كتاب زورق من الورق
عرض المبادئ العامة لأنثروبولوجية المسرح
الكاتب والمخرج المسرحي إيوجينيو باربا
ترجمة د. قاسم بياتلي
الفصل الثالث، ج3
اللاتماسك المتماسك وفضيلة التنحى (*) :
(*) تستخدم مفردة (Incoerenza) اللاتماسك باللغة الايطالية من أجل الإشارة إلى عدم تطابق الشيء مع الواقع، كان نقول : أن أفكار فلان غير متطابقة مع ما يفعله وبالعكس من ذلك يقال : coerente - التي ترجمناها بمفردة تماسك ، ولهذا يمكن ترجمة المصطلح الذي يشير إلى أحد مبادىء انثروبولوجية المسرح ب - اللا تطابق - المتطابق - ( المترجم ).
إن مفردة «الأسلوبية» ( Stilizzazione) غالبا ما تبعد عن أنظارنا إمكانية ملاحظة تلك التغيرات التي يحصل عليها الهيكل ( القوام ) الطبيعي لممثل القطب الشمالى، والتي تبدو ظاهريا وكان لا مبرر لها. وتلك قاعدة ، تبدو ، من وجهة نظر الاقتصاد في الفعل، تبدو أنها غير متماسكة مع الواقع (Incoerenti). فهى تتطلب صرف الجهد الكبير حتى لمجرد الوقوف ببساطة على رجلينا بدون حركة.
أن نحصر أنفسنا بتكرار القول من أن ذلك عبارة عن «أسلوبية» فإننا نخاطر مرتين بالابتعاد عن استيعاب ما يحصل فعليا .
الخطر الأول هو لجوؤنا الى فكرة القناعات النموذجية لكل ثقافة على انفراد، وبالتالي نتغاضى عن جبريتها التي تترك أثرها على الصور الحركية (cinestetica)، حتى على أولئك الذين يعرفون القليل عن هذه القناعات، أو حتى على الذين يعرفون عنها أي شيء، والخطر الثاني، هو أن تفكر ، بالأسلوبية، (Stilizzazlone) وكأنها علامة متميزة وملكية مطبوعة في كل تراث على انفراد، وبالتالي يبدو ذلك وكانه واقع فعلى تقرره الاختلافات التاريخية وتسنه، ويذبل فينا الانذهال والفضول. ويبدو هكذا أن الطرق المختلفة لبناء السلوك المشهدي المصطنع ، ولكنه القابل للتصديق، وكانها ليست أكثر غرابة من وضوح الاختلافات الموجودة بين مختلف اللغات التي تتكلمها. ولهذا ، تتجاهل الفكرة الكامنة في التطبيقات العملية للتكنيكات الخارجة عن - المعتاد : أى
(mettono-in-visione)
اللاتماسك المتماسك
أنه من المفيد أن نوضح ونبين كيف أن بعض الممثلين يبتعدون عن تكنيكات السلوك اليومى المعتاد، حتى في حالة قيامهم بانجاز ابسط الأفعال ( الوقوف على القدمين، الجلوس ، المشي، النظر، طريقة الكلام ، اللمس والأخذ ). والأهم من ذلك هو أن اللا تماسك (Incoerenza) الذي لا يخضع في بداية الأمر لاقتصادية التطبيقات العملية للواقع المعتاد ، يقوم بتنظيم نفسه ، فيما بعد : في نظم متماسكة جديدة .
إن الصعوبات المصطنعة التي تتميز بها التكنيكات الخارجة عن - المعتاد ، والتي قام بصياغتها ممثلو القطب الشمالي ، تدفع الى اتباع نوعية أجرى من الطاقة - ويقوم الممثل، من خلال التدريبات المستمرة ، والتطبيق العملي الطويل ، بتثبيت هذا ، اللا تماسك ، في عملية تتجذر في الأعصاب ، ومن خلال ذلك يقوم بانماء تلك الانعكاسات النيرولوجية العضلية الجديدة التي تصب في ثقافة جديدة للجسد ، في « طبيعة ثانية - (Seconda natural) ، وتماسك جديد ، مصطنع ، تجده محفورا في عضويته .
