .
 كانت تنتظرني ، ووجهها ممتقع:" ما تخافيش ".
 نفخت بفمي في الحساء حتى يبرد ، وصعدت حتى العتبة المؤدية للسطح ، وضعت الطبق وصفرت بفمي كما كان يفعل عم عبده جارنا ، فهز الكلب ذيله ، وصعد إلى العزومة.

بغير إرادة مني هبطت سلمتين ، أمسكت بيدها أحميها ، وهي سلمت لي نفسها حتى صرنا أمام باب الشقة ، سألتها : " مبسوطة ؟ "
 ـ " طبعا ".
ـ " أنت خوافة ليه؟ " 
ـ " ما أنت كمان كنت خايف ".
 شملني الإحراج ، تغلبت عليه :" اسمك أيه؟ "
ـ " يا خايب ، مش عارف .. وأنا هنا كل يوم؟"
ـ " يعني أنت عارفاني ؟"
ـ " طبعا ، بالأمارة اسمك أسامة ، وشاطر في المعهد. ساعات بتدي درس للبنت بطة ، بنت خالي ".
ـ يبقى أنت لواحظ ؟" 
ـ " أبدا ، أنا أختها . سعاد".
 دققت في ملامحها ، كان في وجهها نور ، وابتسامة تضيء المكان كله ، ربما لارتباكي ظللت ممسكا بيدها .
 خطفت من يدي كتاب الجبر:" أنت شاطر في المادة دي ؟"
ـ " مش قوي . أنا شاطر في العربي والمواد الاجتماعية ".
ـ " تعرف تشرح لي الخريطة ، وتعلمني رسمها".
ـ " طبعا ".
ـ " خلاص ، هاتفق مع بطة ، يا ريت خالي ما يتضايقش ".
ـ " وأيه اللي هيضايقه ؟"  

قبل أن تكتمل الجملة فتح الباب فجأة ، وأطلت مديحة زوجة عم عبده بوجهها ، وجدتنا نتحدث : " غريبة. أنتو تعرفوا بعض ؟".
 قالت سعاد لترد الاتهام :" والله أبدا. أول مرة أكلمه. هو اللي أبعد الكلب . حتى اسأليه ؟"
ـ لوت شفتيها :" هو الكلب بيتكلم ؟"
ـ " أقصد ده. " .

أشارت نحوي ، فسحبتها زوجة الحشاش لداخل بيتها ، طرقت الباب في وجهي ، وتأكدت أن تدبيرنا المتسرع قد فشل فشلا ذريعا . تأكدت من هذا ، والكلب ينهى نحت العظام بأنيابه ، وقد جاء ليحتك بجسدي طالبا المزيد .
 أوشكت أن أركله من شدة غيظي غير أن باب شقتنا فتح ، وصرخت أمي في وجهي ، وهي تتميز من الغيظ بعد أن رأت الطبق على العتبة :" أيه ؟ صاحبت الكلب خلاص؟ " .

وددت أن أخبرها أن وراء باب جيراننا المغلق فتاة حلوة اسمها سعاد ، لكنها طلبت مني الطبق وأمسكته بورقة من جريدة قديمة حتى لا تتنجس يدها ، بعد أن أدركت أن الكلب هو من كان يأكل فيه قطعة العظم ، ضربت صدري بقبضتيها ولطمتني ، فلم أشعر بأي ألم.
بعد أقل من شهر حصلت " بطة " ابنة عم عبده على " كعكتين " ، الأولى في اللغة العربية ، والثانية في الكيمياء ، ـ والكعكة دائرة حمراء تحيط بالدرجة الدالة على الرسوب ـ كانت بالصف الثاني الثانوي ، متأخرة عاماً كاملاً عن سعاد التي لم أعد أراها . 
كلمت أمها أمي من شباك المسقط ، الذي كانت تربي فيه البط والدجاج ، وفيه نخفي ألعابنا الصغيرة من نوى المشمش وأغطية زجاجات المياه الغازية. كنت أسبقها بسنتين ، وقد تدربت في معهد المعلمين على طرق التدريس وخرجنا لتطبيق ذلك في حصص التربية العملية . 
استقر رأي أمي أن أذهب لمساعدة " بطة " ـ التي جاءت شهادتها تحمل اسم فاطمة عبده الشرباصي ـ في المادتين ، لأن الجيرة لها حقوق ، ويبدو أن الموضوع جاء بعد أخذ ورد ، حيث أقسم عم عبده الحشاش على ألا يدخل بيته أي احد من الشقة المجاورة لأن أمي لا ترد عليه السلام ، وإذا رأته تغلق الباب كأن الطالع سلم البيت عفريت. 

