في ذكرى نصر أكتوبر المجيدة 1973
سيد الوكيل يحكي تفاصيل أول قصة كتبها
قصة بعنوان "استشهاد عباد الشمس"
في ذكرى نصر أكتوبر، سيد الوكيل يحكي تفاصيل أول قصة كتبها |
فازت القصة بالمركز الثاني في أول مسابقة عن أدب أكتوبر برعاية الشئون المعنوية بالقوات المسلحة. وتسلمت جائزتها من الأديب يوسف السباعي الذي كان وزيرا للثقافة وقتها. نشرت لأول مرة في مجلة الكاتب، العدد 199، في عام 1977. بعد انتهاء خدمتي العسكرية التي بدأتها متطوعا عام 1971.
بالطبع سنجد فيها براءة البدايات، لكن ذكرى أكتوبر تسكن من عاشوها ومهما مرت السنين تظل تثير شجنهم، رغم فداحة الثمن الذي دفعناه. . ولكي نعرف قيمة الانتصار، شاهدو فيلم (جولدا) الذي عبر بصدق عن الوهن واليأس الذي أصاب إسرائيل. واضطر جولد مائير للتوسل إلى كسينجر ان يتوسط لكي يقبل السادات وقف إطلاق النار.
هذه القصة مهداة إلى روح صديقي الشهيد حمدي سعيد، بطل قصتي ( جراح رمضان الأخير)
استشهاد عباد الشمس.
قصة: سيد الوكيل
كانت الشمس في محاولة مستميتة للتخلص من الظلام المدلهم في اتجاه الشرق.عم الدفء وجرت الدماء في شرايين السماء فتشربت بحمرة وردية، إلا من سحابات داكنات بنفسجية تحففتْ بإطار ذهبي، وحنّتْ نسمة رقيقة، تراقصت لها الأغصان الهزيلة التي نبتت بجوار صنبور المياه الوحيد في الموقع. تلك التي عملت أيدي الجنود على رعايتها وتنميتها، وتوقف الأزيز الخافت المنبعث من محرك العربة الزل المخصصة لنقل الجنود، فاستكانت خلف الساتر الرملي.
عاد الصمت طاغية رهيبا يشمل الموقع.
مد قامته خارجاً. وهبط إلى الأرض. ابتعد عن العربة الزل عندما شعر بحاجته إلى التبول. من مكانه استطاع أن يرى أمواج القناة، موكباً جنائزياً يتهادى بين إيقاعات لسيمفونية حزينة. على بعد أمتار جلس يسترق النظر إلى الضفة الأخرى. بدا أمام عينيه الساتر الرمادي الهائل، كابوساً رهيباً. لكن بكارة الشمس أشعلت في قمته نوراً كالحريق
كتب على الأرض "عزيزة "يعرف أن خطه مضحك، شعر بالندم لأنه لم يتعلم في المدارس. في المصنع محو أميته، لكن خطه ظل مثيراً لضحك المتعلمين. لا يشعر بالغضب تجاههم، فقط يشعر بالخجل من نفسه، لكنه تذكر أن الجندي مؤهلات (درويش ) طلب منه أن يكتب على العربة: الله أكبر، خمسة وخميسة في عين العدو، سيضيف من عنده: محروسة من العين ياعزيزة. سيطبع كفة عليها بلون أحمر. وعند عودته في الإجازة سيشتري حذاء لابنته الصغرى، ومسبحة يعلقها في كابينة العربة الزل.
انتفض واقفاً عندما أحس بحركة خفيفة من خلفه. تبين ملامح النقيب إبراهيم بقامته الفارعة، أدى له التحية. خرج صوت إبراهيم متعبا متهدجاً، ورغم ذلك استطاع أن يشد ابتسامة مرهقة، وقال:
- رأيت عزيزة خلف الساتر، فخمنت أنك هنا.