لنتوقف عند مثل واحد . إن أيدينا وأصابع أيدينا تغير توتراتها ووضعيتها بشكل مستمر سواء عندما نتكلم - نقوم بإيماءات - أو عندما نقوم بفعل أو برد فعل أثناء تناول شيء ما، أو عند الاتكاء أو المداعبة فوضية كل اصبع تتغير ، أثناء رد الفعل ، لمجرد وصول المعلومات من نظراتنا : فاذا كان علينا أن ناخذ قطعة من الكريستال الحاد ، أو نلتقط فتات الخبز، أو نتناول قاموسا ضخما ، أو بالوناً مطاطياً . فالأصابع تأخذ نوعا من التوتر قبل أن تصل للشيء، تتحرك بوتيرة (tono) عضلية مناسبة للثقل ونوعيته لمس الحاجة، وتوظف العضلات لتلك الحركة، إن تحرك أصابعنا بنسب غير متساوية هو علامة للمصداقية التي تظهر من خلال التوترات العضلية التي تستند عليها الحركة للقيام بعملها حسب الثقل والحرارة والحجم ورقة الشيء الذي نتناوله بأيدينا، وكذلك حسب رد الفعل الشعورى الذى يثيره الشيء فينا.
فاليد ، بهذه الطريقة، تقوم بفعل ما، وفى الوقت نفسه تتكلم .
تحدث أن هذه الأفعال وردود الأفعال للحياة اليومية المعتادة، بطريقة عضوية غير انعكاسية، إنها ثمرة التعود ( أوتوماتزم )، فقد وصلتنا عن طريق الجينات ومن التعلم الثقافي، وعندها لا يوجد عائق معين، مثل الخجل أو الخوف، أو عائق جسمى نقول إن اليد تتحرك و طبيعيا . .
إن ممثلي القطب الجنوبي، الذين بلغوا قمة تجربتهم الحرفية (artigianale)، يعرفون جيدا كيف يمكن تجاوز المعوقات المفروضة عليهم من الحالة المصطنعة لخشبة المسرح ، وكيف يستطيعون ايجاد السيولة ، واعطاء صور لها حتى في أصغر العمليات التي يتحكم بها التعود على الحياة اليومية المعتادة.
بينما نجد ممثل القطب الشمالى لا يلتجىء إلى محاكاة ما يشبة الواقع للسلوك اليومي. وعندما تبلغ حرفية هذا النوع من الممثل الى مستوى رفيع، يقوم بتحويل نظام الشفرات إلى طبيعة ثانية لها منطقها الذي يساوى منطق الحياة العضوية.
وقد تمت صياغة « الطبيعة الثانية» «Seconda natura» لليدين في الهند « انطلاقا من هاستا ودرا» (hasta mudra) وتعنى هاستا : ( يد ) ، ومودرا (خاتم ) ، وذلك بدل في اللغة السنسكريتية على لغة مشفرة (codifcato) ومتمفصلة (articolata) لوضعيات اليد والأصابع، وقد نشأ ذلك تيمنا بالتماثيل المقدسة، وبما يتم القيام به في الصلاة.
وعندما يستخدم الممثل ذلك، من أجل التأكيد على كلمات النصر أو ترجمتها أو إضافة التفاصيل الوصفية، فان المودرا تأخذ ، إضافة إلى مهماتها كمفردات صورية نحوية فكرية (ideogrammatica) تاخذ ديناميكية معينة، نوعا من الانشدادات والتضادات التي تحدد مصداقيتها في تماسها مع نظرات المتفرجين، وبالرغم من الاصطناعية «المتأسلبة» ( Stilizzata ) للإيماءة فإن المتفرج يدرك حسميا نوعا من التماسك الذي يوازي - يكافئ (equivalente) ما يظهر في الحياة، بالرغم من اختلافه عن ذلك.
وبالرغم من أن الممثلين فى بالى هم من ثقافة هندوسية، إلا إنهم فقدوا المعاني التي توجد في المودرا، ولكنهم، في كل الأحوال، حافظوا على الغنى الكامن فيها، على الارتجافات الصغيرة غير المتساوية في نسبها للحياة والتنويعات الدقيقة فيها، أى حافظوا على نوع من السينفونية (Sinfonia) للتنويع والتغير الذى يحصل ما بين الحركات النشطة والحركات اللينة ( كاراس ومانيس )، ما بين الحركة واللا حركة في كل أصبع من أصابع اليد باكملها، وهكذا يتم تحويل المصطنع إلى نوعية متماسكة وحية.
