غواية الحرب :
٣- الأيديولوجية وعقيدة الحرب
غواية الحرب : ٣- الايديولوجية و عقيدة الحرب، بقلم شريف العصفوري |
بقلم شريف العصفوري
انتهيت في الجزء الثاني ببعض الأسئلة سأحاول الإجابة عليها في الجزء الثالث ، عاش الاتحاد السوفييتي فترة قلاقل شديدة بداية من سنة ١٩٣٦ ، تحت الحكم الستاليني الفردي و القمعي ، قام الجهاز الأمني تحت دلدول ستالين بيريا ، بالقاء القبض على ملايين المواطنين ، نعم ملايين المواطنين ، جذر السخط هو مجاعة لحقت بأوكرانيا في بداية الثلاثينيات (١٩٣٢) مات فيها على الأقل مليونين من الفلاحين ، بدأت المجاعة بالتراجع عن الزراعة الخاصة و فرض الزراعة التعاونية ( الكولخوز) فرضا على سلة الغذاء السوفيتية ( أوكرانيا كانت و مازالت) ، نتيجة للمقاومة للقرار الشيوعي مع هجر المزارعين الأرض ، مع تزامن قحط ، حدثت المجاعة ، و اتخذت السلطة تدابير قمعية لمنع تسرب السخط و المقاومة لباقي الاتحاد السوفييتي و صادرت السلطة الحبوب المخزونة لتوزيعها قسرا بنظام لوجستي عاجز و فاسد. كان أحد أبطال هذا النظام هو نيكيتا خروشوف ، الذي أشرف بنفسه على الاعدامات الميدانية في أوكرانيا، و بنفسه أيضا قاد بنفس الطريقة صمود ليننجراد ٤١-٤٣ ! ثم عاد البطل نفسه لينتقد الحقبة الستالينية و يفضح الممارسات اللاإنسانية !؟.
طالت الآلة القمعية تحت بيريا نصف اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ثم تمددت الآلة إلى أعضاء الحزب الشيوعي على كافة المستويات ، محكمات صورية مع اعدامات بالرصاص ، وصلت القمع محطاته النهائية في عامي ١٩٣٧و ١٩٣٨ و أعدم ٨٠ ألف ضابط من الجيش الأحمر !؟ ، أصبح الولاء المطلق و الصمت المطبق هما الوسيلتان الوحيدتان للبقاء حيا هذا أولا ، و الطريقة الوحيدة للترقي داخل مؤسسات الادارة في الدولة أو الجيش ، و من هنا جاء مصطلح "الثقة قبل الكفاءة" بمعنى الولاء قبل العمل ، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفييتي شريكا لألمانيا النازية في تقطيع أوصال بولندا ، ثم استدارت ألمانيا و هاجمت الاتحاد السوفييتي بدون ذريعة أو مبرر ، أداء الجيش الاحمر كان كارثيا في أول ثلاثة شهور خسر مليونين من الافراد ، يعزى الاداء السئ للحالة التي كان عليها هيئة الضباط ، و تراجع الجيش عن دول البلطيق الثلاثة و اوكرانيا و بيلاروسيا. جذر الصراع الحالي بين روسيا و أوكرانيا هو نشوء تيار وطني متطرف داخل أوكرانيا تحت الاحتلال النازي موالي لألمانيا و معادي لروسيا و للشيوعية من الناحية الأخرى ، اشترك ما يقارب من المليون أوكراني في الشرطة و الجيش النازيين لحكم اوكرانيا و مساعدة المجهود الحربي النازي على الجبهة الشرقية .
نفس الحال صارت في الصين الشيوعية ، برغم المسيرة الطويلة للحرب الوطنية ضد المستعمر الياباني ، ثم الحرب الاهلية بين الوطنيين من جانب و الشيوعيبن على الجانب الآخر ( من ١٩١٩-١٩٤٩) ، إلا ان قيادات الحزب الماوي ( عبادة فرد أخرى) ، انطلقت في تصفيات أمنية داخل صفوف الحزب و الجيش تحت مسمى الثورة الثقافية في سنة ١٩٦٦ ، أعدم عشرات الآلاف من الموظفين الكبار و الضباط ، و لم يسلم من السجن أو الاعتقال او التشريد ( دنج شياو بنج مهندس المعجزة الاقتصادية كان من المبعدين ، والد الرئيس الصيني الحالي شي شيبينج كان من المنفيين ) ، اجمالا نفي عشرات الملايين ، و اغلقت الجامعات بالكامل ، و قتل ما لا يقل عن المليونين . الصدمة الكبرى للحزب الشيوعي الصيني لم تنتظر رحيل ماو تستونج ، قامت حرب صغيرة بين فيتنام و الصين الشيوعيتين لخلافهما حول احتلال كمبوديا ، فهزم الجيش الصيني هزيمة بالغة لسوء أدائه و ابتعاد قيادات الجيش تماما عن المفاهيم الحديثة و الفعالة في القتال ، بعد رحيل ماو تمت تصفية عصابة الأربعة أصحاب التشدد العقائدي التي حكمت الصين فعليا من تحت عباءة الزعيم المسن المقعد ، و منهم زوجة ماو الثالثة . دنج شياو بنج قائد الصين من ١٩٧٨ ، أدرك أولا أهمية تحديث الاقتصاد ، لأن قوة الصين تحت هيمنة المتشددين مع ثمار الثورة الثقافية ستفضي بالصين إلى الانهيار و الهزيمة العسكرية من فيتنام هي أول اشارتها.
