خلاص..العَضْمة كِبْرتْ يا عَطّوف!
أو..نصف قرن يا مفتري!
عاطف محمد عبد المجيد
لا أصدق، إنْ كتب الله لي عمرًا، أنني يوم الجمعة القادم " 17 نوفمبر 2023 " سأتم نصف قرن على هذه الأرض، وكيف أصدق هذا ولا أزال أراني ذلك الطفل الذي كان يتسلق أشجار النبق والنخيل ليملأ سيّالة جلبابه نبقًا وبلحًا، ذلك الطفل الذي كان يقضي كل وقته وهو يلعب الكرة أو البنج بونج دون أن يشغله أي شيء آخر، ذلك الطفل الذي كان يعيش الحياة طولًا وعرضًا يتمتع بمناظر الأشجار والنباتات والحيوانات والمياه الجارية، ذلك الطفل الذي كان يجد متعة كبيرة وهو جالس تحت شجرة الصفصاف ليصطاد بسنارته الصغيرة السمك من الترعة التي تجري أمام بيت جده، ذلك الطفل الذي حين فكّر أن يكون تاجرًا ذهب إلى الجنينة القريبة من بيته واشترى جوافة وراح يبيعها، ووقتها عرف حلاوة أن تمتلك نقودًا من عمل يدك ، لكنه فعل ذلك مرتين ليس أكثر، ذلك الطفل الذي كان ينعزل في حجرته ليقرأ كتبًا ومجلات مفضلًا عالمهما ، ذلك الطفل الذي كان يحلم، قبل أن يتورط في الكتابة، أن يصبح طبيبًا ليعالج المرضى.
لا أصدق كيف سأصل، بعد أسبوع فقط، إلى عامي الخمسين بهذه السرعة الجنونية المجنونة، ولا أصدق، وأنا أراني في ذاكرتي الصغير الدائم، كيف أنجبت ثلاثة أبناء أصغرهم جمان التي تجاوزت الخمسة عشر عامًا وبين دخولها الصف الثالث الثانوي عدة شهور ليس أكثر.
لا أصدق أن ذلك الطفل الذي شاب شعره صغيرًا يقف الآن على عتبة عامه الخمسين، حاملًا من هموم الحياة ما تنوء بحمله الجبال، ومُثقلًا بمسئوليات كبيرة وكثيرة، تزداد يومًا بعد يوم، ولا فكاك منها.
لا أصدق أن ذلك الطفل البريء الذي كان يفعل ما يريد دون أن يلومه أحد، أصبح الآن كهلًا تراقبه العيون وتُحصي عليه خطواته خطوة خطوة، غير أنه اعتاد ألا يهتم بأحد وأن يترك المُلك للمالك، مرددًا أن القافلة ستسير بينما ولاد الـ...سيموتون إن لم يحشروا أنوفهم في حياة غيرهم.
لا أصدق أن ذلك الطفل الذي كان يحب الحياة منتظرًا منها أن تحقق طموحاته وأحلامه، صار كهلًا تساوت لديه كل الأشياء: ماسها وترابها، ولم يعد ينتظر من الحياة سوى سلام نفسي وخروج آمن، وبعد أن كان يتمنى الخلود صغيرًا أصبح يردد بينه وبين نفسه: يلّة حسن الختام!
لم يعد يريد إلا أن يعيش، ما تبقى له من أيام، دون أوجاع، آملًا ألا تزداد قسوة الحياة عليه أكثر مما فعلت به في سنواته الأخيرة.
لا أصدق أن ذلك الطفل الذي كان يفرح بأبسط الأشياء، صار قلبه مليئًا بالحزن، وبات مفتقدًا للسعادة.
لا أصدق أن خمسين عامًا صارت تفصل بين ذلك الطفل وبين هذا الكهل الذي لم يعد قلبه يرى السعادة، ولا يشم رائحتها!
لا أصدق كيف حدث هذا، ولماذا مرّ شريط الحياة بسرعة الضوء هكذا،.
لا أريد حقيقةً أن أصدق أنني لم أعد الطفل الذي كنته منذ عشرات السنوات، بل كل ما أريده الآن هو أن أعود طفلًا، لا لشيء سوى لأحذف من قاموسي كلمة حزن وكل ما يتعلق بها من عائلة مفرداتها، ولأذوق طعم السعادة الحقيقية، وليس سعادة الذكاء الاصطناعي، مرة أخرى.
لكن يبدو أنني في الأخير عليَّ أن أصدق أن الطفل الذي كان يذهب منذ سنوات إلى المدرسة الابتدائية أصبح اليومَ كهلًا، وعليَّ أن أصدق وأقتنع بما قالته لي حبيبتي التي قالت لي ذات مرة: كان هينقصني كتير قوي لو مكنتش حبيبتك، ففرحْت بكلامها، وبرضو فرحْت تاني لما قالت لي: إذا كنتُ أنا الحياة بالنسبة لكَ، فأنا أراكَ الكون وما فيه، عندما تضيق بي الدنيا من كل الاتجاهات، بس لما ذات مرة أخرى قالت لي: ما خلاص يا حبيب قلبي..العضمة كبرتْ يا عطوف!
سِكِتّ وقلت في نفسي: يَلّة بقى..حُسن الختام!
إرسال تعليق