( فيل أبيض وحيد)(*)
الناقد مبدعا
بقلم: سيد الوكيل
ويبدو لى أن المفارقة الفنية، تظهر كتقنية أصيلة، تعمل على كشف
مجموعة العلاقات الفكرية والشعورية السارية في النصوص، ومن ثم، فالقارئ لها، يجد
فيها من طابع السلاسة ما يعينه على فهم أبعادها ومراميها.
وفيل أبيض وحيد هى المجموعة القصصية
السابعة لكاتبها محمد حسن عبدالله ، وهو الأستاذ والناقد الأكاديمى ، الذى أثرى
المكتبة العربية بالعديد من البحوث والدراسات منها : ( الواقعية في الرواية العربية ـ الريف فى
الرواية العربية ـ إسلاميات نجيب محفوظ ـ الحب فى التراث العربى ـ الثراث فى رؤية
عصرية ـ الصورة والبناء الشعرى ... ) وغير ذلك من الدراسات والأبحاث فى النقد
والبلاغة والمسرح والتربية والدراسات الإسلامية . فلا غرابة، أن نجد فى قصص (فيل أبيض
وحيد) ملامح كاتبها، منها ما يمكن ملاحظته للعابر غير المتمهل، مثل هذا
التوازن الرهيف بين صوت الناقد الباحث بموضوعيته وعقله العلمي، وصوت الفنان المبدع
فى جنوحه المفرد.
وقد تجلي هذا في التوازن بين الطابعين، التحليلي للحدث والشخصيات
والتعبيرى الذاتي، حيث تتسم اللغة فى كثير من الأحيان بروح
المناجاة. أقرب إلى التحويم فوق الهدف
قبيل الانقضاض عليه. سنجد هذا عادة فى مفتتحات القصص، ممتزجاً بلغة شفافة، وجمل
قصيرة مكثفة، متناوبة بين والوصف والإخبار والإشارة إلى المتعين والذاتي معاً.
"ضوء رمادي يتماوج، مثل دخان السجائر ، يغلف أشياء الحجرة،
تضيع المعالم، لكنه يعرف مكان كل قطعة، شكلها ولونها، منذ كانت نظراته تميز
الألوان. له مع الساعة الخامسة رباط مقدس. منذ زمن لا يدرك امتداده"
المقتطع السابق، مفتتح/ مقدمة لقصة (الحصان)، ولسنا بإزاء مقدمة على النحو التقليدي، فالمقدمة التقليدية
كانت تتوجه إلى القارئ وكأنما تهيؤه، أو تتودد إليه، وكأنها تقليد يمكن الاستغناء عنه
من غير أن يخسر السرد شيئا من أبعاده الجمالية والدلالية، أما ما نعنيه بالمقدمة
هنا، فهو لا يتجاوز بطاقة تعريف تأتي فى لغة مكثفة، وجمل قصيرة، فثمة معالم لم تضع، هي جزء من
الذات التى تعاني انسحاباً بطيئاً من الحياة بفعل الشيخوخة، ومن ثم، تعمل على
المخزون الذاكراتى، وتستدعي الصور عبر طاقة حسية مفعمة بتحديدات شكلية ولونية
وسمعية. إن الحضور الفني للإدراك الحسي بالعالم هو مناط التجربة الجمالية لهذا
النص الرهيف، ومن ثم، فإن مفتتح النص، متورط بقوة ومنذ اللحظة الأولي فى التجربة
الجمالية، بل إن الجملة الأولي (ضوء رمادي --)بطاقتها البصرية، تفصح بوضوح عن طابع الإدراك
الحسى بالعالم، ذلك الذي يستنجد به رجل كهل، لم تعد تهمه حسابات
الزمن وحدوده، فالزمن – هنا – فى سيولة وتداخل شديدين ، حتى أن القارئ لا يمكنه
التعرف على حدود الأزمنة التى تتحرك فى النص، ولا غرابة في ذلك، فالراوي يسأل
نفسه(ولكن متى فتح هذا الكازينو الصاخب فى صميم المنطقة السكنية؟)، إن السؤال،
يضمر تحولات الواقع وتشوهاته، ولكنه فى نفس الوقت يظل علامة على فقد الإحساس
بالزمن إلا عبر الحواس، ومن ثم، فرغم اعتراضه على وجود كازينو في منطقة سكنية ،
إلا أنه لا يعرف كيف وجد نفسه فى حلبة الرقص داخل صالة الديسكو، فهذا
الجسد الكهل
يستعيد وعيه الحسي بالعالم " إذ يتحرك بخفة شاب رياضي أصبح من ذكرياته
الغابرة"
لقاعة الرقص بابان متقابلان، باب يدخل منه
الناس ثم سرعان ما يشرعون في تحريك أقدامهم وينهمكون في الرقص، وآخر يتسللون منه،
خارجين فرادي وقد تهدلت أجسادهم وباخت حيويتهم.