ولنسمع الآن كلمات أحد المتفرجين الذين جلسوا المراقبة العرض :
في احدى المرات شاهدت كونجو أواو (Kongo Iwao) وهو يقوم بتمثيل شخصية المرأة المفضلة لدى الملك كيو في (Kuie-fei) في مسرح النو كوتي(No kotei) ولن أنسى ذلك الجمال الرائع ليديه اللتين كانتا تظهران قليلا من أكمام ثوبه العريض، كنت أنظر إلى يديه. ومن حين إلى آخر، كنت أنظر إلى يدى وهى على ركبتي، وكنت في انتقالى من النظر إلى يده وإلى يدى، أقارن ما بينهما، ولم أجد أي اختلاف كبير بينهما، ولكن يديه على خشبة المسرح كانتا تتجليان بجمال غريب لا يمكن وصفه، بينما كانت يدى على ركبتي هي مجرد ید ليس إلا(١٦) .
لنضرب مثلا آخر ذا معنى ناشىء من العيون وطريقة توجيه النظرات .
فعيوننا، على العموم، تنظر نحو الأمام بانخفاض ٣٠ درجة نحو الأسفل، ولو قمنا برفع نظرنا بمقدار ۳۰ درجة نحو الأعلى فسيبقى الرأس في نفس الوضعية، ولكن ذلك سيؤدى الى انشداد في العضلات في أسفل الرأس وفي الجانب العلوى من الجذع الذي يؤثر على التوازن ويغيره.
وهكذا نجد ممثل الكاتاكالى يتبع بعينيه يديه اللتين تقومان بانجاز المودرا، ويرفعهما إلى أعلى من مستوى النظر المعتاد، أما الممثل في بالي فيقوم بتوجيه نظراته نحو الأعلى، وكذلك نجد ذلك لدى الممثل في لبان شان (Lian Shan) وفي أوبرا بكين، ويروى ممثلو مسرح الكابوکی قدرتهم على التوجه في الفضاء، وكم هو من الصعوبة بمكان الحفاظ على التوازن بسبب الثقوب الصغيرة التي توجد في أقنعتهم، التي يحملونها، والتي تعيق إمكانية النظر! ومن هنا جاء أحد تفسيراتهم لطريقة المشي التي تشبه مشية الأعمى الذى يشحط برجليه ليتفحص الأرض من أجل عدم السقوط، وذلك هو ما يجعله يكون على استعداد دائم للتوقف في أية لحظة في حالة وجود عائق مفاجيء.
وكل هؤلاء الممثلين يقومون بتغيير نظراتهم المعتادة للحياة اليومية المعتادة، وينتج عن ذلك تغيير في طبيعة الجسم وانتصابه، وتتغير انشدادات عضلات الجذع، ويتغير التوازن وطريقة ضغط القدم على الأرض، وهكذا، فهم يقومون بتغيير نوعية طاقتهم من خلال اللا تماسك المتماسك (Incoerenza Coerente) لنظراتهم الخارجة عن - المعتاد (extra-quantidiana)
إن السلوكيات المشهدية التي تبدو عبارة عن حبكة من الحركات الأكثر تعقيدا من تلك التي نجدها تحدث في الحياة اليومية المعتادة، هي، في الواقع نتيجة لنوع من التبسيط، فهى تعطى تكوينا للحظات المتضادة الموجودة في الجسم في حالتها البسيطة، ويحدث ذلك لأنه يتم فصل عدد محدد من القوى - من المتضادات - ويتم تكبيرها وعمل
المونتاج اما بتزامن (Simultaneamente)
و بتسلسل (Concatenazione) (= خروج الشيء من الشيء تباعا - المترجم ) ومرة أخرى نجد لذلك علاقة بالاستخدام المضاد للاقتصادية الجسدية التي توجد في تكنيكات الحياة المعتادة، والتي تميل إلى فرض نفسها بادخار في الزمن والطاقة.