كان عم عبده ينظر نحونا بريبة ، لكن ابنه الأخرس شوقي ، رغم صغر سنه ، محل عطف مني ومن أمي ، فمع تعودنا عليه فهمنا لغة الإشارة وترجمنا همهماته التي تصاحب حركات يديه العصبيتين . 

الشيء الذي لم يعمل له أحد حسابا هو أن يتصل به شريكه في المحل طالبا إياه بالسفر بعد أسبوع ليلحق به في مدينة طرابلس اللبنانية ، وهو ما نفذه بعد حوالي تسعة أيام قضاها في تجهيز جواز سفره والحصول على تأشيرة الدخول ، وغيرها من أوراق. 
قبل أن يسافر بساعات سمعت طرقا على باب الشقة ، ظهر بوجهه المتغضن المملوء بالبثور ، طلب رؤية أمي ، التي جاءت بسرعة وقلبها يدق خوفا من أن يكون قد وقع مكروه لزوجته مديحة . سلم عليها فوضعت أمي طرف الطرحة بين يديهما فضحك وقال باستظراف :" على العموم ، أنا ناوي أريحكم مني . بكرة الفجر هاركب الباخرة من الإسكندرية . عندي طلب بسيط . المحروس ابنك يذاكر لبطة العربي والكيمياء ، وأنا لما ارجع ، هاجيب له ساعة فضة ".

ضربت أمي صدرها بيدها ، مستنكرة :" هو احنا مستنيين هدية من حد ؟ "
في مساء يوم سفره ، كانت سعاد تدق دقاتها الخافتة ، وفي اتفاق غير معلن جلست معنا ، وراحت تذاكر دروسها ، بعد أن انتهيت من حصة العربي مع بطة ، أخرجت الأطلس الجغرافي ورحت أشرح لها تضاريس قارة آسيا .
كانت يدها تتكيء على طرف المنضدة ، بينما إصبعها تشير إلى جبال الهيملايا وقمة أفرست ، ثم تنحدر مع شرحي لتصل إلى هضبة الدكن ، وخليج البنغال من جهة الشرق . سألتني عن نهر صغير يصب في البحر العربي ، قلت إنه " نهر نربادا " ، الذي يصب في خليج " كمبي " على بحر العرب. 

تعجبت سعاد من الاسم ، في نفس اللحظة التي سمعت فيها صوت طائر يرفرف ، ويهبط على غصن شجرة قرب مصب النهر. تعجبت سعاد لشرودي ، سألت عن السبب فحكيت لها عن الصوت الذي خطف قلبي.
 ضحكت ولم تصدق :" أنت هوال! ".
لحظة وسمعتها تشكو ، أن رأسها يدق بقوة ، لكأنها صعدت وهبطت عشرات القمم الجبلية ، سرعان ما أسندت رأسها على كفها الصغير. 

دخلت علينا أم بطة ، سألتنا بلهجة الأمر : " طبعا ، تشربوا شاي ".
 لم يرد أحد ، ولأن السكوت علامة الرضا ؛ فقد توجهت للمطبخ ، أما ابنتها فقد لحقت بها ، تحدثها . وجدتني في مواجهة سعاد. بيني وبينها أقل من 50 سم ، قلت لها قلقا: " أنت مريضة "؟ .
ردت ، وهي تنظر نحوي بفضول :" صداع بسيط ". 
رددت من فوري :" عندي لك حل جميل".