وبالتأكيد يمكن ملاحظة الأفق الرمزي لصالة الرقص، إنها الحياة،
حيث يأخذ كل نصيبه منها ويخرج. إن عبقرية التوظيف الرمزي هنا، أنه ينأي عن
المباشرة والإقحام، بل هو مستنبت من حقل التجربة السردية وعناصرها بقوة وفنية
بالغة.
إن قصة (الحصان) ، مفتتح هذه المجموعة، تمضي بنا إلى لحظة من
الصفاء النادر فى حياة الإنسان ، عندما يتأمل حياته كلها وهو زاهد فى غنائمها،
فيقف عند حدود اللحظات العابرة ويرتشف ما فيها من دفء وجمال، يجده فى لمسة حانية
من يد ابنته، الطبيبة الشابة، وهي تدثره فيتململ كطفل مدلل ، تثير لديه تذكارات
أخرى دافئة، تذكره بما سلف من حكاياته ، حول المائدة، فى السرير فى ليالي الشتاء،
حيث تتلاقى الأقدام الدافئة تحت اللحاف، على رمال الشاطئ تحت الشمسية.
ويمكن ملاحظة أن الاستدعاء الذاكرتي آلية حاكمة للنص كله، على
الرغم آنية الحدث، والتعبير بالفعل المضارع، قد يشير هذا إلى تداخل خطوط الزمن بين
الماضي والحاضر على نحو يتناسب مع كهل تداخلت لديه الرؤى والأفكار، ولكنه تداخل
أقرب إلى الكشف واهتداء البصيرة، إذ لم تعد، ثمة حدود زمنية ومنطقية تفصل بين
الأشياء، عندئذ تتسع الرؤية، وتقترب النفس إلى مزيج روحاني وصوفي، وتسهل الإجابة
على أسئلة كانت بلا إجابات واضحة فى الماضي .
كان الكهل لديه رغبة ظل يؤجلها كثيراً، أن ينزل
إلى صلاة الفجر فى المسجد، وأثناء عودته إلى بيته، انكشفت الرؤيا، إذ رأى حكمة
الوجود، رآها عين اليقين. فى الخامسة تماماً فى فجر كل يوم، وطوال خمسين عاماً،
كان يسمع دبيبا نشطاً لحصان، كان الصوت يلفت انتباهه لبعض الوقت لكنه – فى
انهماكات الحياة اليومية – لم يفكر أن يتبين أمر هذا الدبيب اليومي. أما الآن فقد
وجد نفسه فى مواجهة الحصان والعربة، وعلي مقدمتها يجلس شاب، وعندما يسأله الراوي ،
يجيب الشاب:
- بسيطة
يا والدي .. أنت تسمع الصوت من خمسين سنة كما قلت . من خمسين سنة كانت عربة غير
العربة، يركبها والدي، وتجرها فرس هي جدة هذا المهر.
إن حركة السرد وتقاطعاته فى هذا النص ، تمضي بين مجموعة من
المتقابلات مثل : الغياب والحضور- الشباب والشيوخة – الماضي والحاضر – الموت
والحياة ، بما يعني، أن بنية المفارقة هي محرك السرد.