- استيقظت مبكرا يا فندم، تعطلت "السارينة " ولم استرح إلا عندما انتهيت من إصلاحها الآن.
- لكنك ترهق نفسك أكثر من اللازم يا مصطفى، تلزم نفسك بالكتابة على كل العربات أيضاً.
- فكر مصطفى أن يرد عليه، أن يقول: ولماذا ترهق نفسك أنت أيضاً، لكنه صمت، وصمت النقيب إبراهيم، ابتسم كأنما عرف ما يدور بخلده.
- اعتقد أن سيادتك كنت "نوبتجي " بالأمس.. السهر يبدو عليك.
أطبق إبراهيم جفنين حمراوين، ثم ابتسم، متعمدا تغيير الحديث قال:
قل لي يا مصطفى، لماذا سميت سيارتك عزيزة، أهو اسم زوجتك؟
- لا. يا فندم. إنه اسم أمي.
- ثم تعلقت نظراته بقرص الشمس، الذي بدا أن ملامحه تتحدد الآن، بعدما توارت السحب. تذكر زهرة عباد الشمس عند صنبور الماء، تمتم: لابد أنها تستيقظ الآن. لكن النقيب إبراهيم لم يتبين كلماته، ظن أن مصطفى يتكلم عن أمه، سأله عما يفكر فيه، أطرق مصطفى قليلا، ثم رفع عينيه إلى إبراهيم:
- هل تظن أننا سنحارب فعلا؟
- لا أستطيع أن أجزم بشيء، لكني لا أشك لحظة في حتمية المعركة.
هز مصطفى رأسه، وراح يتذكر أمه، والشارع، فرأي حسين بائع الفول المدمس محاطا بصبية ورجال، يمسكون في أيديهم صحون الصاج الأبيض في انتظار أن يملؤها حسين بالفول. تداعت صور لم يتمكن من تجاهلها. عويس البقال، أم محمد بائعة الخضروات، أولاد الأسطى أديب السمكري يملئون الشارع ضجيجا وحياة. تخيل نفسه بطلا عائدا مظفرا من المعركة، تستقبله أمه بالزغاريد، تتعلق ابنته بساقه الطويلة، وتحتار زوجته بين فرحتها وحشمتها أما الناس الذين جاءوا ليباركوا عودته سالما. وهذا هو المعلم رجب، الذي طالما كان على خلاف وشجار معه، يحضنه إلى صدره العريض، ويبكي معتذرا..
لم ينتبه عندما انصرف النقيب إبراهيم، قائلا:
- سأذهب الآن لصرف التعيين. الأفضل ألا تصوم اليوم.
- لماذا يا فندم؟ هل لدينا تدريب اليوم؟
نظر إبراهيم إلى الأرض ليداري عينيه، وقال: ربما.. إنها تنبيهات العميد طحان.
****
قبيل الظهيرة، بدا كل شيء غير عادى، زادت الحركة وقوى النشاط. والتهب الحماس وانصهرت الأجساد كتلة واحدة. تعمل بلا كلل وبينما كان مصطفى يملأ مبرد السيارة بالماء. حانت منه التفاتة إلى زهرة عباد الشمس المنبثقة بجوار الصنبور فرآها تميل بقرصها عن كبد السماء قليلا، وعندما رفع عينيه. رأى أولى طلعات الطائرات المصرية تعبر الأفق في اتجاه الشرق فانفلتت من بين شفتيه تكبيرة خافتة.
وما أن بلغت الطائرات هدفها، حتى توالت الانفجارات، وتصاعد الدخان كثيفا. بينما تعبر الزوارق المياه إلى الضفة الأخرى، وبدأت عملية إزالة الساتر الترابي الهائل. وانهار الكابوس. ودأب رجال المهندسين على إقامة الجسور، وتهاوت حصون بارليف أمام الرجال. واستطاع مصطفى أن يرى من موقعه، أول علم مصري يرفرف فوق الضفة الأخرى.