 لم أنتظر ردها ، حيث أخرجت منديلا من جيبي ، طبقته بحيث يمكنه أن يكون مستطيل الشكل . وضعت في منتصفه قرشا نحاسيا ، هو العملة الوحيدة التي كانت معي . قمت ، فوقفت خلفها مباشرة ، أحطت رأسها بالمنديل ورحت أربط عقدة خلف رأسها .
 لامست بدون قصد شعرها ، وشممت رائحة العنبر كأنه قادم عبر " مرتفعات الغات الغربية " .
 قالت ، وهي تعتدل : " كفاية . استرحت الآن ! ". 

عدت لأجلس مكاني :" سيبي المنديل خمس دقايق".
وقد كان ، فعندما عادت بطة بصينية الشاي كان الألم قد راح ، عاد لوجهها إشراقه ، وبدت مبتسمة طيلة الوقت . كان علي أن أمد يدي لأخذ كوب شاي من الأكواب الثلاثة لكنها دون أن تسألني وضعت في كوبي أربع ملاعق سكر ومدت يدها نحوي ، ثم صبت الشاي في الكوبين الآخرين ووضعت في كل منهما ثلاث ملاعق .

لما استفسرت منها عن السبب ، قالت بتحد أقرب للدعابة :" علشان تقدر تشوف شغلك كويس ! ".
العام هو 1970 ، والجيش يحاول أن يستعيد توازنه ، ويقرر أن يخوض حرب الاستنزاف لإزعاج الجنود الإسرائيليين في سيناء ، وعلى امتداد خط القناة ، وأنا في العام قبل الأخير من التخرج ، أحضر مسرعا لالتهام سندويتش فول قبل الذهاب للورشة بعد العصر . 
لم يعد وقتي يسمح بالذهاب إلى شقة جيراننا ، واشتقت كثيرا أن أرى سعاد لكن المعلم عوض أبوخوخ كان صعبا ، بحيث لا يتيح لأي صبي فرصة التقاط الأنفاس . كنت أقف في الورشة ممسكا بالأزميل ، ويدي تثبت قطعة الخشب قبل حفرها بدقة مظهرا الزهور وتفريعات الأغصان .

 سمعت : " بس .. بس .. بس ". وجدتها تقف أمام الورشة ، تبدو مرتبكة :" ما عدتش بتيجي ليه؟" .
 قلت لها بأسى ، مستسلما للأمر الواقع: " زي ما أنت شايفة . شغل الورشة بياخد كل وقتي . ". 
ضحكت وهي تشاغلني بنظرة ودودة :" أنت نسيت منديلك معي ". 
قلت بمرح :" يا ستي .. خليه معاك لما نتقابل" .
قالت بجدية :" ممكن يوم الجمعة ؟" 

هززت رأسي بالإيجاب . وهي اكتفت بهذا الوعد ، فمضت في طريقها المؤدي لبيت أسرتها . سألني الصبية عمن تحدثني فقلت وأنا أداري كذبي : " ابنة خالتي ". 

جاء المعلم عوض ونحن نتحدث ، منشغلين عن العمل قليلا ، فعنفنا ، طلب منا أن نجهز " الطريحة " بأقصى سرعة حتى لو حضرنا يوم الجمعة.
 هرش في رأسه وهو يكررها : " اليوم محسوب بيومين "