وعندما يقول ديكرو (Decrous) ، إن المايم ( الممثل الصامت ) هو عبارة عن « صورة عمل» (۱۷) منجزة من قبل الجسد ، فهو يؤكد على أن ذلك قابل للأخذ به حتى في التقاليد الأخرى، فإن ، صورة العمل، للجسد تأتي لدى البعض بشكل مباشر، ولدى البعض الآخر بشكل غير مباشر، أى مخفية، كما يحدث لدى ممثل الباليه الكلاسيكي، حيث يتم إخفاء وزن الجسد في صورة من الخفة واللياقة الجمالية.
إن مبدأ المتضادات، الذي يشكل جوهر الطاقة، له ارتباط بمبدأ التبسيط، ويعنى التبسيط ، في هذه الحالة التخلى عن بعض العناصر التي تتيح إظهار العناصر الأخرى لكى تبدو أنها جوهرية.
ويوضح لنا داريو فو (Dario Fo) كيف أن قوة حركة الممثل هي نتيجة للتركيز على مجال محدد صغير للفعل والدي ينطلب توظيف طاقة كبيرة، وإعادة انتاج للعناصر الجوهرية فقط لذلك الفعل المحدد وإزالة ( تنحية) كل ما هو غير ضروري.
ويحدد ديكرو الجسد بالجذع، ويعتبر حركات الذراع والساق مجالا للإفصاح عن النوادر الكلامية، وإن كانت هذه الحركات متأتيه من المفاصل فقط مفاصل الكتف ، الذراع أو الركبة أو الحجل - فهي لا تدع الجذع ينخرط معها، ولهذا فهى لا تقوم بتغيير التوازن، ولهذا تقى بذلك عبارة عن مجرد ايماءات ( حركات جانبية طرفية للأطراف المترجم ) . ولكنها ستكتسب حيوية قوية لو جاء امتدادها من الاندفاع العمل - صغير يحدث في العمود الفقرى (۱۸) . وذلك هو ما نجده منذ ستانسلافسكي وحتى جروتوفسكي، وفي كل تعاليم المعلمين «للأفعال البدنية» حتى وإن كانت طريقة الأفعال البدنية، لا يقتصر على ذلك وحسب، بل تتضمن تفاصيل لتكوين الصورة الباطنية.
ومن كل ذلك نحصل على توجيه حرفى ثمين : يمكننا أن نسير في الطريق باتجاه معاكس.
فإن كانت الأفعال المجهرية ( الدقيقة ) جدا (micro-azione) من حقا هكذا ، كأفعال وليست عبارة عن ايماءات ، ( تحدث في الأطراف - المترجم) ويمكن امتصاصها من قبل الجذع، مع المحافظة على الفعل الأصلي - فهى تتحول الى اندفاعات، إلى أفعال صغيرة في داخل الجسد حتى عندما يكون بدون حركة ظاهرية، فهو يقوم بالفعل، ويمكن أن تسمي هذه العملية، التي يتم فيها حصر رقعة الفعل، بامتصاص الفعل. ونتيجة لعملية امتصاص الفعل يحدث ازدياد في الانشدادات التي تقوم بتنشيط الممثل، وذلك ما يدفع إلى استيعاب حضوره حسيا من قبل المتفرج، بغض النظر عن سعة الفعل وحجمه.
إن التضاد الذي يحصل ما بين قوة تدفع نحو الفعل وقوة أخرى تمسك به يترجم إلى سلسلة من القواعد التي تطرح الطاقة التي تحدث في الفضاء، بالضد من الطاقة التي تحدث في الزمن، ويقول بعض الممثلين، إن ذلك أشبه بأن يكون الفعل قد انبثق وانطلق ولم ينته بعد حتى يتم ايقافه، أى الإمساك بالإيماءة في الفضاء، ولكنه يستمر في طاقته نحو الأمام، وهناك تعبير في المسرح الياباني، الكابوكي ، هو تاميرو (Tameru) يمكن أن يأخذ صورة لغوية (ideogramma) صينية تعنى التراكم ، (accumulare)، أو صورة لغوية يابانية تعنى «طى شيء ما، هو في آن واحد لين وقوى» مثل الخيزران (bambu)، وتشير مفردة تاميرو إلى الإمساك والاحتفاظ، ومن هنا جاءت مفردة تامى (tame)، أى القدرة على الإمساك بالطاقة، على تركيز الطاقة الضرورية للقيام بفعل واسع محصور في داخل فضاء محدد صغير، وهذه المقدرة تصبح مثالا واضحا للإشارة الى نوعية الممثل، ومن أجل القول إن التلميذ يملك أو لا يملك حضورا كافيا، يقول له المعلم أنك تملك أو لا تملك تامي (tame) .