هناك ذهنية معينة ترى في التاريخ تراجم أبطال و انفجارات من رحم الفراغ ، لكن الدراسة الموضوعية توجب اتصال الحلقات ببعضها و التأصيل للحوادث على جذر من الأسباب . الأداء العسكري المصري من بعد ١٩٥٢ ، تأثر بقرار استيداع نصف هيئة ضباط الجيش ، خاصة الأداء المتردي في ١٩٥٦ ، تم إخفاء سوءه بالانسحاب الثلاثي للمعتدين ، لكن تراكبت قلة مهنية القيادة مع سياسة أهل الولاء على أهل المعرفة و الخبرة في تعيينات كل مستويات القيادة العسكرية ، مع نزوع أيديولوجي مركب من نقيضين ، الأول هو استبعاد الضباط غير الموالين لقيادة ناصر/عامر ، فعليا ضد الاخوان و البعثيين و الشيوعيين ، و نقيض ثاني هو ارث المؤسسة العسكرية المصرية من التعالي الطبقي على الجنود المستجلبين بالسخرة أو التجنيد . لم تتحسن نظرة الضباط الفلاحين لمجنديهم الفلاحين مثلهم إلا بضرورات تحسين الاداء فيما بعد ١٩٦٧، لابد هنا من دراسات اجتماعية و نفسية على النظرة المؤسسية المستهينة بالجنود ، فحتى اليوم (٢٠٢٣) تخرج بيانات الجيش و الشرطة في قتلي العمليات بتفرقة في الرتب العسكرية على غير ما تفعل دول العالم شرقا و غربا ، بل أن مستشفيات الضباط غير مستشفيات الجنود، هذه الطبقية المقيتة متجذرة في النظام السياسي الذي يرى ضباطه/مديريه انهم يديرون شعبا من الجنود ليس إلا ، أبناء هذا النظام الطبقي و العسكري لا يجد في وزير أو مسئول التعبير عن سياساته أنها توجيهات الرئيس أو أوامر الزعيم !؟ هذا الغرس القيمي ( الاجتماعي /السياسي) قائم على خنوع و اخضاع لطبقات عسكرية/إدارية مستقرة من الحكم الروماني مرورا بالعربي و المملوكي و العثماني .
عندما يقود الضابط السوفييتي أو الصيني جنوده ، لا يهمه إن مات ألف أو مليون في سبيل أن يصل لأهدافه ، و لا توجد مراجعة شعبية لقرارات الحزب/الجيش ، مات أضعاف الجنود السوفيبت في أوضاع الهجوم أو الدفاع في كل حروبهم ، و تسللت نفس العقيدة الفاسدة لأداء الجيش الروسي حاليا في الحرب الأوكرانية ، روسيا أو الصين دول كبيرة الموارد و السكان و بإمكانهما استعواض الخسائر أو اغراق العدو في مستنقع أراضي الوطن الشاسعة ، الغريب أن تتصرف قيادة الجيش المصري بالعقيدة السوفييتية و نحن بلد شحيحة الموارد و فقيرة ، و جنودنا هم زهرة قليلة لمجتمع يفتك به الجهل و الفقر و المرض ( مذكرات الفريق سعد الشاذلي كمرجع عن الحالة الصحية للمجندين ) ، احتاجت مصر للابقاء على المجندين من حملة المؤهلات من تجنيد ١٩٦٧حتى ١٩٧٤ ، لتحارب عدوًا سكانه عُشر تعدادها. تحتفظ اسرائيل بجيش نظامي من ١٦٠ ألف فرد و تجند كل مواطنيها ذكورا و اناثا لثلاث سنوات و تبقيهم على قوائم الاحتياط حتى سن ٤٥ عاما ، كان بامكان اسرائيل خلال أيام من بدء حرب أكتوبر تسليح جيش جيد التدريب و التسليح من ٦٠٠الف فرد ، بينما كان الجيشين الثاني و الثالث حوالي ٢٠٠ألف جندي بينما بقية الجيش المليوني يقوم بمهام ادارية أو دفاعية بالعمق ، و مستوى تدريب البقية لا يرقى إلى المستوى القتالي المطلوب ، ظهر ذلك في أداء خلفية الجيشين بعد الثغرة.