تهللت أسارير الصبية ومضوا في الحفر بحماس شديد فيما تباطأت ، وشرد فكري في الموعد الذي لن أفي به . انزعجت جدا ، وانكسر قلبي قليلا.
في مساء الجمعة مر بالورشة شوقي ، شقيق بطة ، الأخرس ، تحدثت معه بالإشارة ، وطلبت منه أن يحمل رسالة اعتذار لسعاد، عرفتها فيها أنني بالورشة ، ويصعب أن أفي بالموعد.
في تمام التاسعة مساء ، كنا قد انتهينا من تجهيز " الطريحة " وجلسنا على الرصيف ننتظر " القبضية " ، ومعها اليوم الزيادة. رأيتها تقف على الرصيف المقابل . لوحت لي ، ومضت حتى لحقت بها ، قلت معتذرا: " ما قدرتش أحضر".
 قالت لتهون من الأمر :" وصلني جوابك. ما تزعلش يا سيدي . الجايات أكتر من الرايحات". 
كان الضوء شحيحا وعامود الإنارة ينشر ضوءا كابيا ، حدقت في عينيها فوجدت اللون البني الفاتح يعطيها جاذبية أكثر ، اللون الذي قلت لها يوم الدرس الأخير أنه يوجد كمفتاح للخريطة عند هضبة التبت حيث السفوح ممتدة وزاهية الخضرة . 
قالت لي :" خذ هذه الهدية . لا تفتحها إلا في البيت".

حين عدت ووضعت نقودي على المنضدة ، ذهبت لأرى هديتها ، فككت " الفيونكة " البرتقالية ، فكانت الهدية : زهرة قرنفل وسلسلة مفاتيح فضية وخصلة شعر . 
فتحت الراديو كانت المدافع الإسرائيلية تضرب مصفاة البترول في الزيتية ، وكان هناك شهداء وجرحى و سيارات إسعاف تنقل مزيدا من المصابين . 

قامت أمي من نومها القلق ، وغرفت الطعام في أطباق صغيرة . جلست معي ، وعلى الفور جاءت شقيقتاي سمية ونوال وهما الأصغر مني ، بدأنا تناول الطعام ، لم استسغ الطعام رغم شعوري بالجوع . قلبي حزين على الشهداء الذين سقطوا على جبهة القنال.
 قالت لي أمي بعتاب :" مالك. نفسك مصدودة ليه؟ "
. قلت وأنا أمضع ببطء :" فيه حاجات كتير ملخبطة في حياتنا ".

كنت أفكر في الجنود الذين يقبعون في خنادقهم ، وفي القذائف التي تسقط على أهل السويس في بيوتهم ، وروحي تتشقق حسرة من الهزيمة التي أوجعت قلوبنا في يونيو 1967 .

كنت أشعر أن سعاد ، بكل طيبتها وبراءتها قد تعوضني بعض الحرمان الذي عشته بعد موت أبي المبكر ، وترك البنتين وأنا ثالثهم الذي يكبرهم ، لكن تردد صوت في رأسي :" من يعوض الشهداء الذين صعدوا للسماء دون ذنب اقترفوه؟" .
بنهاية العام ، نجحت سعاد في دراستها وحصلت على دبلوم التجارة ، وبصعوبة شديدة صعدت بطة للصف الثالث الثانوي ، وبدوري انتقلت للسنة النهائية بمعهد المعلمين .

 انخرطت أكثر في دولاب العمل ، وفي شتاء عام 1971 نجحت في توفير مصروف سنة كاملة ، عند بداية الدراسة فصلت حذاء عند الأسطى درويش بحارة مجاورة واشتريت قميصا وبنطلونا جديدين ، وعدة جوارب ، ولما كنا في سنة حاسمة فقد ركزت في المواد الصعبة ، ومنها الميكانيكا والهندسة الفراغية ، وقطعت شوطا لا بأس به في حفظ موضوعات التعبير المتوقعة في اللغة الانجليزية ومنها ثلاثة موضوعات أساسية : القطن المصري ، وغاندي ، ونهر النيل. 

في أثناء عودتي من المعهد كنت أمر يوما بترعة الشرقاوية ، وقفت أشاهد صيادين عراة الصدور يغطسون و يقبون في مياه الترعة وبأيديهم يصنعون جلبة ، مع صعودهم لسطح الماء أرى بأيديهم قراميط سوداء حية تتلوى ، يدوسون عليها بأقدامهم ويمسكونها من جانبي الرأس.

