كراكيب مصرية


كراكيب مصرية، بقلم: سيد الوكيل
كراكيب مصرية، بقلم: سيد الوكيل
 
بقلم: سيد الوكيل

لحس العتب في الثقافة الشعبية المصرية أحد طقوس التبرك والتوسل بالأولياء والصالحين ، فاليائسين الذين نفدت حيلهم وعجزت أسبابهم على قضاء حوائجهم ، ليس أمامهم غير كنس ضريح الولي ولحس عتبته بألسنتهم طمعاً في شفاعة الولي، وفى رواية (لحس العتب) لخيري شلبي ، تيأس الأم من شفاء أبنيها المريضين بالاستسقاء، وبعد أن فشلت في علاجهما بكل حيل الطب الشعبي، وعجزت عن جمع بضعة جنيهات لعلاجهما عند طبيب المدينة،  تضعهما على حمار هزيل، وتدور بهما على كل أضرحة الأولياء ليلحسا عتبات الأضرحة، لعل وليا يشفع لهما فيحظيا بالشفاء.


وعموما فالعتبات  في الثقافة الشعبية هي رمز الخير، ومصدرا للتفاؤل بالبدايات الجديدة عادة  ، فالزواج الصالح عتبة، والدار الجديدة عتبة، والأرض المقدسة عتبة، ومن باب التفاؤل نقول للطفل الذي يبدأ خطواته الأولى على الأرض ( تاتا خطى العتبة ) وأشهر وأول ميادين القاهرة كان اسمه العتبة الخضراء من باب التيمن بنهضة مصرية وليدة، أما لحس العتب هنا فهو كناية عن الذل والتسليم بالأمر الواقع.


خيري شلبي وجه كل مشروعه الأدبي الكبير نحو الطبقة الشعبية، ثم أنه بدا أكثر من كتبوا عنها صدقاً ومعايشة ، فمعه نكتشف أن هذه الطبقة تجمع في ثقافتها تعددية زمنية ومكانية مدهشة، كما تجمع قدراً مثيراً من التناقض، غير أن هذا التناقض يثرى تفاصيلها، ويجعلها في جدل مستمر يجدد طاقتها ويمنحها دافعية الحياة، فعلينا ألا نندهش إذا وجدنا أطباق الفضائيات فوق أكواخ الطين البدائية، أو الهواتف المحمولة في أيدي الأجراء والصنايعية الجالسين على المقاهي بلا عمل يسألون الله في حق الدخان .


خيري شلبي عاش طفولة قاسية في الريف، ورحل إلى المدينة بحثاً عن لقمة العيش، عمل في مهن عديدة، واختلط بالطبقات الدنيا في قاع المدينة، حتى أنه سكن المقابر، لهذا جمع ببراعة بين ثقافة المدينة والقرية، وكان الأكثر قدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة في حيوات المهمشين، فإذا بها حياة شديدة الثراء والتعقيد ولاسيما في جذورها النفسية والثقافية المحتشدة بتناقضات غريبة، فهم  ـ مثلاً ـ لا يستغنون عن أي شيء، يراكمون الأشياء والمعارف والمهارات داخلهم، ويصنعون تاريخهم بمنمنمات تبدو زائدة عن الحاجة، أو مجرد كراكيب لم تعد ذات فائدة، لكنهم قادرون على صناعة واقعهم منها، فإذا به واقع ثرى ومركب، هذا الواقع الذي صوره ببراعة الفنان نور الشريف لشخصية عبد الغفور البرعي ( تاجر الخردة ) عن رواية إحسان عبد القدوس، لن أعيش في جلباب أبي.



 في رواية لحس العتب ، يتمحور السرد حول منضدة ( ترابيزة )  كانت ضمن أثاث عريق لأسرة ريفية ميسورة أخنى عليها الزمن وتكالبت الأيام، وبقى وريثها الوحيد يعيش يومه بيومه بعد أن  اضطر لبيع الأرض وأثاث الدار وصار ينام هو وأولاده على حصير من خوص، غير أنه أبقى على المنضدة وكأنها صرح قديم شاهد على عظمة التاريخ، بل صار يباهى بها محدثي النعمة والأثرياء الجدد في قريته، ويستمد مكانته بين الناس بأنة صاحب المنضدة العريقة العجيبة متقنة الصنع، تلك التي كل من رآها وقع في غرامها وتمنى لو امتلكها ، قبعت المنضدة لسنوات طويلة في زاوية مهملة من الدار، وشيئاً فشيئاً، تحولت إلى ساحة تتجمع فوقها وتحتها كل الأشياء القديمة التي لم تعد ذات نفع الآن ، لا أحد هنا يتخلص من الأشياء القديمة، فربما كانت لها عُوزة في يوم ما ، هكذا تعلمت الأسرة  أن لا تأمن الأيام وقسوة الحاجة ومهانة العوز، ضاعت ملامح المنضدة تحت الكراكيب التي غطتها، ولم يعد يظهر منها سوى قوائمها القوية الموشاة بالنحاس ، لتخبر الجميع، إن هذه الأسرة الفقيرة تمتلك ثروة غير معروضة للبيع .


بعد رحلة لحس عتبات الأضرحة التي خاضتها الأم بطفليها ، مات أحدهما  ، وأيقن رب الأسرة أنه لا مناص من زيارة طبيب المدينة ، هذا اقترح عليه أحد معارفه الميسورين الطامعين في امتلاك المنضدة ، بثمنها تنقذ حياة طفلك ، الآن أصبحت المعادلة أصعب ، لم تعد الكرامة في مقابل لقمة العيش ، بل في مقابل الحياة نفسها .


ذات صباح استيقظ الجميع على صوت انفجار ، مال الجدار الطيني القديم وانهار ، وانهار معه جانب من سقف الدار فوق المنضدة ، وعندما أخرجوها من تحت الأنقاض كانت محطمة ، وتحولت هي نفسها إلى خردة ، وانشغلت الأسرة عن طفلها المريض بإعادة بناء الجدار في طقس حزين يذكر بنكسة 67 ، ولأن البنّاء يعرف ظروف الأسرة ، اقترح أن يأخذ المنضدة ـ وعوضه على الله ـ مقابل بناء الجدار.


الرواية هكذا لا تصور حال أسرة فقيرة فقط ، ولكنها تجسد تاريخ مصر الحديث، وتحل لغز الشخصية المصرية التي مازالت تفاخر بأمجاد ماض لم يعد يغنى ولا يسمن من جوع ، لهذا ، فإن لحظة خروج المنضدة من الدار ، ذكرتني بلحظة وداع المصريين لجمال عبد الناصر ، ولست أعنى أن حياة عبد الناصر كانت خليطاً من الفقر والكبرياء كما كانت حياة كل المصريين في هذا الوقت،  تتمسك بالأشياء الزائدة عن الحاجة، لكنها على أي حال  كانت مليئة بالتفاصيل المثيرة حد الإرباك، هذه التفاصيل هي التي شكلت الهوية المصرية على غير مثال يتداخل فيها الحلو بالمر، والقديم بالجديد، والعابر بالمقيم.                  

 

 

Post a Comment

أحدث أقدم