وقد يبدو كل ذلك نتيجة لتشفير (codficazione) معقد أكثر من اللازم لفن الممثل، ولكنه في الواقع عبارة عن التجربة التي يشترك بها كل الممثلين في مختلف التقاليد : أى توظيف نفس الطاقة البدنية التي تستخدم من أجل القيام بفعل واسع وثقيل وضغطها وحصرها في حير ضيق من الحركات، كأن تقوم بإشعال عود ثقاب وتقوم بتوظيف و تجنيد الجسد بأكمله، وكأن ذلك العود الصغير له ثقل مثل ثقل صخرة كبيرة ، وكأنه يلتهب، أو أن تقوم بسد الفم قليلا وتصك به، و كأنك تعض شيئا صلبا، وتجعل هذه العملية من الصغائر كبائر وتخفى وراءها طاقة تعطى الجسد الممثل حيوية أكبر، حتى في حالة عدم حركته، وما يدعى الظل (ضد) المشهدي (contrascena) وهو مصطلح به تخدم للإشارة إلى الممثل الذي يكون ساكتا أثناء المشهد - ينتهى من كلامه - المترجم،
قد أصبح لذى بعض الممثلين الكبار من المشاهد العظيمة، ولكونهم مجبرين على عدم القيام بفعل شيء والبقاء على جانب المشهد ، بينما يقوم الآخرون بفعلهم الرئيسي، استطاعوا أن يخفوا قوة الفعل، الذي جردوا منه، في حركات صغيرة تكاد أن تكون غير محسوسة.
إن البقاء على جانب المشهد ( كظل Contrascena) ليس مقتصرا على تقاليد المسرح الغربي وحده، فنجد ، مثلا، ما بين القرنين السابع
عشر والثامن عشر الممثل كانيكو كجزيمون (Kaneko Kichizaemon) من مسرح الكابوكي وهو يؤكد في كتابه عن أصول فن الممثل والمغنى «غبار في الأذن» مستندا على أقوال ماتزسوموتو نایزیمون (Matsumoto Nazaemon)، يؤكد على أنه : في بعض العروض عندما يرقص ممثل واحد، من بين كافة الممثلين، يبقى الآخرون، اعتياديا . على جانب المشهد في حالة استرخاء، « أما أنا فلا أسترخى - ويضيف ماتزوموتو - بل أقوم بانجاز رقصة ذلك الممثل بأكملها في ذهني، وإن لم أقم بفعل ذلك فإن ظهرى لن يهم المتفرج، ومن ثم سوف يكون مصدر إزعاج لنظراته، (۱۹).
إن فضيلة التنحى لا تكمن في « ترك الأمور على رسلها» أو في اللامبالاة، أو في اللا - فعل (non-azione) ، فالتنحي في المشهد بالنسبة للممثل يعنى «الإمساك» (< trattenere >)
وعدم هدر ما يميز حضوره المشهدي في التعبير أو الحيوية الزائدة عن اللازم، إن جمالية التنحى تكمن، فعليا، في التأثير غير المباشر للفعل، والكشف عن أقصى درجات الانشداد في أدنى نشاط.
وتبلغ هذه الطريقة من التفكير وهذه العملية ذروتها في ال « آی کوسه » (i-guse) في مقطع خاص في مسرح النو، حيث يجلس الممثل الرئيسى شيته (Shite) في وسط المشهد بدون حركة وكأنه أشبه بصخرة ضخمة، ورأسه يتدلى قليلا، بينما تقوم المجموعة ( الكورس) بالغناء والارواء . وتبدو هذه الطريقة ، لدى المتفرج الذي لا يعرف عن ذلك شيئا ، تبدو وكأنها وضعية خاملة للممثل، بحيث يحتاج ذلك أى نوع من المهارة من أجل القيام بها، ولكن الممثل في هذه الحالة يقوم برقصة في داخل نفسه، وذلك نوع من التكتيك الذي ينفى نفسه، أى يعنى أنه تم امتلاكه وتجاوزه، انه مسرح يتعالى وذلك هو ما يدعى ( فعل الصمت ) أو الرقص بالقلب.