بعد خطوات قليلة عند عبور كوبري خشبي وجدت سعاد في انتظاري ، كانت قد عصبت رأسها بمنديل زهري اللون . تعجبت أنها تقف صامتة ، أخبرتني وهي حزينة ، أن أباها هو الآخر سوف يسافر إلى ليبيا للعمل هناك في مجال البناء والتشييد . هززت رأسي ، وأخبرتها بأن هذا شيء حسن ، لكنها أضافت أنها ستذهب هي والأسرة معه.

اقتربت منها ، وبدون ترتيب وضعت يدي على كتفيها كأنني أحميها من السفر. لم يكن بيننا أي وعد أو تعهدات . شيء صغير نما في قلبينا ، وكنت أنتظر الشهور المتبقية على التخرج ليكون التفكير في التقدم لها أمرا طبيعيا رغم عدم امتلاكي لقرش واحد ، وقتذاك.
شعرت أنها تنتظر كلمة مني ، وجمت فليس هناك وعد يمكن أن أقطعه على نفسي . كانت مترددة وهي تخبرني :" هاسافر .. بس هاستناك!"

 قلت كالمنوم :" وأنا كمان .. هاستنى جواباتك ".
 قالت بقدر من العفوية :" بلاش طمع. أنت مش ملاحظ إني دايما آجي لك ، وأنت ما بتعملش كده أبدا ".
 أنزلت يدي لأن سائق عربة كارو نظر ناحيتنا نظرة مريبة ، كأننا نخرق نواميس الكون: " المرة الجاية هاعمل حاجة مش هتتوقعيها ".
 سألتني بفضول :" ممكن تلمح لي؟ "

 قلت وأنا أمسك إصبعها البنصر وأدير أصابعي على شكل دبلة الخطوبة :" يعني زي ما أنت فاهمة ".
 أشرق وجهها بحبور مدهش ، نظرت حولها فرأت كل يمضي إلى حال سبيله : طلاب مدارس ، وباعة عيش ، وصيادون ، وفي لحظة مروعة قبلتني في خدي . 
وقفت مشدوها لجرأتها التي لم أر مثيلا لها في بلدتنا المحافظة ، المنكفئة دائما على الشغل والقرش والمصلحة.
 راقبتها وهي تبتعد في طريقها لبيتها ، سرت مشدودا للحظة نادرة في حياتي . قلت لنفسي بصوت مسموع : " بنت مش هتعوضها أبدا. ".

بعد عدة أشهر من تلك القبلة الخاطفة ظهرت نتيجة الامتحان ، ونجحت بتفوق لم أكن أتوقعه فقد كنت موزع الجهد بين الورشة والدراسة . جاءني خطاب باللون البني الميري ، صغير بحجم نصف كف ، يأمرني بالذهاب لتجهيز أوراق التعيين في غضون أسبوع من تاريخ التسلم.

لم ترسل خطابات ، واستلمت عملي في المدينة حيث حصلت في نهاية الشهر على أول راتب لي ، نحيت جانبا عدة جنيهات لبدء مشروع الخطوبة . طرقت باب جيراننا ففتح لي عم عبده الباب ، بدا غائبا عن الوعي لأنه نظر نحوي باستغراب، سألني كأنه يجهلني :" أفندم؟" 