ويمكن ملاحظة الدور المؤثر للمفارقات فى قصص المجموعة كلها، وهي
تمضي بالسرد بين لحظات إنسانية مفعمة بالشجن على نحو ما وجدنا فى هذه القصة، أو
بين لحظات مثيرة للأسئلة تحمل روحا نقدية ساخرة لمفارقات الواقع، على نحو ما نجد
فى قصة (موعد مع السفير) حيث تحتشد بالأفعال والممارسات التي تسقط على واقع تغيرت
فيه القيم، وأصبح دور المثقف أكثر هامشية وانزواء.
وتعكس قصة (الكابوس) درجة أخري من درجات المفارقات الساخرة، هذه
المرة فى قرية صغيرة، ولصبي اكتملت رجولته للتو عندما أمكنه استخراج بطاقة شخصية،
ومشي يلوح بها، فتقول له إحدى بنات القرية.
-
مبارك عليك "صرت رجلاً"
-
قال شكري ولا يزال يلوح بالبطاقة،
كأنما يجلب نسمة شاردة ، مع أن الجو كان فى أصيل يوم من بواكير الربيع!
-
أنا طول عمري راجل بابنت.
-
ضجت رفيقاتها بالضحك للخيالات المتوالدة
من عبارته...."
ويمضي الحوار على نحو كاشف لمعاني الرجولة بين مستويين، معني
معلن يلوح به وتدل عليه البطاقة، ومعني آخر ضمني وجوهري، هو المعني الذي يعتز به
الصبي القروي، ويعني اكتمال نضجه، والسيطرة على مقدراته ، غير أن هذا
المعني المضمر يتلقى طعنه فى الصميم ، وهنا تكمل المفارقة ، لقد تعرض
الصبي فى قسم الشرطة إلى الإهانة والضرب ولم يكن بوسعه رد الاعتبار ، إن المعني
السياسي والتربوي حاضر بقوة ، عن نظام يدرب ناشئيه على القهر منذ لحظات التفتح
الأولي، فالصبي الذي يتباهي برجولته أمام أبناء وبنات القرية، يعيش – فى
نفس الوقت- هزيمة داخلية، فبمجرد أن يدخل بيته ، ويرمي بجسده فى
حضن أمه ، يبكي ، عندئذ – فقط – يعترف بالهزيمة
والإهانة التى لقيها في قسم الشرطة عندما لطمة الشرطى وسبه بأمه. ولم يستطع رد
اعتباره فعاد إلى قريته مقهورا .
أما فى قصة فيل أبيض وحيد، فإن المفارقة تعلن عن نفسها بأكثر من
مستوي بما يشير إلى الثراء الدلالي لهذا النص. والحقيقة، أن النص كله ، مبني على
مفارقة كبري. لدينا رجل عاش جانبا من عمره مغترباً عن وطنه وحيداً جاب بلاد الله
طولاً عرضاً ، ثم ها هو يحنو إلى العودة ، والتماس الونس بين الأهل والأصدقاء القدامي،
لقد عاد محملاً بالشوق والهدايا إلي أصدقاء كانوا طوال الوقت فى مخيلته بنفس
ملامحهم القديمة، وطوال فترة الاغتراب كان يعايشهم فى ذاكرته ، ويحفظهم كما هم،
لكنه يكتشف أن كل شيئ قد تغير، وأن الأصدقاء القدامى ما عادوا بنفس ألفة وحميمية
الأيام الأولي.
والنص ، يلخص هذا المعني فى جملة دالة:"اكتشف أن المعايشة
عن بعد محض فكرة، أما الملامسة عن قرب فهي التفاعل والتكامل".
إنها جملة عميقة ، تستخلص تجربة حياة استسلمت للاغتراب، وتركت
الملامسات الحميمة تتسرب من بين يديها، وظني ، أن هذا النص، يحتوي على أكثر من
جملة حكمية على هذا النحو، وكأنما لا يكتفي بتجسيد خبرة الشخصية بل يمتد إلى خبرة
الكاتب، بوصفه مثقفاً خبر الحياة وتأملها وراح يستخلص معانيها.
إرسال تعليق