تكافؤ - Equivalenza
ولقد قال ممثل النو هیسار کانزی (Hisao Kanze) ، الذي توفى في عام ۱۹۷۷ ، قال بصدد الـ «آى كوسه» حيث يبدو الممثل وكأنه لا يقوم بفعل شيء لفترة طويلة في المشهد : أريد أن أكون أشبه بوردة نبتت ونمت بالصدفة على خشبة المسرح، وكل متفرج يجلس لكي يتأمل الصورة، مثل الوردة، الوردة حية، وعلى الوردة أن تتنفس، ويروى المشهد حياة الوردة (۲۰).
لو قمنا بوضع الوردة في مزهرية، فإننا نقوم بذلك من أجل اظهار جمالها، وشم عطرها وابهاج النظر بها، ويمكن أن تستخدم الوردة من أجل إيصال رسالة معينة: الرأفة الأبوية أو الدينية، أو المحبة، أو الاعتراف بالجميل، أو الاحترام، ولكن مهما كانت الوردة جميلة فلديها نقص واحد: عندما يتم قطفها ( قطعها) من محيطها تبقى مستمرة في تمثيل نفسها فقط، فهى أشبه بالممثل الذي يتحدث عنه ديكرو، أنه إنسان محكوم عليه بأن يشبه الانسان، جسد يحاكي الجسد، ويمكن أن يكون ذلك مجالا للمتعة، ولكنه لا يكفي في الفن، فمن أجل أن يكون هناك فن، يضيف ديكرو قائلا: ينبغي أن يتم طرح فكرة الشيء (تمثيله) من خلال شيء آخر (۲۱) . ولكن الوردة في المزهرية هي عبارة عن وردة ليس إلا، وقد تكون أحيانا موضوعا لعمل فنى، ولكنها بحد ذاتها هي ليست بعمل فني.
ولكن، لتحاول أن نتصور الوردة المقطوفة وتستخدمها من أجل عرض صراع النبتة في نموها، وهى تميل إلى الابتعاد عن الأرض، التي توغلت جذورها فيها، كلما ارتفعت نحو السماء، لنحاول أن نتصور أننا نريد تقديم عرض ( تمثيل rapprasentazione) الزمن ، كيف تتفتح النبتة، كيف تنمو، ومن ثم تنحنى وتذبل وتموت، ولو استطعنا أن ننجح في القيام بذلك، فان الوردة ستمثل شيئا ما غير الوردة، وسنقوم من خلال ذلك بتكوين عمل فنى، وعندها سنكون قد قمنا بعمل الـ «آيکابانا» (Ikabana)
ولو تتبعنا القيمة التي تحملها صورة المفردة (ideogramma) ، فان الايكابانا تعنى : « إحياء الورود».
يمكن تمثيل حياة الورود لأنها قطفت (قطعت) ، وما يجرى في ذلك واضح، شيء تم انتزاعه من قواعده الحياتية المعتادة ( وعده هي حالة الوردة التي وضعت في المزهرية بحياتها المعتادة ) وتم إبدال تلك القواعد بأخرى أعيد بناؤها كبديل متكافيء لها.
فليس بمقدور الورود أن تقوم بفعل في الزمن ، ولا يمكن عرض ( تمثيل ) ( rappresentazione) تفتحها وذبولها بمفردات زمنية . ولكن يمكن الإشارة إلى مرور الزمن بما يكافئه في الفضاء.