تلقيت الصدمة بفتور ، قلت له على الفور :" أنتوا قدمتوا لبطة فين؟"
 خرجت الأم ، رحبت بي ، دخل الزوج ليكمل نومه :" معلهش ، هو رجع من لبنان ، مزاجه زي الزفت".
 سألتها عن مكتب التنسيق ، فأخبرتني أن ابنتها قد قدمت أوراقها وكتبت رغباتها الأولى كلية التجارة فمجموعها لا يسمح لها بغير ذلك.
فيما الحديث بيننا يدور على السلم ، صعدت بطة ولمحتني فضحكت ، أشارت لي بيدها خفية كي انتظر. وقفت معي ودخلت الأم لتكمل طبخها . قالت بطة قبل أن أسألها : " سعاد بعتت لك جواب . استنى لحظة ، هي قالت لي أعطيك جوابك في السر".
 دخلت وغابت لدقائق ، ثم عادت بكتاب داخله خطاب سعاد ، أخذته منها ونسيت أن أشكرها . طرقت الباب ففتحت لي أمي وسألتني عن سبب عودتي مبكرا . قلت لها وصدري منشرح :" الجدول النهاردة بسيط. الحصص أقل من كل يوم".
دخلت لتجهز طبق البصارة الذي تعرف أنني أحبه ، ودلفت إلى الحجرة التي بها أنام وقبل أن أغير ثيابي فضضت الظرف وقرأت ما كتبت:" حبيبي أسامة " . 

طب قلبي و اغرورقت عيناي بالدموع . جاءت أمي بأرغفة طازجة فنحن في يوم الخبيز،طلبت مني أن أروق المكان بعد تناول طعامي .
 أكملت قراءة الخطاب ، وفيه تخبرني سعاد أنها ستنتظر اليوم الذي تعود فيه للوطن . وأنها مبسوطة لأنني لمحت لها بأنني سأتقدم لخطبتها . طلبت مني ألا أرسل خطابات خوفا من وقوعها في يد أبيها عصبي المزاج ، والذي يعود كل يوم من مشاريع البناء متعبا ، لا يجرؤ احد على الحديث معه.

على مدار العام وصلتني خطابات عديدة ، فيما انشغلت بالتدريس ، وجاءني خطاب التجنيد وضرورة الذهاب للفرز بحي الزيتون بالقاهرة ، ومنه للزقازيق ، بعدها تم تأجيل الدفعة لثلاثة أعوام.
قلت لنفسي والسعادة تغمرني :" ياه. أنا سعيد الحظ . سأكون مستعدا لخطبتها بعد هذه المدة ".
دخلت بطة كلية التجارة ، وصرت مدرسا إلزاميا ، أساهم في نفقات البيت وأدخر كل شهر مبلغا معقولا. 
أما الكلب الذي أخافني أول معرفتي بسعاد ، فصار يعرفني ولا ينبح في وجهي ، وعم عبده أضناه شرب الحشيش وعاد في يوم محمولا على الأعناق . مرض شهرا ، ثم مات . 
تجمد الوضع على جبهة القتال وقام الطلاب في الجامعة بمظاهرات عديدة ضد الرئيس السادات ، مطالبين بالسلاح لتحرير سيناء المحتلة.

 تساقط الجير أكثر وبانت شروخ خطيرة في حوائط البيت . استدعينا مقاولا نستشيره ، فأشار بخطورة الوضع وطلب من المالك إقامة دعامات خرسانية ، ولما كنا ندفع مبالغ زهيدة فقد هز المالك رأسه رافضا إصلاح أي شيء .
 قلت الخطابات ، بعدها بمدة ، عادت أسرة سعاد بعد أن طرده أصحاب المقاولات ولم يعطوه مكافأة نهاية الخدمة. 
كنت أشرب كوب شاي عندما سمعت طرقا خفيفا على باب الشقة ، أطل وجه بطة ، وقالت لي متلهفة : " تعال معي . عندي لك مفاجأة".
 دخلت الحجرة الصغيرة التي كنا نذاكر فيها ، فوجدت سعاد تنتظرني . خجلت أن أقبلها رغم أنني رسمت سيناريو اللقاء عشرات المرات ، وفيه كنت أعتصر خصرها عندما أراها للوهلة الأولى ، حتى لو كان ذلك في نهر الشارع . تركتنا بطة بحجة إعداد الشاي . وجمتْ ووجمتُ. 