العقيدة الشيوعية أثرت في العقيدة العسكرية السوفيتية و الصينية ، و اتسم الاداء في الميدان بنقاط القوة و الضعف التي انتجتها العقيدة ، الاتحاد السوفييتي في غزوه للمجر و تشيكوسلوفاكيا ارتكز على تفوق عددي كاسح لاخضاع قوات صديقة ! الصين فشلت سنة ١٩٧٦ في هزيمة القوات الفيتنامية المجربة و الخبيرة بخمسة أضعاف تعدادها.
رغم جدة التجربة الإسلامية في الجيش الإيراني ، عاني الجيش الإيراني من غياب كوادره المدربة بحملة اعدامات طالت كبار الضباط عقب ثورة ١٩٧٩، و طرد الآلاف من الضباط و نفي آلاف آخرين ، عندما هاجم العراق الآراضي الإيرانية سنة ١٩٨٠ ، انكشف الجيش الإيراني دون هيئة ضباطه ، هيئة ضباط الجيش العراقي لم تكن أحسن حالا ، كانت بعثية و خائفة و سوفيتية العقيدة العسكرية ، ضاعت المبادرة العسكرية من الجيش العراقي بعد أشهر قليلة ، و ظهر الفارق في الموارد و الإمكانات البشرية ، لجأت ايران للموجات البشرية من الحرس الثوري الإيراني ( عشرات الآلاف من المجندين الايديولوجيين ) و دفعت بهم لإغراق الدفاعات العراقية و تطهير حقول الألغام بأجسادهم ، سنوات من المجازر لم تمنع المؤدلجين الإيرانيين من الارتماء في أحضان الموت من أجل الشهادة ، قبلها ارتكن الجانبان المنهكان على قصف المدن بصواريخ سكود ، و قصف خنادق المدافعين بالغازات السامة ، ثمان سنوات من العبث و القتل و التدمير !؟ إلا ما وصلت حرب الثمان سنوات و المليون قتيل ؟؟ الإجابة بكل أسى لا شيء ! لا شيء البتة ..
أشرت إلى الدرس الآخر الذي خبره حزب الله ٢٠٠٦ ، رغم الأداء العسكري البارز كميليشيا في مواجهة قوات خصم متفوقة عددا و عدة ، إلا انه بالنهاية تدمر لبنان و بنيته التحتية ، قد يستطيع حزب الله الاحتفال بأن الخصم لم يقتله كلية و لم يستطع الاختفاء بالأرض ، و لكن الدرس وعاه الشيخ حسن نصر الله ، أن الأثمان المدفوعة اعلى بكثير من النصر ! اليوم يلاعب الحزب داعميه ، يصرح بأكثر مما يطلق الرصاص ، لان الحرب الشاملة ستأتي بدمار شامل لوطن مفلس ، لن يغني شعب لبنان ان حزب الله قد دمر عشرة أو عشرين مستعمرة إسرائيلية ، فالحرب أساسا هي لضمان البقاء و ليس لقتل الآخرين ، الأشخاص العاديين الاصحاء نفسيا يدركون انه بعد كل حرب هناك يوم جديد بعد نهايتها، الانتحاري لا يفكر باليوم الجديد ، رجال الدولة عليهم و مسئوليتهم أن يفكروا باليوم الجديد ، أول يوم بعد نهاية الحرب .
الفاشيون و تجار الحروب يقودون العالم للدمار، إما لاعتقاد بمجد لا يراه غيرهم ، او لانهم قد وصلوا ببلادهم إلى زنقة مسدودة ، فهم إما ميتون على أية حال ، أو يريدون ابتزاز العالم من أجل بقائهم ، على تلال أو جبال من الجماجم ، عندما تسد كل النوافذ على الديكتاتور سيأتي حتما بذكر الله ، لانهم يؤمنون أن الله قد شرع القتل و الحرب ، لخدمة الملك أو الديكتاتور ، ملك الملوك.
إرسال تعليق