يمكن أن نضع بالقرب من، أي نقارن، برعم وردة مع وردة تفتحت، ويمكن أن تؤيد على الاتجاه الذي تأخذه النبتة - القوة التي تربطها بالأرض والقوة التي تجعلها تبتعد عنها - من خلال غصنين ، أحدهما يدفع نحو الأرض والآخر نحو الأعلى، وغصن ثالث يرتفع يحط مائل باستطاعته أن يظهر القوة المتعارضة التي تنتج عن انشداد متعاكس للغصنين. ويبدو أن هذا التكوين قد جاء من أسلوبية ، (dissezione) مرهفة، ولكنه نتيجة لتجزئة الظاهرة (Stilizzazione) أى أن الطاقة التي تقوم بفعلها في الزمن قد تحولت الى تكوين الخطوط تمتد في الفضاء ، انطلاقا من مبدأ التكافؤ (equivalenze)
إن هذا التغير المتكافيء للوضعية يفتح التكوين لمعان جديدة ومختلفة عن تلك الأصلية، فالغصن الذي يتوجه نحو الأعلى يقارن بالسماء، والغصن الذى يتوجه نحو الأسفل بالأرض، والغصن الأوسط يقارن بالوساطة ما بين المبدأين المتعاكسين . الانسان . والنتيجة الحاصلة عن تحليل شكلى (Schematico) للواقع ، وتغر الوضعية حسب المبادئ التي تمثلها (تعرضها)، دون عكس للواقع ، هي التي تصبح موضوع التأمل الفلسفي.
«يجد الفكر صعوبة في تثبيت مفهوم البرعم، لأن رسم الشيء على هذه الشاكلة يكون عرضة لنمو متدفق، ولهذا فهو يتملص من الفكر لئلا تكون برعما، مندفعا بقوة لكى يكون وردة، انها كلمات يعزوها برخت الى ( هو - يلا ( Hu-Jela) ، والذي يضيف قائلا : وهكذا يكون الحال لمن يفكر ، فان مفهوم البعم هو مسبقا مفهوم لشيء آخر
يصبو لأن يكون ليس بما هو عليه ، (۲۲) .
وذلك الفكر و الصعب ، ، بالتجديد ، هو ما تريده الآيكابانا أن يكون في طرح نفسها : الاشارة الى الماضى والتوجه نحو المستقبل . وعرض الحركة المستمرة من خلال اللا حركة ، ولهذا ينقلب ما هو ایجابي إلى سلبي وبالعكس.
وتنشأ المعاني المجردة في الآيكابانا من خلال عمل تحلیلی دقیق ومن تغير وضعية ظاهرة فيزيقية . ولو انطلقنا من المعاني فلن نصل الى ما هو ملموس ودقيق في الآيكابانا ، بينما لو انطلقنا من الدقة ومن الملموس يمكن أن نصل الى تلك المعاني.
وغالبا ما يحاول الممثل أن ينطلق من المجرد نحو الملموس . ويعتقد انه يمكن أن تكون نقطة الانطلاق من الأشياء التي يراد التعبير عنها . والتي ، من ثم ، ستتضمن التكنيكات المناسبة للتعبير عنها.
وتظهر لنا الآيكابانا كيف أن بعض القوى التي تنمو في الزمن يمكن أن تجد لها متكافئات بصيغة مفردات فضائية .
وحول هذه الاجراءات للتكافؤ (equivalenza) الذي هو من المبادى - التي - تتكرر (principi-che-ritornano) ، يلح ديكرو في قوله . فالممثل الصامت ( مايم) لديه يستند على التبديل الصارم للانشدادات الخارجة عن - المعتاد والمتكافئة مع تلك الضرورية التي توجد في التكنيكات المعتادة للجسد ، ويوضح لنا ديكرو كيف يمكن القيام بفعل يومى معتاد من خلال القيام به بالعكس من ذلك بالضبط ، ويكون ذلك الفعل قابلا للتصديق . حيث يمكن عرض فعل الدفع ليس من خلال دفع الجذع نحو الأمام والضغط على الرجل - القدم الخلفية - كما يحدث في المعتاد بل من خلال تقوس الظهر نحو الخلف ، كما لو أنه بدلا من أن ندفع يكون الظهر مدفوعا ، وتنطوى الذراع نحو الصدر ويتم الضغط على القدم والرجل الموجودة في الأمام . ان هذا القلب المعكوس والملموس والجذري للقوى ، بخلاف ما يتميز به الفعل المعتاد ، يسترد شغل الفعل . وهذا مبدا أساسي في المسرح : ينبغى أن يحدث وقوع الفعل حقا (reale) في المشهد، ولا يهم أن يكون ذلك واقعيا (realistica)