قلت لها :" سعاد ، إزيك ؟"
 سألتني : " عامل أيه ؟"
 كانت بصتها محملة بمشاعر دافئة . سحبت الأطلس وسألتها أن تريني " نهر نربادا" قالت بجدية ، وهي تصوب سبابتها نحوه بالضبط :" هنا. بين المراعي الخضراء ، لكن العصفور مش هتسمعه زي زمان! ".
ضحكتُ وهي التزمت الصمت ، شعرت أنها تنتظر مني كلمة ، أو مجرد تلميح لزيارة بيتها.
أخبرتها أن دفعتنا قد تأجل تجنيدها لثلاث سنوات تنتهي بعد عام واحد ، وفي ثنايا الكلام علمت مني أنني لم أتمكن من تدبير مبلغ يمكنني أن افتح به بيتا.

كانت قد أشرقت أكثر وبان جمالها ، وحتى قصة شعرها تغيرت ، لكنها صارت أكثر تحفظا تجاه الآخرين. دخلت مديحة زوجة المرحوم عم عبده بملابسها السوداء ، حدادا على زوجها الميت ، قالت لي بكل وضوح :" عارف أنك عايز سعاد. فيه معاك فلوس ". 
كان سؤالا مدججا بالألم ، فضغطت على لساني :" مجرد جنيهات لا تزيد عن الخمسين؟"
 قالت متعجبة :" والشقة ؟"
 فركت كفيّ بحيرة :" لسه .. أنا في أول الطريق"
 قالت لي باحتجاج مشغول بمكر عنيف :" خلاص . سيب البنت تشوف مصلحتها ".

بعد تلك الزيارة بشهر نشبت الحرب على الجبهة ، كان يوم سبت ، وخرجت من المدرسة فعلمت بعبور العساكر قناة السويس ، انشرح صدري وسعدت بهذه الخطوة الجبارة ، التي تبدد ملل الانتظار القاسي ، جاء رجال الدفاع المدني ، وطلبوا طلاء الزجاج باللون الأزرق ، وإطفاء المصابيح مع كل غارة جوية.

 ضربت صفارات الغارة مساء يوم ، وأنا أكاد أصعد أولى خطواتي على السلم ، أظلمت الدنيا فجأة. في العتمة رحت أتلمس طريقي ، شعرت بنحيب خافت. لم يكن معي شمعة ، دققت على العتبة. سمعت صوت سعاد :" أزيك يا أسمك أيه ؟ "
 سألتها كالمذهول :" أنت نازلة في الضلمة ليه ؟"
 قالت وهي تجمع كلماتها بصعوبة :" كنت باستناك. وما كنتش عارفة إن فيه غارة".
 مددت يدي أتلمس طريقي ، اصطدمت يدي بيدها ، رغم العتمة أدركت أن دموعها ما زالت تسيل على خديها. رفعت يدها بمحاذاة شفتيّ ، وقبلتها .

تركتني أفعل. اكتفيت بهذا تعبيرا عن إخلاصي لها ، أما هي فقد أسرعت باحتضاني ، قالت لي بهمس أقرب للأنين :" هاتخطب الجمعة الجاية. ".
 طلع صوتي رغما عني :" مش كنت تستنى شوية ؟"
 قالت لي وحزنها يطرز الكلام :" معلهش ، مفيش قسمة ونصيب"
 أمسكت بيديها وضممتها نحوي فأبعدتني بحسم :" بعد أيه ؟"
 تهاوت يدي واختنقت بكلام دار في عقلي ولم أنطقه أبدا.
شعرنا سويا بارتطامات صاروخية قريبة من الشارع الحربي، صاح من في الشارع :" كله يطفي النور".
 تركتها تهبط لتعود إلى بيتها ، بينما ظللت متسمرا في مكاني . ولم يأت النور أبدا .

9 نوفمبر 2013.

Post a Comment

أحدث أقدم