****
تحرکتْ جماعة المشاة فوق المعابر. واندفعت العربات والمدرعات الواحدة تلو الأخرى، فناءت بحملها الجسور. واضطربت المياه من وحشية القصف الطائش. عزيزة واحدة من تلك العربات التي تعبر. مصطفى والنقيب إبراهيم في الكابينة الأمامية.. في الصندوق الخلفي انتظم الجنود مدججين بشداتهم العسكرية، ومن شدة قبضتهم على السلاح، تصلبت أيديهم، وكأنهم ولدوا هكذا. ثمة شعور عام بالحذر والترقب يسيطر على الجميع. فتبادلوا النظرات أول الأمر. وتمتم أحدهم بآيات من القرآن، وحاول البعض أن يبتسم مشجعا، وصفق الرقيب مينا عبد السيد داعيا إياهم لمشاركته. لكن اقتراحه قوبل بابتسامة.. فقط ابتسامة ممهورة بقلق، وأبت أيديهم أن تبرح السلاح، فتوقف عبد السيد عن التصفيق، وبدرت حركة مضحكة، لا ارادية منه فضحك الجميع. وما أن وصلوا أرض سيناء حتى استقرت أنفاسهم.
قال النقيب إبراهيم بصوت..عالٍ:
-هذا هو وجودنا.. فيجب أن نتمسك به حتى النهاية.
التفتنا في اتجاه الكابينة الأمامية، ورأيناه يرزح تحت صمت رهيب، يتناسب مع مسئوليته، متفكرا في إمكانيات الفشل والنجاح. مصطفى لم يكن لديه وقت للتفكير. فكان منهمكا في قيادة السيارة طبقا للخطة المكلف بها..
عند بلوغ الهدف كان كل شيء على ما يرام. فقد أجهز رجال الكوماندوز على الموقع. وانسحب العدو مسافة مكنت النقيب إبراهيم من تسلم الموقع،وبدأ في توزيع المهام الدفاعية..
لم يكن غروبا كما نعرفه. فقد تكاسلت الشمس في خطوها نحو الغروب. كأنما تأبى مغادرة السماء، كأنما أرادت أن تبقى لتبث في حنايا الرمال دفئا. فكان ذلك اليوم أطول يوم في التاريخ.
. . وفجأة اشتد القصف من جهة العدو، في محاولة يائسة لاسترداد الموقع، لكن الردع أقوى والجنود أشد ثباتا. كأنما يقذفون من صدورهم غلا. بأمر من النقيب إبراهيم، كان على مصطفى أن ينقل ثلاثة من الجرحى إلى الخطوط الخلفية. وكان على مصطفى أن يجنح بعربته بعيدا عن مرمى النيران فاستدار بها متجها إلى خلف الساتر الذي يبعد أمتارا عن موقعه. لكن شيئا ما مرق من نافذة السيارة، واستقر بمؤخرة رأسه، تحسسها بكفه فتخضبت بدماء راحت تسيل على كتفيه، أحس غثيانا لكنه تماسك. شدد قبضته على عجلة القيادة، كل همه أن يصل بالسيارة إلى منطقة آمنة. خلف ساتر رملي استقر: --الآن.. عزيزة في أمان.
بصعوبة فتح الباب فسقط فوق الأرض، عندئذ أدرك أنها النهاية. زحف إلى مقدمة السيارة، وطبع كفه عليها، فكر أن يكتبها هذه المرة بدمائه: محروسة من العين يا عزيزة. حاول الوقوف لكنه سقط مرة أخرى، استحالت الرؤية أمام عينيه، أغمضها وسقط على وجهه. امتصت الرمال دمه فظلت دافئة برغم أن الشمس أتمت رحلتها إلى الغروب، أغمض عينيه مستسلما، فرأى نفسه واقفا أمام صنبور الماء، وزهرة عباد الشمس تنحني في اتجاه الأرض.
إرسال تعليق