ويحدث كل ذلك كما لو أنه يتم تفسيخ الجسد ومن ثم تتم اعادة تركيبه حسب الحركات المتعاقبة (sucessione - المتتالية التي تنبثق احداها من الأخرى - المترجم ) والمتناحرة . فالممثل لا يقوم باحياء الفعل مرة ثانية، بل يبحث عما هو حي في الفعل، وفي نهاية مطاف هذه العملية من التفسيخ والتركيب، لن يشبه الجسد نفسه، كما هو الحال مع الورود في المزهرية أو الآيكابانا اليابانية، فان الممثل منتزع من محيطه و الطبيعي ، (naturale) الذي تهيمن فيه تكنيكات الحياة المعتادة فالممثل يشبه هذه الورود واغصان الآيكابانا ، فهو من أجل أن يكون حيا في المشهد لا يمكن أن يقدم نفسه كما هو . بل ينبغي عليه أن يعرض ( يمثل rappresentare) ما يريد عرضه (mostrare) من خلال القوى والاجراءات العملية procedimenti) التي تمتلك نفس القيم ونفس الفاعلية وبكلمة أخرى ، ينبغى أن يتخلى عن ، تلقائيته ، (spontaneata) ، ای حركاته اليومية التي تعود عليها آليا (automatismi) .
إن مختلف التشغيرات (codificazione) لفن الممثل هي، قبل كل شيء، عبارة عن طرق لتجاوز طوق الحركات المعتادة ( أوتوماتيزم) في الحياة اليومية وخلق ما هو متكافي لها .
ومن الطبيعي أن كسر طوق الأوتوماتيزم لحركات التعود ليس هو التعبير بحد ذاته، ولكن بدون هذا الكسر للأوتوماتيزم لا يمكن أن يكون هناك تعبير.
ويوضح أحد الممثلين للمخرج المعايير التي يستند عليها في الفعل :
أتحدث بصفة الشخص الثالث وأسمى شخصا ما ، ولكن انتظر لحظة قبل أن أشير اليه أو أتوجه نحوه .
وكذلك عند وصفى لواقعة . وعندما أريد التأكيد على النص الكلامي من خلال الأفعال البدنية ، أقوم بطرح هذه الأخيرة على النص . أتحدث أولا ثم أقوم بوصف ذلك بدنيا (۲۳) .
كانت معلمة كاتزوكو اتزوما تكرر باستمرار «اقتلى التنفس، اقتلى الايقاع!»
و معنى قتل التنفس والإيقاع هو أن تدرك تلقائيا الميل نحو ربط الإيماءة بإيقاع التنفس، وكذلك الكلام والموسيقى ، ومن ثم القيام بتهشيم ذلك . وذلك على العكس من العلاقة التلقائية ، هو خلق ترابط مدرك جديد.
إن المفردات التي تستخدمها معلمة كاتزوكو أتزوما في لغة عملها، لتفرض عليها قتل الإيقاع والتنفس هي من أجل أن تبرهن لها كيف يمكن البحث عن المتضادات، وكيف تقوم بتوظيفها لكسر طوق حركات التعود ) أوتوماتيزم ( للتكنيكات الجسدية المعتادة في الحياة . قتل الايقاع ، فعلا ، یعنی خلق مقاومة معينة ، سلسلة من الانشدادات التي لا تسمح بتطابق سيولة الكلام مع الأفعال التي تصاحبها ، وتمنع حركات الرقص من أن تتماشى ، آليا ( اوتوماتيكيا ) ، مع النسق الموسيقى . ان قتل التنفس يعنى ، من بين ما يعنيه ، ابطاء الحركة والامساك بالزفير - وذلك هو الاسترخاء - من خلال تضاد القوى .
وكل هذه المبادئ ليست عبارة عن إشارات من أجل إضفاء الجمال على جسد الممثل و : أسلبته ، (Stilizzario) ، بل هي عبارة عن وسائل من أجل « ازالة» ، كل ما هو في الجسد من بينات في الحياة اليومية المعتادة، ومن أجل تجنب أن يكون الجسد مجرد جسد انسان محكوم عليه بأن يشبه نفسه ، ولا يقوم إلا بعرض نفسه فقط.
إرسال تعليق